تقديم الحقيقة أن المشروع يعد في جزء كبير منه رائد في تبني سياسة جنائية حديثة زاوجت بين الخصوصية المغربية والانفتاح على التجارب المقارنة،لكن أي عمل إنساني شابه قصور من عدة أوجه غلب عليها الطابع المحافظ رغم الطابع الوضعي للقانون الجنائي منذ 1962 ، تحت ستار "الدين "أو "التقاليد والأخلاق " وشبه غياب للمقاربة الحقوقية الدولية ومرتكزات الدستور المغربي وطابعه المدني المحض على مستوى ضمان الحرية الشخصية وحرية العقيدة والحق في الحياة وغيرهما،فضلا عن سيطرة هاجس وكابوس الغرامات المالية التي أصبحت ظاهرة مفتشية في المسودة والتي سيترتب عنها إعادة إدخال أغلب المحكوم عليهم للسجن تحت مبرر الإكراه البدني،مما سيجعل من آثار الجريمة مورد مهم من موارد الدولة المالية . ومما لاشك فيه فإن تفحص مسودة مشروع القانون الجنائي ودراستها من زاوية مقتضيات الدستور المغربي والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان يمكن من إجراء مقاربة لإصلاح بعض النصوص: 1 -على مستوى العقوبات البديلة: -إلغاء حضور المحكوم عليه في الجلسة أو موافقته للحكم بها،لأن هذان الشرطان سيعصفان بأهمية هذه العقوبة كمتنفس طبيعي عن الاعتقال الاحتياطي ومخاطره فضلا عن أنه لا يتصور عمليا كيفية تنفيذ عرض المحكمة لأنها تتداول على حكم وليس مشروع حكم لأن طبيعة الأحكام أنها ناجزة لا معلقة ولا شرطية ولا مقترنة كما أن يمكن تقبل إجراءات تفاوضية جنائية عكس العقوبات الجنائية التفاوضية. 2- على مستوى التجنيح التشريعي نقترح تجنيح جريمة إضرام النار حينما تنصب على منقول أو عقار ولا يترتب عنها سوى أضرار بسيطة، لأن تاريخ هذه الجريمة يرتبط بسعي المستعمر الفرنسي إلى تشديد العقوبة على المقاومين ،وبحصول المغرب على استقلالية لم يكن هناك داع للإبقاء على هذا التشدد لزوال مبرراته وخلفياته ،لأنه لا يعقل أن يترتب عن إضرام نار بسيط عقوبات جنائية قاسية تصل للاعدام. كما نقترح في هذا المجال أيضا تجنيح جريمة عرقلة الطريق العمومية-الفصل 591من ق.ج - حينما تقع بشكل عارض وجزئيا وبمواد أو أشياء بسيطة ودون استعمال ناقلة ذات محرك، لأن نفس الأفعال قد تكيف في آن واحد جناية وقد تكيف مجرد مخالفة-الفصل608 البند 10من ق.ج ،وهكذا اعتبر القضاء أنه لقيام جناية الفصل : 591 من القانون الجنائي (عرقلة مرور الناقلات) يجب توفر القصد الخاص للفاعل أي أن تنصرف نيته لعرقلة مرور أي ناقلة بهدف التسبب في حادثة أو تعطيل المرور أو مضايقته. وأن تتم العرقلة أو المضايقة بطريق عام، ونظرا لكون مفهوم الطريق العام في جناية الفصل: 591 من القانون الجنائي هو الطريق المرقم والمقيد بمقتضى قرار إداري (قرار محكمة النقض عدد : 210 الصادر في: 19/02/1959 المنشور بمجلة القضاء والقانون عدد : 25 صفر الصفحة 27)، وبذلك يكون مفهوم الطريق العام في الفصل المذكور ليس هو مفهوم الطرق العمومية الواردة في الفصل 516 من القانون الجنائي المتعلق بالسرقات في الطرق العمومية ( الفصل : 508 من القانون الجنائي ). ولقد عاقب المشرع على السرقة في الطرق العمومية كالمسالك والممرات سواء في المناطق القروية أو الحضرية. ونظرا لكون الشرطين اللازمين لقيام جناية الفصل 591 من القانون الجنائي غير متوفرين في القضية موضوع المطالبة بإجراء تحقيق ولا يوجد أي شيء يدل على أن نية المتهمين الثلاثة انصرفت إلى عرقلة مرور أية ناقلة كما أن الطريق التي وقعت فيها الأحداث ليست محددة أو مرقمة بقرار إداري. 3-اقتراح تجريم عدم استعمال مسؤولي الإدارات والمؤسسات العمومية لللغة العربية والأمازيغية في الوثائق والمراسلات الصادرة عنهم لحماية اللغة الرسمية . 4-ربط التحرش المرتكب من خلال توجيه رسالة بالإمعان وأن يكون الفعل صادرا عن الغير لان الاطراف الذين تجمع بينهم محبة أو صداقة لا يعتبرون من الأغيار،ولا يعد الفعل مضايقة أو معاكسة أو إزعاج بالنسبة لهم بل ضرورة اجتماعية وحاجة للآخر ،فهذا سيعد انتهاكا لحرمة العلاقات الاجتماعية بين الجنسين التي لا يحظرها القانون ،واعتداء على الحرية الشخصية ،لاسيما وأن التحرش يعاقب عليه سواء ارتكب من طرف الذكر أو الانثى ،مما وجب معه إعادة صياغة الفقرة الثالثة عن طريق إضافة لفظ زميل أو زميلة طبقا لمبدأ المساواة في التجريم وعدم التمييز،مع إضافة عبارة "من وجه رسائل للغير عمدا ..."مع اقتراح ربط هذه الجريمة بالشكوى واعتبار التنازل عنها يضع حدا لكل متابعة. 5-رفع التجريم عن الإضراب في المادة 288 بالنظر لطابعه الدستوري والدولي ، لأن رفع الأجور أو خفضها يبقى مسألة مشروعة بخلاف الإضرار بحرية الصناعة أو العمل. 6-إلغاء عقوبة الإعدام باعتبارها مسألة مخالفة للدستور الناص على الحق في الحياة في الفصل 20 منه الذي يعتبر الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان. ويحمي القانون هذا الحق. فعقوبة الإعدام عقوبة همجية،وقاسية وغير إنسانية وتمس بالضمير الجمعي العالمي،فضلا عن أن الأخطاء القضائية يمكن أن تترسب إليها وتمس بحق الأبرياء في الحياة . 7-رفع التجريم عن الإفطار العلني في رمضان وزعزعة عقيدة مسلم لأنها تخالف الحق في حرية الاعتقاد كحق دستوري وطني ودولي،ولكونها تتضمن تمييزا نحو دين معين بذاته دون باقي الأديان فالقانون الجنائي يجب أن يعاقب على علاقة الإنسان بأخيه الإنسان أو بالدولة وليس علاقة الإنسان بربه التي تخضع لسريرته التي لا يحق لأحد إجراء بفحص مجهري عليها. 8-إعادة النظر في سلطة القاضي بشأن ظروف التخفيف وعدم تقييده بحدين للعقوبة ،والاقتصار فقط على أنه يمكن للمحكمة أن تقرر عقوبات جنحية في القضايا الجنائية كمبدأ عام ،لأن هناك بعض الجرائم تكون عقوبتها قاسية جدا لشخصية الفاعل أو لظروف الجريمة ويكون حتى استعمال ظروف التخفيف لا يسعف في عدالة العقوبة ،مما كان يترتب عنه تقض مجموعة من القرارات لعدم احترام الحد الأدنى لها. نفس الأمر ينطبق على إيقاف العقوبة الجنائية في حدود النصف. 9-إعادة النظر في مسألة الأعذار المخففة لأنها تشجع على ارتكاب الجريمة لاسيما وأن العديد منها لم يربط"المشرع"بالفجائية،لأن المعني بها لن يرتدع ولن يتراجع عن مخططه الإجرامي مادام أن القانون والقضاء سيكون رحيما به،فضلا عن أنه يشجع على العدالة الخاصة وشريعة الغاب عوض ترسيخ ثقافة اللجوء للقضاء باعتبار حق التشكي أو التقاضي مضمون دستوريا. 10-إعادة النظر في المنع النهائي من مزاولة الوظيفة والمهن وعقوبات الإغلاق لأنها عقوبات إضافية أو تدابير وقائية بحسب الحالة تقضي على حياة المعنيين بها وتعدم آمالهم في الكرامة والعيش ويقترح تحديد أمدها دوما ،لأن القانون يجب أن يحافظ على طابعه الإنساني وطابع الرحمة والاعتدال ويسمح بالعودة لحضن المجتمع بالتوبة والعفو. 11-إلغاء تدبير حجب المواقع الإلكترونية وتعويضه بحجب المقال المعني فقط أو في الأقصى إيقاف الموقع لأيام أو أسابيع محدودة على أن تقرر عقوبة الحجب فقط في الجرائم الإرهابية وجرائم المس بأمن الدولة الداخلي والخارجي بغاية حماية الحق في التعبير وضمان تداول المعلومة وحق الإعلام في الرقابة على سير المؤسسات. 11-فرض عقوبات جنحية حبسية على عرقلة حرية المزاد بالنظر لخطورتها على نظام شفافية وحرية المنافسة ومساسها بالاقتصاد الوطني وعدم الاكتفاء بالغرامة فقط وأني بالمشرع يشجع هذه الفئة من الاقتصاديين والماليين على الجريمة. 12-يتعين التنصيص كإضافة للمادة 34 من المسودة على أن "إذا صدر حكم بالبراءة وكان المحكوم عليه قد قضى مدة ما رهن الاعتقال الاحتياطي أو الاعتقال المؤقت، فإنه يحق للمحكمة أو لقاضي تنفيذ العقوبة أن يقرر احتساب هذه المدة ضمن تنفيذ عقوبات أخرى صدرت بحقه بشأن جرائم أخرى " لأنه لا يعقل أن يبدأ بتنفيذ عقوبات أخرى صادرة بحقه في الوقت الذي قد يكون سبق له تنفيذ عقوبة برئت المحكمة ساحته نهائيا منها ،لأن مبدأ استقلال الجرائم والعقوبات كان يمنع من تحويلها ،وهذا الاقتراح نابع من حالة عملية عرضت أمام محكمة الاستئناف بالقنيطرة رفضت غرفة المشورة إجراء عملية التحويل في التنفيذ قياسا على تحويل الحبس إلى غرامة المنصوص عليها في الفصل 34 من القانون الجنائي الحالي ،وهدا الاقتراح يتضمن حماية فعالة للحق في الحرية وتفادي الاعتقال التحكمي ، وقطعا لدابر لكل مسؤولية لمرفق القضاء قد تثار بهذه المناسبة. 13-يتعين إلغاء جريمة زعزعة ولاء المواطنين بالدولة أو بمؤسسات الشعب المغربي المنصوص عليها في المادة 206 لأنها جريمة عامة وفضفاضة لا حدود لوقائعها ولا لمضمونها وقد تقيد الحق في حرية التعبيروالحق في نقد المؤسسات لضمان حكامة جيدة لها تضمن شفافيتها وجودة أدائها وانسجام عملها مع قواعد القانون و المساواة والاستحقاق . 14-إلغاء بعض الجرائم الخيالية أو غير الواقعية لعدم مسايرتها لمستجدات الواقع كجريمة عدم إخطار السلطات عن العثور على كنز ولو في ملكه . 15-تجريم إهانة أي مواطن بمناسبة قضاء مصالحه الإدارية على غرار إهانة موظف أثناء مزاوله عمله تكريسا للمساواة وعدم التمييز وتخليقا للمرفق العمومي وشفافيته واحترام كرامة الأشخاص بصرف النظر عن كونه موظفين أو مستهلكين للخدمة الإدارية. 16-تشديد العقاب على العنف المترتب عنه تشوهات خلقية وجمالية ،واعتباره جناية تطبق عليه مقتضيات جناية إحداث عاهة مستديمة ،لأن ظاهرة التشرميل يتوجب التعاطي معها بنوع من التشديد لإيقاف نزيفها لاسيما أنها تستهدف التخويف والترويع . وفي الأخير بالنسبة لنا قضاة نشيد بتجريم مسودة مشروع القانون الجنائي لمسألة الامتناع غير المشروع عن تنفيذ الأحكام كمستجد أساسي ومهم بغرض المساهمة في تسريع وثيرة التنفيذ وإضفاء المصداقية والفعالية على تنفيذ الأحكام لزجر كل الممارسات التي تحقر الأحكام القضائية سواء أكانت صادرة عن الأشخاص أو الإدارات العمومية ،كما لا يفوتنا أيضا الإشادة بإقرار تجنيح تشريعي للعديد من الجرائم ،و تبني العقوبات البديلة عن العقوبات الحبسية كالشغل لفائدة المنفعة العامة والغرامة اليومية وتقييد بعض الحقوق وذلك لتفادي بعض الإشكاليات الناجمة عن تهديد الحرية بالاعتقال الاحتياطي. وهكذا تضمنت مسودة مشروع القانون الجنائي مستجدات إيجابية جدا هامة لاسيما على مستوى تنزيل النص الدستوري –الفصل 23 منه بتجريم الاختفاء القسري –م 231-9 والإبادة الجماعية –م 448-5 والجرائم ضد الإنسانية –م 448-7 وجرائم الحرب–م 448-10 ،كما تم تجريم الاتجار في البشر وتهريب المهاجرين،وتجريم التمييز والحث على الكراهية ،وازدراء الأديان لكن ذلك لا يمنع من القول أنها محاولة تشريعية أولية تحتاج لنضج كبير وهوية حقوقية واضحة تتسق مع التفسير المتنور للدين وأحكام الاتفاقيات الدولية حتى لا يتم إيقاف حملها أو إجهاضها. *نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالقنيطرة عضو مؤسس بنادي قضاة المغرب