لمحة سريعة حول المشروع الفكري لبيير بورديو يعتبر السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو، من السوسيولوجين المعاصرين الذين أثاروا جدلا واسعا في الأوساط الأكاديمية والمعرفية العالمية عموما والفرنسية خصوصا، وذلك انطلاقا من مشروعه الفكري الذي شيده رفقة صديقه "جون كلود باسرون"، ومشروعه الفكري هذا ينطوي ضمن رؤية "علاقة السلطة بالمعرفة"، وليس السلطة باعتبارها مجسدة في هياكل اقتصادية وفي دواليب إدارية، بل باعتبارها/ السلطة؛ تخترق كل مفاصل المجتمع، وتتجلى عبر كل حقوله وميادينه، وهذا ما عبر عنه بورديو بقوله: "إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما، وإنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة. ونجد أن كل بنية العالم الاجتماعي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار من أجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة"، بلغة أخرى لا يمكن فهم المشروع الفكري لبورديو "إلا عبر إعطاء المنظومات الرمزية أهمية خاصة"، لأن رهان دراسة النسق التربوي عنده، مرتبط بهاجس دراسة السلطة الرمزية والكشف عنها، مادامت هذه السلطة تلجأ الى التورية والاختفاء، ذلك ما عبر عنه ب" إن السلطة الرمزية هي سلطة لامرئية، ولا يمكن أن تمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها، بل ويمارسونها". هذا هوا الاطار العام الذي تنتظم ضمنه سوسيولوجية التربية عند بورديو، وسنحاول الآن أن نقترب أكثر من هذه الرؤية السوسيولوجية للنسق التربوي، وذلك من خلال عرضنا لمحتويات كتاب "الورثة Les Heritiers". منهجية الدراسة: هدفها وإشكالياتها وفرضياتها ومفاهيمها الصريحة هدف الدراسة: كما هو معلوم أن كل دراسة لها هدف منشود، يعمل الباحث جاهدا لتحقيقه، وهذا ما عبر عنه بورديو في مقدمة الكتاب بقوله: "كان أحد أهداف عملي ولا يزال يتمثل في معالجة الظواهر الرمزية ضمن منظور مادي"، بمعنى بورديو كان يريد التوفيق بين "المادية الماركسية" والروحانية الفيبيرية"؛ أي الكشف عن السلطة الرمزية وراء السلطة المادية، وكشف الخفي وراء الظاهر، والعميق وراء البسيط... إشكالية الدراسة: عبر عنها بشكل وجيز، لكنه عميق الدلالة، وهي كالتالي "كيف يمكن لثقافة العامة أن تؤثر على مردودية التكوين المدرسي؟ فرضية الدراسة: يفترض بورديو "أن وظيفة الجامعة (أو المدرسة بصفة أعم) هي منح الفرصة للمحظوظين وغبن المغبونين". المفاهيم الصريحة: أقصد بالمفاهيم الصريحة، هي تلك المفاهيم التي يتكون منها عنوان الكتاب" الورثة: الطلبة والثقافة"، وأشير الى أن تحديدات هذه المفاهيم هي ما فهمته واستنتجته شخصيا من مضمون الكتاب. الورثة: نسأل من ورث وماذا ورث؟ الورثة الذين يتحدث عنهم بورديو هم أبناء الجمهورية الخامسة( يعني فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحكم الرئيس دوكول)، أما فيما يخص سؤال الثاني/ ماذا ورثوا، فإنهم ورثوا الحرية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، المساواة والاخاء...لهذا جاء الكتاب بهذا العنوان لتنبيه الشعب الفرنسي لصيانة هذه الامتيازات الذي بدأ النظام الرأسمالي الفرنسي بالاجهاز عليها في تلك الفترة التاريخية، بلغة أخرى دور الكتاب كان تحريضي لتحصين تلك المكتسبات التي ورثها الشعب الفرنسي من الثورة السياسية، وذلك يتجلى بوضوح في الانتفاضة الطلابية لسنة 1968. الطلبة: جمع طالب، والطالب هو كل شخص أو فرد حاصل على شهادة البكالوريا ومسجل في إحدى الجامعات العمومية أو الخصوصية أو في أحد مراكز البحث والتدريس والتكوين. الثقافة: بورديو في تحديده لمفهوم الثقافة لم يخرج عن التحديد العام للمعنى الأنتربولوجي، الذي أعطاه تايلور لمفهوم الثقافة، باعتبارها ذلك الكل المركب من العادات والتقاليد والأعراف والعقائد والقوانين...الذي يكتسبها الفرد باعتباره عضوا في مجتمع ما. علاقة الطلبة بالمدرسة والثقافة للإجابة عن إشكالية الدراسة، والتحقق من فرضياتها، إعتمدا "بورديو وباسرون" على مجموعة من البيانات والأرقام والجداول المرفقة بالكتاب عن نسب أبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة في التعليم العالي. حيث لا تتعدى نسبة أبناء العمال 6 في المائة من مجموع طلاب التعليم العالي، وانطلاقا من هذه النسبة المئوية يتبين لنا –حسب بورديو- "أن المدرسة تخدم نظام التفاوت وتكرس الفوارق الاجتماعية، في الوقت الذي كان عليها/ المدرسة أن تحاربه"، وهكذا فالأصول الاجتماعية في اعتقاد بورديو هي أهم محدد يتحكم في تجربة الطلبة، بل وفي شروط وجودهم كذلك، ويكشف أيضا " على أن أبناء فئات محدودة (وهي الفئات المحظوظة عموما) هم الذين يتمكنون من نسج علاقة متينة مع السوق الثقافية والانتاج الثقافي، وذلك بيسر كبير، حتى دون أن يكونوا يقصدون ذلك، فهم وبحكم العادات والسلوكات التي تنضبط لها عائلاتهم، يجدون أنفسهم ومنذ نعومة أظافرهم يزورون المتاحف وينصتون للموسيقى الراقية بمختلف ألوانها، ويقرؤون ما طاب لهم من الكتب مستفيدين من مكتبة العائلة المتوارثة في أغلب الأحيان...كما يرثون من وسطهم الأصلي: عادات ومواقف تنفعهم في واجباتهم المدرسية، فضلا عن معارف ومهارات وأذواق "ذوق الراقي"، لا يمكن أن ننكر مردودية كل ذلك على المستوى المدرسي، أما أبناء الطبقات الدنيا، فالمدخل الوحيد لديهم الى ملكوت الثقافة هي المدرسة، هذه المدرسة التي كان بإمكانها أن تكون فعالة لدمقرطة الثقافة، عن طريق تجاهلها، ولو لم تكن تنتقص من قيمة الثقافة المدرسية، اي الثقافة التي تمنحها هي نفسها، وذلك لصالح الثقافة الموروثة. يؤكد صاحبي الكتاب: "أن الثقافة المدرسية حتى داخل مجالها الذي هو القسم، تبخس حقها وتمجد الثقافة العامة. ومن هنا ذلك التقابل بين "التلميذ المجد" وبين "التلميذ الموهوب اللامع": فالأول هو المتقيد ببرامج المدرسة ومعاييرها، والثاني هو الذي وإن كان ينفلت ويتجاوز البرامج المدرسية ولا يأبه بها، فإنه لبق وفصيح وذو معارف واسعة. وبديهي أن الثاني/ الموهوب اللامع هو محل الثناء والاعجاب، في حين أن الأول/ التلميذ المجد- في أحسن الأحوال – هو الرضى. هكذا، يجد ابن العامل وابن الفلاح الذي لم يغادر بلدته الصغيرة قط، يجد نفسه يواجه نفس الامتحان أو التقييم الذي يواجهه ابن البرجوازي أو الإطار، فهذا الأخير سيتحدث عن الثقافة اليونانية مثلا وهو قد زار صالات العرض، والمتاحف وشاهد مسرحية "سوفوكليس"، ولربما قد زار اليونان وشاهد بأم عينيه مآثر الإغريق وبصمات حضارتهم، إنه سيتحدث عن شيء قد استأنس به، في نفس الوقت الذي سيكون فيه على ابن الكادح أن يجد نفسه من أجل تخيل ساحة "الآغورا" أو ما قرأه في البرنامج الدراسي، وهكذا نفهم من خلال كتاب الورثة أن التلميذ الموهوب اللامع حتما هو الذي سيتفوق في الامتحان وهو من سيحصل على أعلى نقطة ويتصدر الترتيب، وهذا الترتيب هو الذي سيؤهله إلى الحصول على وظيفة مرموقة، في حين التلميذ المجد سيحصل -في أحسن الأحوال- على وظيفة أقل من الوظيفة الذي حصل عليها التلميذ الموهوب اللامع، وهكذا فالأول سيعيد انتاج نفس الطبقة الاجتماعية لأبويه وكذلك الثاني، وهكذا فالمدرسة تساهم في إعادة إنتاج نفس الطبقات الاجتماعية، وهذا ما سنراه بالتفصيل مع الكتاب الموالي "إعادة الإنتاج".