إني لأكتب هذا المقال وأنا أتأسف لما أرى حولي من ظاهرة وصولية بئيسة انتشرت - حتى سادت- في أوساط التلاميذ والطلبة، ظاهرة استعمرت المدرسة والجامعة على حد سواء، وتكرست فيهما إبان الألفية الثالثة بشكل رهيب، هي ظاهرة ساعدت على تكريسها وإدماجها عوامل التنشئة الإجتماعية، حتى غدت ثقافة مجتمع، فألفناها وطبعنا معها بل وأصبحنا كلنا نشجع عليها، أساتذة وأسر ومجتمع... ولامن يستنكر على الرغم من سلبياتها وخطورتها، يتعلق الأمر بما يمكن أن نصطلح عليه: ظاهرة الدراسة من أجل الشهادة ولاشيء غير الشهادة، أو بتعبير آخر جعل الشهادة والدبلوم غاية، أما الدراسة والعلم فمجرد وسيلة مرحلية، بل الأدهى أن تكون الغاية(الشهادة) تبرر الوسيلة (كيفما كانت) فما نتائج تبني هذه الثقافة خصوصا في مجال العلوم الإنسانية؟ بادئ ذي بدء، لابد من الإشارة إلى أن مصطلح ثقافة هنا يأتي بمعنى ما هو مكتسب من سلوكات المجتمع التي تلقاها عبر التعلم والاكتساب مقابل ماهو طبيعي وفطري وثابت. واعتبرنا "الدراسة من أجل الشهادة" ثقافة، لكونها توفرت على معيار "القاعدة" الذي يعتبره الأنثروبولوجي "ك.ل. ستراوس C.L. Strauss" في كتابه "البنى الأولية للقرابة" مبدأ منهجي متى توفر نكون إذاك على صعيد الثقافة. عندما نعود إلى قدماء العلماء والمفكرين والفلاسفة، نجد الواحد منهم أحيانا موسوعة في حد ذاته، وعندما نحاول البحث عن الأسباب، سرعان ما نلحظ مجموعة فوارق تحول بيننا وبين المستوى الذي كانوا عليه، والظروف والسياق مختلفين تماما. ورغم أنه لايجوز أن نقارن مالا يقارن فمن بين ماتفوقوا به علينا: أنهم لم يكونوا معنيين البتة بالشواهد والدبلومات بقدر ماكانوا معنيين بالمعرفة وسبر أغوار الظواهر العلمية، خصوصا إبان الحضارة اليونانية وماسبقها وماتلاها من حضارات أنجبت أفواجا من العلماء العظماء كانوا ولا يزالون مراجع لشتى التخصصات - رغم تطورها- علماء كان شغلهم الشاغل التحصيل العلمي والعلمي فقط. أما اليوم فنلاحظ أن جل (لانعمم) من ينتمي لهذا العصر، لا يهمه شيء بقدر ماتهمه الشهادة (شهادة البكالوريا، شهادة الإجازة..) واللقب (دكتور، مهندس) والمؤسف أن هذا النمط من السلوك أصبح طاغيا، بل أصبح هو القاعدة في المجتمع وغيره نشاز، لكن الخطير في الأمر هو أنه يؤدي العلم أدى كبيرا بل ويؤدي الشهادة/ الدرجة العلمية نفسها، كيف ؟ عندما تكون نهاية "la finalité " وغاية التلميذ أو الطالب هي الخروج بشهادة تثبت كفاءته ورقيا لا واقعيا وفعليا، سوف لا يكترث إذاك إلا للإمتحانات الإشهادية التي ستكمنه من نيل مبتغاه وبالتالي تصبح ثقافته ورصيده المعرفي ليس شيء آخر سوى أسئلة الامتحان وفي تلك المرحلة المؤقتة (وقت الامتحان) فقط، فتغدو صلاحية ثقافته محدودة الأفق، قصيرة الأمد ومهددة بالانتهاء مباشرة بعد الإمتحان وهو مايمكن تشبيهه بالة التصوير ذات الاستعمال الواحد "une culture jetable"، حتى إذا تحدث أو ناقش موضوع معين بعد تلك الفترة، تجده أقرب إلى الضعف، فيتذرع بحجة المراجعة.. بينما المشكل أكبر من ذلك، المشكل أنه دخل المدرسة أصلا بتلك الغاية فهيأ عقله الباطني ومجهوداته طيلة السنة من أجل الامتحان لا غير. هنا يتأدى العلم وتتضرر المعرفة ولانجد من يحمل في داخله قلقا علميا "un souci scientifique " فيضيع العلم بسبب طلاب لايهمهم سوى الامتحان، والشهادة أسمى غاياتهم، طلاب لايهمهم العلم وإنما الشهادة العلمية وبكل الطرق، وهذا شيء يجب استنكاره وإعادة التفكير فيه بشكل جماعي، خصوصا عندما نتمعن النتائج الوخيمة لهكذا ثقافة، فنجد على سبيل المثال لا الحصر: تلميذ حاصل على البكالوريا بامتياز ولا يعرف تركيب جمل مفيدة شفويا ولاكتابة، وطالب مجاز يُسأل في تخصصه فيُجيب لم ندرسه أو يهرب من الحوار الذي يخاف أن يعري مستواه، و طالب حاصل على الماستر ويفتقر لأبسط مبادئ التحليل ولا يعرف عن المناهج العلمية إلا الخير والإحسان، والأدهى والأمر هو عندما تسمع لبعض من ساعدتهم الأيام والمعارف على الحصول على شهادة الدكتوراه (أقول شهادة وليس درجة) فتبدو ثقافته شديدة الفقر والسطحية ورصيده المعرفي شديد الضعف، أما منهجيا فيبدو أقرب إلى التائه الضال وسط ما يقول فيقذف بالمصطلحات والمفاهيم يمينا وشمالا، هنا تتساءل كيف حصل على الدكتوراه وما الجدوى من مسيرة أكاديمية إن لم تصقل فيه كفايات ومهارات معرفية ومنهجية ولغوية وتواصلية.. ؟؟ خلاصة القول إذن هي أننا مدعوون جميعا للتفكير جديا في منظومتنا التربوية، ومحاربة بعض الظواهر الدخيلة ومنها ظاهرة الدراسة من أجل الشهادة، فليست الشهادة في نظري هي أسمى الغايات وأغلى الأمنيات بل هناك ماهو أهم، خصوصا عندما ترى عددا كبيرا من الحاصلين عليها ليسوا أهلا لها. أحببت أن أختم بمثال، حيث كان لي صديق في الكلية يدرس علم الإجتماع، وكنت كلما سألته ماذا قرأت، (على أساس أنها شعبة تحتاج عدد مهم من المراجع ويصعب أن تتكلم عن نظرية لعالم اجتماع دون أن تكون قرأتها في كتابه أو على الأقل قرأت أحد كتبه) يصارحني قائلا: » لاشيء « فأسأله كيف ستتحدث عن شيء أنت لم تقرأ عنه؟ يقول لي » أعتزم ذلك بعد اجتياز الامتحانات.. في فترة العطلة الصيفية..السنة القادمة.. بعد الحصول على الدوك.. « وبقي على هذه الحال حتى حصل على الإجازة فسألته ممازحا: أظن أنك كنت مضطرا –رغما عنك- لقراءة بعض الكتب خصوصا إبان بحث التخرج؟ أجابني:» سأكون معك صريح أيها الرفيق: لم أقرأ قط أي كتاب وكنت عندما تقترب فترة الامتحانات ألجأ لتصوير بعض التلاخيص وأقرأ شذرات على الأنترنيت لاغير والمشكل أني كلما أجَلت هذه العملية إلى وقت لاحق يظهر أن عملية التأجيل تعاود نفسها عودا أبديا، لذلك أصبح شعاري " بداية القراءة هو نهاية الدراسة "، المهم دابا هو شي دكتوراه « . انتهى.