الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تهافت صاحب القراءة المتهافتة
نشر في هسبريس يوم 24 - 05 - 2015

إن الشباب المسلم يتعرض لسيل جارف من الشبهات المشككة في دينه أو مذهبه، وهي شبهات مستندة إلى روايات مذكورة في مصادر الحديث، وبعضها فيما أعطي العصمة والبراءة المطلقة كصحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله.
فما العمل؟ هل نبرر فنؤكد الشكوك لدى الشباب والمثقفين الذين لم يعودوا يصدقون رجال الدين؟ أم ننكر وجود تلك الروايات كما يفعل المتعنتون، فيكفر الشباب بالدين والمذهب ويتمردون؟ أم نعيد النظر في تلك الروايات على ضوء كتاب ربنا وسنة نبينا السليمة والمعايير العقلية القويمة؟
إننا لا نهدف للطعن في الصحيحين، ولا نتوخى التشكيك في مجمل الأحاديث، بل ندعو لمراجعة أسانيد ومتون الروايات التي تسبب المشاكل النفسية والحيرة الذهنية والظلمة القلبية لدى شباب ومثقفي أمتنا المرضية.
ونحن نعتقد أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع والمعرفة الإسلامية، ونتبنى صحة معظم أحاديث كتابي البخاري ومسلم، ونرى الطعن في الشيخين أو رفض أحاديثهما بالجملة غلطا فاحشا وانحرافا عميقا في التصور.
وإذا كان بعض الناس يجعلون تضعيف قليل من الروايات الموجودة في الصحيحين حماية للآلاف الباقيات، مستلزما للطعن والقدح في الإمامين الكبيرين رضي الله عنهما، فتلك عاهة لا طب لها.
إنهم لا يفهمون، أو لا يريدون الفهم، أن الطعن في بعض روايات الشيخين لا يقتضي القدح في الشخصين ولا في الكتابين.
فقولنا: البخاري ومسلم إمامان كبيران، قدما للأمة خدمة عظيمة عبر الصحيحين، لا يتعارض وقولنا: إن الشيخين جانبا الصواب بروايتهما بعض الأخبار المنكرة.
لماذا نثير هذه القضايا في الإعلام؟
عندما نثير هذه الموضوعات، فإنما نفعل تحصينا للشباب غير الراسخين في علوم الشريعة، ولأن هذه المسائل رائجة في القنوات والمواقع المختصة في مهاجمة الإسلام أو مذهب السنة الذي نتشرف بالانتماء إليه من غير غلو ولا علو.
والذين يعيبون علينا إثارة هذه القضايا، إما أنهم جاهلون بالواقع والهجمة الشرسة على عقول الشباب المسلم، أو أنهم مفرطون في العناد النابع من الإيغال في تقديس الشيخين أو رواة الأحاديث والأخبار.
ولسنا مستعدين لسماع صوت الغافل، بل نحاول إيقاظه بخلخلة عقله، ولسنا بصدد التهيب من ضجيج الجاحد، بل نناضل لنزعزع أوهامه المتراكمة على غير بصيرة.
وعندما نشرنا موضوع: "تنقيح صحيحي البخاري ومسلم ضرورة شرعية"، قابلنا بعض الطيبين بالرفض المطلق، وادعاء خلو الكتابين مما يستدعي المراجعة والنقد.
ثم لما صدمناهم بخرافة الانتحار المخرجة في صحيح البخاري تراجعوا خطوة، وانقسموا إلى أصناف بعضها لا يستحق المناقشة والاحترام لأنهم أهل سباب أو "إرهاب فكري"، وصنفان يستحقان المجاوبة وهما:
الصنف الأول: أقر بضعف أكذوبة الانتحار، لكنه دافع عن رواية الإمام البخاري لها، وتعالم بعضهم علينا فأفادونا أن أحاديث البخاري تنقسم إلى أصول مسندة كلها صحيح، ومعلقات أو بلاغات فيها الضعيف والمليح.
ونقول لهذا الفوج المحترم:
أولا: سبقتكم في مقال: "تنقيح الصحيحين" لذكر أقسام المرويات عند البخاري، وهي أصول وشواهد ومعلقات، فلا تتعالموا علينا لأنكم لا تعرفون إلا النوعين الأول والثالث.
ثانيا: كان بعضكم ينفي وجود الروايات المنكرة والمكذوبة في الصحيحين من غير تفرقة بين الأصول والمعلقات، ثم صرتم تقرون بوجودها في القسم الثاني، وهذا حسن لولا أنكم كنتم تصمتون عن الحق.
ثالثا: إذا كانت الأكذوبة ضعيفة لأنها غير متصلة، فلماذا ألحقها الإمام بحديث مولاتنا عائشة رغم عدم الحاجة لذكرها، ورغم احتمال اغترار الناس بروايتها في الصحيح؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن تشتغلوا بالجواب عليه، وقد رجحت في مقالي أن البخاري يصدقها ولا يستغربها اغترارا برواية الزهري لها، وأضيف هنا أنه رواها عنه بصيغة الجزم، وأسندها إليه عن شيوخه، ولم يشر لضعفها كما فعل بخصوص بعض المعلقات، فلا تدلسوا على القراء بزعمكم أنه صرح بضعفها أو أشار.
وإذا كان صرح أو أشار، فلماذا اغتر إمام كبير كالحافظ الذهبي فذكرها على أنها صحيحة متصلة؟
واستبشع أحد "الكتبة" قولي: إن الحافظ الذهبي أعمته جلالة الصحيح فظن الرواية متصلة صحيحة، وجعل ذلك قدحا مني في الحافظ، وهو تأويل متعسف وفهم منحرف متكلف.
وهل يا صديقي يتلازم عندك انتقاد جزئية صدرت عن إمام حافظ والتوهين من شأنه والحط من قدره؟
إنكم لم تتعودوا على قبول نقد الكبار، أو تستبعدون صدور الأخطاء منهم، لذلك تربطون بين النقد العلمي والإهانة.
وإذا كان الكاتب لا يدري أن هيبة الجامع الصحيح حالت دون جهر الحفاظ بمكنون قلوبهم، فأنا أذكر له أنموذجا من كلام الحافظ الذهبي نفسه ليتعلم ويفهم مبادئ كلامنا:
قال الذهبي في كتاب "ميزان الاعتدال" 2/425 عن "حديث الولي" الذي خرجه البخاري في صحيحه من طريق شيخه خالد بن مخلد: فهذا حديث غريب جدا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن خالد، وذلك لغرابة لفظه ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد، وقد اختلف في عطاء فقيل هو ابن أبي رباح، والصحيح أنه عطاء بن يسار. ه
فما رأيك يا صديقي الآن؟
حديث اجتمعت فيه كل تلك العلل عند الذهبي، والمعايير العلمية تقضي باستنكاره، لكن الحافظ يحجم ويتردد بسبب "هيبة الجامع الصحيح".
وأفيدك أن نفيه الظني وجود الحديث في المسند غلط آخر وتسرع، فالحديث أخرجه الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فخذ كلمتي "الغلط" و"التسرع" واستنتج منهما القدح في الذهبي الذي هو في معتقدنا أعلم المحدثين بالتراجم والرجال، لكنه مع ذلك يخطئ وينسى، فنقبل كثير صوابه، ونرفض يسير أوهامه.
الصنف الثاني: اعترف بضعف الرواية، لكنه استنكر إثارة الموضوع في الإعلام الإلكتروني بحجة الخوف على الدين والسنة النبوية، ولهذا القسم أقول:
أولا: هذا الموضوع شائع في الإعلام المهاجم للدين أو الطائفة، لذلك أدلي برأيي فيه لإنقاذ بعض الشباب الذين قد يرون في طرحي متنفسا ومرشدا، خلافا للمبررين أو المنكرين الذين يزيدون الطين بلة.
ثانيا: لا خوف على الدين إلا من العناد، ولا خشية على السنة الشريفة إلا من تمرير الروايات المنكرات، وتبرير أخطاء العلماء السادات، وتقديس الصحيحين مع كتاب رب العباد.
ثالثا: المنتديات المتخصصة، كالجامعات والمراكز، تحرم فتح موضوع الروايات المعلولة في الصحيحين، وتجرم من يخالف التيار السائد، وتجتهد في التضييق على الباحثين الجريئين وإقصائهم، ولا تقبل شعبنا الدينية تسجيل أي بحث يتصل بنقد أو مراجعة الصحيحين، وأكثر من ذلك، فإن المتخصصين يعتبرون أدنى كلام في متون أو رجال الصحيحين زندقة وخروجا من الدين والمذهب، فكيف تقترحون علينا طرح هذه المواضيع في السجون والقبور الفكرية؟
وإن كذبتم، فالدافع الذي جعلنا نخوض هذه الموضوعات علنا، هو ذلك الكلام الخطير الصادر عن رجل عظيم في قلوبنا، حبيب محترم لدينا، وفي هسبريس نفسها لا في المنتديات الخاصة، فقال حفظه الله في حوار: "صحيح البخاري" نواة للسنة ودعامة لاستقرار المسلمين" عن منتقدي الصحيحين: ( لقد سرى هذا التشويش إلى طوائف أخرى من الحداثيين الذين رددوا شبهات المستشرقين، وطعنوا في بعض أحاديث البخاري بتحامل بَيِّن لا يستند إلى علم صحيح، ولا إلى نقد وجيه. وتسند هذه الطعون في مجملها إما إلى معتقدات مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة، وإما إلى اتجاهات فكرية بعيدة عن هوية الأمة).
قلت: إن كلام أستاذنا الفاضل والله، لا مداهنة وتقية، يعني بشكل صريح أن الذين يطعنون في (بعض أحاديث البخاري) متحاملون لا غير، وأنهم لا ينتمون لأهل السنة والجماعة، وأن هويتهم مناقضة لهوية الأمة، وهو كلام يتضمن التبديع والتكفير، وما أظن أستاذنا يقصده.
وإن هذا الكلام يهدد استقرار الوطن، ويعين الشيطان على الإخوة فيه وفي الدين، ويباعد بين المثقفين والمتفقهين، ويحرض الحمقى والمغفلين.
ولو قيل في حق من يطعنون في القرآن لقبلناه، أما أن يقال فيمن يشك في أخبار آحادية مروية بالمعنى، دون تفرقة بين القادحين عن علم وإخلاص في حماية العقائد والثوابت الإسلامية، وهم كثير، وبين المخالفين في المذهب وهم معذورون، وبين الأعداء المتربصين، وهم في المغرب غير موجودين، فلا بد أن يستنهض أصوات المعتدلين.
إن المتخصصين هم الذين أخرجوا المعركة إلى الإعلام العمومي، فعليهم أن يتحملوا المسئولية كاملة، حيث وجدنا في المعلقين على حوارهم من يعلن كفره بصحيح البخاري جملة وتفصيلا، ويوغل في الحط من الإمام رضي الله عنه إيغالا.
وعليهم أن يتقبلوا معارضتنا الشديدة للقدح في علم وإيمان الناقمين على بعض أحاديث الشيخين، وأن يعيدوا النظر في رؤيتهم للقضية، وأن يروا تصرفنا عين الوسطية، فنحن ندعو المتخصصين للتخفيف من حدة تقديس اجتهاد الرجال على حساب المبادئ، حتى لا يصدر عنهم مثل ذلك الكلام الذي يهتز منه عرش الرحمن، ونحاول بمنهجنا إقناع الرافضين للصحيحين بأن وجود الروايات الضعيفة والمنكرة لا يبيح لهم الإعراض الكلي عن أحاديثهما، ولا يبرر الهجوم العنيف على الإمامين رضي الله عنهما.
ومن حقنا أن نسأل المتخصصين: لماذا أخرجتم الموضوع إلى العامة ثم تنكرون علينا التأسي بكم؟ أم يجوز لكم ما يحرم علينا لأنكم تمتلكون وصاية على عقول الأمة وقلوبها بتفويض إلهي؟ أم أننا لا نستحق طرق ما تتقنون؟
ثم لماذا ترفضون طرح تلك القضايا في الإعلام إن كنتم واثقين من قوة مواقفكم واختياراتكم؟ ألا يدل انزعاجكم وانفعالكم على هشاشة آرائكم؟
يطرح مخالفكم رأيه، ثم تدحضونه عبر الحجة النقلية أو البراهين العقلية، فيزداد الناس اطمئنانا لتوجهاتكم، وينخنس معارضكم مهزوما. أليس هذا هو المنهج الذي تزعمون أنكم أهله؟
وهنا أضحكني ذلك الكاتب حيث ذكر كتاب حجة الإسلام: "إلجام العوام عن علم الكلام"، قاصدا وصفي بأنني عامي لا أستحق أن أخوض في قضايا شائكة لا يحسنها إلا من وصفهم بالقناعيس، أي العظام.
ونسي المسكين أنه ليس "قنعاسا"، فكان عليه أن يلجم فاه بالخطام، لأن الخوض في "الكلام" ليس من حق العوام، ونسي أيضا أن "القناعيس"، حسب تصوره، قد انقرضوا منذ زمان، فلا يوجد منهم أحد.
وإذا كان شيوخه المتخصصون "قناعيس"، فنحن بفضل الله وكرمه لسنا أقل منهم شأنا.
ثم إن قراء هسبريس وغيرها ليسو من العوام كما تتصور يا صديقي، ونظرتكم العمياء احتقار لعقول الناس واستعلاء عليهم في زمن فشو العلم، بل في القراء من يفوقك ومشايخك "القناعيس" ذكاء وعلما ورسوخا في الدين، لكنكم قوم تستكبرون.
والقضايا الشائكة على المتقدمين، لم تعد خاصة بالمتنورين أمثالكم، بل يدركها المبتدئ قبل المقتصد، لكنكم قوم تجهلون.
ألا وإن العقل البشري تطور عما كان عليه زمن الحفاظ والمجتهدين بشكل هائل، بفضل الكشوفات العلمية وارتفاع سحابة الأمية، حتى أصبح المثقف العادي يميز بين الحديث المقبول، والخبر المرذول، بالفطرة وبدائه العقول.
واقرأ، إن عسر عليك الفهم، قول الله تعالى: (سَنُرِيهِم ءايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
إن هذه الآية تصرح بأن العقل البشري سيزداد، بين عصر النبوة والقيامة، فطنة ونباهة بحيث تتكشف له حقائق القرآن كأنها الشمس.
وتشير الآية إلى أن ذلك الفتح الرباني مشروط بدراسة الآفاق والغوص في أعماق النفس البشرية، وهو مستوى معرفي لم يشم الفقهاء والمحدثون رضي الله عنهم رائحته.
إنه عصرنا وما بعده أيها العقلاء، ستكون البشرية أذكى وأعلم من الذين مضوا، وستفهم كلام ربها وسنة نبينا بسهولة حرموها، وسيظل الجامدون المتعصبون للماضي التليد بإسرائيلياته وتخرصاته، المعرضون عن أنوار العلم وكشوفاته، أغبى الناس ولو حشوا صدورهم بمئات آلاف المتون والأقوال، حاشا كتاب الله المحكم وسنة النبي المعظم.
أيها المحترمون، لقد جاء عصر المتنورين، يضغطون على الزر فتتجلى مرويات الأولين، وأقوال جميع المرحومين، ثم يسلطون عليها عقلهم الجبار، فيقبلون الصائب المختار، ويطرحون العائب المعثار.
التحريف والبتر عاهة مصدرها الجهل والتعصب أو قلة الدين:
صاحب القراءة المتهافتة واحد من الذين يسيئون الفهم ويحرفون القول، ويبترونه من السياق لتشويه أفكاري والتشنيع علي بما لم أقل، وهذه بعض الأمثلة:
أولا: عنون مكتوبه بجملة: (أكاذيب البخاري)، قاصدا اتهامنا بوصف الإمام البخاري بالكذب بناء على أننا سمينا رواية الانتحار أكذوبة، ومتعمدا الإعراض عن تصريحنا المتكرر بأن الإمام مصدق مأمون موثوق.
والباحث الموضوعي يدرك أن رواية المحدث للخبر المكذوب لا يقتضي اتصافه بالكذب، وإلا فجميع أئمة الحديث كذابون، لأن غالب المصنفات الحديثية تشتمل على الروايات المكذوبة، وهذا مقرر مشهور عند صغار الطلبة قبل العلماء.
ثانيا: استنتج الكاتب من مقالي أنني أقصد التوهين من صحيح البخاري، والتنقيص من الإمام نفسه، رغم نفيي المتواتر لذلك، وهو استنتاج لا يخطر إلا على خلد المحرفين الذين يتصيدون العبارات المحتملة، أو المتعصبين العميان الذين يقدسون الأشخاص ويرون أي نقد لجانب من عملهم تنقيصا واحتقارا، وما هكذا يكون العقلاء.
ومعاذ الله أن نتوخى ما ذهب إليه الكاتب غفر الله له، ولو أنصف لذكر للقراء أقوالي الصريحة في إجلال الصحيحين وصاحبيهما، لكنه لم يفعل لحاجة في نفسه، فمما قلته: ( إن مراجعة الصحيحين، على ضوء المعايير الشرعية والعقلية، تؤدي إلى إثبات صحة معظم أحاديثهما وقلة الروايات الواهية فيهما، وفي ذلك تمتين لمنزلة صاحبيهما وتبرئة لهما، بل تلك المراجعة أعظم شكر نتقدم به إليهما رحمهما الله، فالرجلان اجتهدا وقدما للأمة عصارة علميهما، ولم يدعيا خلو كتابيهما من الخطأ، وعلى العلماء والباحثين أن يدرسوا مواضع الانتقاد عليهما بعيدا عن العاطفة والتعصب لمعرفة وجه الحق فيها )
وقلت: ( إن الإمام البخاري عندنا حافظ كبير مصدق مأمون، لكنه كان بشرا يتعرض للنسيان والغفلة، ويسمع الحديث الطويل أحيانا فيسيء فهم بعض معانيه، فإذا تأخر عن كتابته ازدادت نسبة النسيان والخطأ لا محالة، لذلك كان يتصرف في المتون، وينسى أسماء الشخصيات الواردة فيها، ويخطئ في ترجمة ما سمعه أحيانا، ومن قارن بعض رواياته التي سمعها من شيوخه المصنفين كالحميدي صاحب المسند، وقف على نماذج تؤكد بشرية الرجل: نسيانه وخطأه وسوء فهمه للمعنى أحيانا)
وقلت: (وجود أحاديث ضعيفة في الصحيحين لا يؤثر على مصداقيتهما، ولا يزحزح رتبتهما بين كتب السنة الشريفة(
وختمت مقال التنقيح بقولي: (رحم الله الإمامين ورضي عنهما، فقد كانا رجلين عظيمين، خدما السنة الشريفة، وكتاباهما يشتملان على ما يقارب خمسة آلاف حديث، فلو ضعفنا خمسمائة منها، تحصينا للشباب والمثقفين، ما تزحزحت رتبتهما في نفوس الأمة بحال... وأرجو من المعلقين أن يتأدبوا مع الإمامين البخاري ومسلم، فهما بريئان مما قيل في كتابيهما وأحاديثهما من غلو، ومعاذ الله أن نبلغ التراب الذي مشيا عليه في طلب علم النبوة).
فاحكم أيها القارئ المنصف، ثم عند الله تجتمع الخصوم.
ثالثا: قال الصياد الماهر: ( ولم يسلم من تسفيه الكاتب وتبخيسه أحد، فالتابعون رضي الله عنهم "سذج" انطلت عليهم ألاعيب اليهود وحبائلهم، والمتقدمون عموما "أضعف منا عقولا، وأقل ذكاء وفطنة"، ونظرا لهذه السذاجة، فإن عقل الإمام الزهري كان مغيبا أو مفقودا).
قلت: هذا التحريف نوع من الكذب على القراء متعمد، والحق أنني لم أعمم حكم السذاجة على التابعين، بل قلت بالحرف عن مكر اليهود بالمسلمين: (عاشوا بين صغار الصحابة والتابعين، وكانوا يخترعون الروايات الفاسدة، ثم يحدثون بها سذج المسلمين على أنها كلام سيد المرسلين، مستغلين ضعف خبرة الأجيال الأولى بمكر اليهود وطيبوبتهم، بدليل الكم الهائل من الإسرائيليات في كتبنا... وقد استطاع اليهود أن يستغفلوا سذج التابعين، وأن يمرروا عليهم الأخبار المتناقضة، والروايات المشوشة على عقائد الإسلام، ومنها أكذوبة الانتحار الدالة على قدرة تسلط الشيطان واستيلائه المتكرر على وعي المعصوم ).
وعبارة: (سذج المسلمين) أو (سذج التابعين)، تعني عند العارفين بأساليب العرب الحصر والتقييد لا غير، خلافا لصيغة: (المسلمين السذج) فتحتمل التخصيص والتعميم معا. فإن كان الكاتب يميز بين الأساليب فهو مدلس محرف، وإلا فليتعلم لغة العرب قبل أن ينجرف. ثم لماذا لم ينكر وجود الإسرائيليات المنتنة في مرويات التابعين، والتي هي حجتنا على سذاجة بعضهم؟
وكذب الكاتب لما نسب إلي القول بأن عموم المتقدمين أقل منا ذكاء وأضعف عقولا، والحق أنني قصدت الذين صححوا أسطورة الانتحار وروجوها، وهم كذلك شئتم أم أبيتم، ولا تدفعونا لإطلاع القارئ على بعض مهازلهم الدالة بوضوح على أن عقولهم لم تكن بذلك الإشراق الذي ترسخ لدينا عبر المخيال الشعبي.
والذكاء أمر نسبي يتأثر بالبيئة والمستوى المعرفي للمجتمع، وأين عصرنا من عصرهم؟
نعم، كانوا رحمهم الله أعرف بالبيان والبديع، وأحفظ للمتون، وأنقى سريرة وأقوى إيمانا، لكنهم كانوا أقل إدراكا للأشياء وأقرب إلى الفطرة والسذاجة، ولم يكن ذلك نقصا أو عيبا، وبرز من بينهم أولو العقول الجبارة المشرقة، لكنهم كانوا قلة نادرة.
وبخصوص الإمام الزهري، فهو حافظ عصره، لكن عقله كان مغيبا عند ترويجه أكذوبة الانتحار ومثيلاتها، وكان حاضرا حادا فيما سوى ذلك، فكان ماذا؟ وما الداعي للتحريف والزعم بأنني رميت الرجل بغياب عقله على الدوام؟
رابعا: قال صاحب التحريف: (ولم يسلم الحافظ ابن حجر من سهام الكاتب، فوصفه بأنه "مخطئ مقصر في البحث"، واتهمه في منافحته عن الجامع الصحيح بالتعصب المذهبي، لأنه "شافعي على مذهب البخاري"، ونظرا لهذا التعصب، فإنه كثيرا ما "أخطأ في التوجيه والتقدير"، ومن كان هذا وصفه ونعته، فإنه حتما أبعد ما يكون عن الحس النقدي، ولا يستحق أن يتبوأ مكانته المرموقة في علم الحديث، وهو ما أفادنا إياه الكاتب، حيث أجمل علاقة الحافظ ابن حجر بالجامع بقوله : "لكن هيبة الصحيح تعشي الأبصار، وتوقع في الأخطار"، فما الحافظ ابن حجر إلا أعشى يخبط خبط عشواء حسب الكاتب).
قلت: صدق من قال: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
أنتقد جزئية أخطأ فيها الحافظ ابن حجر، وهي دفاعه عن أكذوبة الانتحار رغم اعترافه بضعفها سندا، وأكيل المدح والثناء له في مواضع من مقالي، ثم لا تتقي الله ولا تتخلق بسمت الباحثين المنصفين، فتبتر أقوالي وتنسب إلي ذلك الكلام المخبول.
وأنا مضطر لتذكير القارئ ببعض أقوالي في الحافظ ليعرف نوعية الكاتب وطينته:
قلت في مقال التنقيح: (الحافظ ابن حجر أفضل من استقرأ صحيح البخاري، وها هو يعترف بأن بعض أحاديث الكتاب لم تنضبط لشروط مؤلفه).
وقلت في مقال الانتحار: (والحافظ ابن حجر الذي يشهر اسمه في وجه الباحثين المتحررين، اعترف بوجود الضعيف بمراتب مختلفة عند البخاري، لكنه تكلف في التبرير حينا، ولم ينتبه لروايات شديدة النكارة حينا، وأخطأ في التقدير والتوجيه كثيرا، وكان مدفوعا في كل ذلك بالحفاظ على قداسة الجامع الصحيح التي تقررت قبله، ولم يكن بإمكانه التمرد عليها، وهو شافعي على مذهب البخاري، رحم الله الإمامين).
وقلت بعد تخطئة الحافظ في جزئية مسألة يسيرة: (ونسبة الأخطاء إلى العظماء لا تنقص فضلهم إلا عند الحمقى والمغفلين، ولا تستفز إلا المتعصبين والمعاندين، ولسنا نلتفت إلى هؤلاء وأولئك بل ندعو لهم بالمغفرة وخلق المحسنين).
هذا هو منهجنا، نحترم الأئمة ونعترف بعلمهم الواسع، لكننا لا نقدسهم، بل نقبل صوابهم ولا نتردد في تخطئتهم، وهم السباقون إلى ذلك، فقد نسبوا الأخطاء للصحابة مع الحب والتقدير، ولا شك أن الكاتب ومن على شاكلته يخطئون الكبار الجلة في مسائل قلة، فهل نرميهم بالسوء والزلة؟ كلا وألف كلا.
خامسا: قال الأخ المحترم: (عمد أكثر من مرة إلى تضعيف الحديث بما أسماه "معايير علم النفس"، وذلك لدغدغة عواطف القراء، بدعوى أن حديث البخاري مخالف لما عليه العلوم الإنسانية، ثم يبين لهم أن العلماء مجرد جماعة من الكذابين، وأنه الصادق في قوله وبحثه، فقال : "فلا تكذبوا على الأمة، وتزعموا أن أقوال المتقدمين هي المعتمد").
اللهم إني أبرأ إليك مما استنبطه الكاتب الألمعي وأشكوك، فما دار بخلدي أن أصف العلماء بالكذب، وما زكيت نفسي وشهدت لها بالصدق، وما وجهت الجملة المبتورة من سياقها إلا لأنصاف العلماء المتعصبين الذين يزعمون أن الأئمة السابقين ما كانوا يخطئون أو يتقاعسون عن التحقيق في بعض الأحيان، والكذب في مثل هذا المساق يعني الخطأ والمبالغة كما يدري أهل الفهم، لكن الجاهل بمعنى "الفترة" أنى له أن يفهم، والمتصيد للهفوات أنى له أن يعلم.
سادسا: جاء في المقال المتهافت: (أورد الكاتب أن فترة الوحي بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم راحة وفسحة، وهذا مخالف للواقع، لأنه في بداية أمره كانت هناك صعوبات في اتصال بشرية النبي بالوحي المرتبط بالألوهية، لذلك كان النبي يرتجف ويقول "زملوني زملوني"، والوحي الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم وصفه رب العزة بقوله : "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا"، ولم يقل : سنلقي عليك فسحة وراحة كما ادعى الكاتب الموقر، لذلك كان يأتيه الوحي بطرق متعددة، منها صلصلة الجرس وهو أشده عليه كما صرح بذلك صلوات ربي وسلامه عليه، ومع ذلك يقول الكاتب إنه كان فسحة !! وكان يتلقى الوحي فيتصبب عرقا في اليوم الشديد البرد، وأنا لا أعرف الفسحة هكذا ).
ولك أن تضحك أيها القارئ الآن من مستوى كاتب يوحي لنا أنه من "البزل القناعيس"، فقد فهم من عبارة "فترة الوحي" الواردة في مقالي أنها تعني لحظة نزول الوحي، والمبتدئ يفهم من السياق أنها تعني "فتور الوحي" أي توقفه وانقطاعه، والفترة تأتي في لغة العرب بمعنى الفتور.
وأحمد الله أن الكاتب أيد كلامي من حيث لا يدري، فقد صرحت أن انقطاع الوحي كان راحة وفسحة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما دام كذلك، فلا يعقل أن يفكر في الانتحار بله الإقدام عليه.
وصاحبنا ذكر ما يدل على الشدة التي كانت تعتري مولانا النبي عند نزول الوحي، فشهد ضمنيا بأن الفترة راحة وفسحة.
فأرجو أن يتعلم مبادئ العربية، وأن ينظر في كلام الناس بالبراءة حتى يبصر جيدا ويقي نفسه المهاوي الردية.
سابعا: قال البتار: (أما البدر العيني شارح البخاري فهو في نظر الكاتب صاحب "الفهم السقيم"، ولم يسلم الحافظ ابن حجر من سهام الكاتب، فوصفه بأنه "مخطئ مقصر في البحث" ).
قلت: سيفهم القارئ أنني أعتبر الحافظ العيني صاحب فهم سقيم دائما، وأن الحافظ ابن حجر مخطئ في كل اجتهاداته مقصر في كل أبحاثه.
ومعاذ الله أن نطلق تلك الأوصاف الدالة على اللزوم والاستمرار، وصاحبنا مخادع في هذه الجزئية محتال، فالفهم السقيم مقيد بتفسير العيني لقوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك) بالإقدام على الانتحار، وابن حجر مخطئ ومقصر في كلامه عن بلاغ الزهري فقط، وهذه عباراتي النقية أذكرها للقلوب السنية:
قلت عن الأول: (العيني رحمه الله يضعف السند لأنه منقطع، ويجعل البلاغ لمعمر بن راشد، لكنه لا يقنع، بل راح يقوي المتن بالفهم السقيم لقوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك)، وتعني لعلك مهلك نفسك، فتكون الآية في نظره شاهدة لمضمون خرافة الزهري، وهذا تحريف غير مقصود لكلام الله وقع فيه العيني وغيره).
فترى نقدا موضعيا مقرونا بالترحم والتبرئة من تعمد التحريف، لكن الكاتب يتقن التجديف.
وقلت عن الثاني: (زعم أن معمر بن راشد متفرد برواية البلاغ عن الزهري دون عقيل ويونس، وهو مخطئ مقصر في البحث، فمعمر لم يتفرد برواية البلاغ عن الزهري، بل تابعه عقيل عند ابن منده في الإيمان2/693 ، ويونس عند الدولابي في الذرية الطاهرة1/33، وأبي عوانة في المستخرج1/102/328 وابن منده في الإيمان2/689، وتابعهم سفيان وابن ثور كما سلف. ونسبة الأخطاء إلى العظماء لا تنقص فضلهم إلا عند الحمقى والمغفلين...)
فانظر أيها القارئ إلى تقييد تقصير الحافظ بجزئية بسيطة، والختم بأنه من العظماء وإن صدرت منه الغلطة، وتأمل تصرف الكاتب القريب من الخطيئة.
ثم اسأله: هل أخطأ العيني في تفسير الآية؟ وهل قصر ابن حجر في جمع طرق بلاغ الزهري؟
فإن أقر بذلك، فاسأله ماذا يسمى كل ذلك؟ أليس فهما سقيما ضعيفا فاسدا، وتقصيرا في البحث؟
وهناك نماذج إضافية للتحريف والبتر المتعمدين، فيكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
مناقشة الهوامش وإهمال الجواهر آفة المتعصب الخائر:
إذا كانت الفكرة قوية متماسكة، وكان الخصم صاحب هوى وجحود، أو جاهلا بموضوع النقاش، فإنه يشتغل بالجزئيات والهوامش، ويعرض عن صلب الموضوع ويتحاشى الأسئلة المركزية.
وهذا ما سلكه صاحب المقالة المتهافتة، فإنه عجز عن مناقشة أدلتنا ونتائج بحثنا المركزية، واشتغل بقوة أسلوبنا في النقد إلى حد القسوة، وهي قسوة متعمدة، هدفها إيقاظ الغافلين وتنبيه السادرين.
وكان على صديقنا أن يشتغل بالإجابة على هذه الإشكالات المحورية، نذكره بها منتظرين "حنة يده":
هل كل الروايات المخرجة في الصحيحين ثابتة سندا ومتنا؟ أم توجد فيهما روايات ضعيفة؟ وهل يصح اعتبارهما فوق النقد والمراجعة؟ وما رأيه في المساواة بين القرآن والكتابين؟ وهل يتناقض خبر الانتحار مع الآيات النافية لتسلط الشيطان على الأنبياء؟ وهل يؤدي إثباته إلى اتهام النبي بالجنون عند محاولة التردي؟ ثم ألا يتضمن بلاغ الزهري سوء الأدب مع الله والإساءة لجبريل عليه السلام؟ وهل تلك الزيادة الضعيفة منكرة حسب قواعد الحديث لأنها تخالف الروايات الصحيحة؟ وهل وقع الاضطراب الموجب للبطلان في روايات الزهري للأكذوبة؟
أرنا قدراتك العقلية والعلمية في حل هذه المعضلات، أما التفتيش عن زلة هنا أو هفوة هناك، فكل الناس تحسنه يا فتى.
كثرة الأخطاء العلمية ثمرة الجحود والعصبية، ونتيجة الخوض قبل التحقيق والبحث العميق:
وقع الكاتب "القنعاس" في جملة أخطاء علمية، سببها التقليد وتقديس كلام المتقدمين، أو التسرع في الحكم قبل التأمل والتمحيص، وإليك أولاها بالذكر فإنها كثيرة حيثما نظرت في مقالته:
الخطأ الأول: قال الكاتب عن أسطورة الانتحار: (هذه الرواية لم يقل أحد بصحتها، لأنها مفتقرة إلى شرط أساس من شروط الصحة، وهو اتصال السند، وتضمين البخاري لها في مصنفه لا يقدح فيه، كما أنه لم يلتزم بالصحة إلا في المسند المتصل، أما البلاغات والمعلقات فلم يدّع ذلك، ولم يلتزم به، فماذا اكتشف الكاتب حتى يتطاول ويتعالم).
قلت: إن الإمام البخاري لم يوضح منهجه في الصحيح، والتفرقة بين الأصول والشواهد والمعلقات حادثة بعده، أي أن المحدثين بعد البخاري هم الذين زعموا أنه لا يشترط الصحة إلا فيما سموه أصولا بالاستقراء لا بالتنصيص من المؤلف رحمه الله.
ثم زعموا أن المعلقات بصيغة الجزم صحيحة عند البخاري بخلاف المروية بصيغة التمريض، لكن الحافظ ابن حجر نسف ذلك ونبه إلى وجود الضعيف في المعلق جزما، والصحيح في الممرض.
وما دام الإمام ذكر الروايات المعلقة الضعيفة ولم يصرح بضعفها، بل أوردها مستأنسا ومستشهدا، فإن إطلاق الصحة على كل رواياته كذبة كبرى، وادعاء تلقي الأمة لها بالقبول فرية عظمى.
الخطأ الثاني: قال الرجل: (تقرر أن الحديث المتواتر مقطوع به، أما الحديث الصحيح فلا يفيد إلا الظن الراجح، وكلما تدنى الحديث في الصحة كلما نقص الظن، ومن ذلك قرر العلماء أن الحديث الضعيف – ومنه حديثنا هذا – غير مقطوع بكذبه وبطلانه).
وهنا أغلاط فاحشة يجل عنهما من تخرج في دار الحديث الحسنية، إليك البيان:
أولا: جعل الحديث المتواتر، أي الذي روته جماعة كبيرة عن جماعة، قسما مغايرا للحديث الصحيح، والذي يعرفه المبتدئون هو أن المتواتر نوع من الصحيح، والقسم المغاير له هو حديث الآحاد الذي يرويه فرد أو أفراد قليلون، وحديث الآحاد يتنوع إلى صحيح وحسن وضعيف، والموضوع شر أنواع الضعيف.
ثانيا: قوله (وكلما تدنى الحديث في الصحة كلما نقص الظن) خطأ قبيح، واللازم أن يقول: (...كلما ازداد الظن)، لأن النزول من أعلى درجات الصحة نحو الأدنى يزيد نسبة الظن والشك في ثبوت الحديث وليس ينقصها يا جدع.
ثالثا: قوله رحمه الله: ( قرر العلماء أن الحديث الضعيف – ومنه حديثنا هذا – غير مقطوع بكذبه وبطلانه) منقوص أعرج، إذ الحديث الضعيف الذي لا يقطع المحدثون بكذبه وبطلانه، هو الذي لا يقترن بمناقضة القرآن أو السنة الصحيحة أو العقل والحس...
فإذا ناقض شيئا من ذلك، فبطلانه مقطوع به اتفاقا، ولا يختلفون إلا عند التطبيق.
وحديث الانتحار ضعيف من جهة السند، مناقض للقرآن والسنة والعقل والعلم معا، فهو باطل وكذب ولو حالت هيبة الصحيح دون حكم المتقدمين عليه بذلك، لأننا ملزمون بالقواعد لا بأمزجة العلماء.
وراجع مقالي لتعرف وجوه التناقض، ثم رد عليها واحدا واحدا بما ينسفها، وإلا فالزم تخصصك.
الخطأ الثالث: قال صاحبي غفر الله لنا وله: (...كثير من العقلاء من المفكرين والأطر السامية في أكثر من قطر ودولة أقدموا على الانتحار لسبب من الأسباب، وهذا وحده دليل في نقض مقولته، وأن الانتحار ليس مرتبطا بالحمق والجنون).
قلت: عبارة (من العقلاء من المفكرين) ثم صيغة: (دليل في نقض مقولته) أسلوبان ركيكان عند العارفين بالأدب، والركاكة تدل على هشاشة المستوى البياني لدى الكاتب، والهشاشة أمارة سوء إدراك الكلام الفصيح، فلا تعجب إذا وجدت صاحبنا يستخرج من كلامي تلك المعاني المظلمة.
ليس هذا المقصود، بل ذكرنا كلامه الدال على جهله بأن المقدم على الانتحار يكون لحظة التنفيذ مجنونا أحمق، والجنون أو الحمق يطلقان في اللغة والعرف على فقدان العقل حال اليقظة، ولا يكون المبادر لقتل نفسه عاقلا بأي حال من الأحوال، فاسأل علماء النفس والأمراض العصبية ثم تعال.
والمفكرون أو الأطر المنتحرون، لم يفعلوا إلا بعد فقدان العقل، وهم قلة لا كثرة كما هول ونفخ الكاتب، والنتيجة أن الانتحار والجنون متلازمان مترابطان.
الخطأ الرابع: قال العاقل: ( حاول الكاتب أن يبين التناقض الواقع بين حديث جابر وبلاغ الزهري، وذلك لأن الأول ليست فيه أي إشارة لحزن النبي بسبب انقطاع الوحي، كما لا يتضمن التفكير في الانتحار أو محاولته، وهذا تناقض متوهم، لأن التناقض لا يثبت إلا إذا تم التصريح في حديث جابر بفرح النبي وسروره، وبما أنه لم ينص لا على الفرح ولا على الحزن، فإنه لا تناقض ألبتة، لذا كان بلاغ الزهري متضمنا لزيادة على حديث جابر، وليس متناقضا معه).
أنصحك يا صديقي أن تستشير شيوخك العارفين بمصطلح الحديث قبل أن تعرض نفسك للمهزلة، وهذا التعليم والتذكير يأتيك مني هرولة:
أولا: اعترفت بضعف سند بلاغ الإمام الزهري، وأقررت بأن الإقدام على الانتحار زيادة لا وجود لها في حديث جابر رضي الله عنه، أليس كذلك؟
إذا كان كذلك، فقد تقرر عند المحدثين أن الزيادة التي ترد في الطريق الضعيف تسمى منكرة، والمنكر من قسم الواهي الذي اشتد ضعفه، فتكون زيادة الإقدام على الانتحار واهية ساقطة.
هذا إذا لم تكن الزيادة مناقضة للقطعيات النقلية والعقلية، وإلا فهي موضوعة مكذوبة بلا مثنوية، فحقق ثم لا تشفق.
والغريب أنني نبهت إلى هذه المعاني لكن الكاتب لم يستوعب، فيبدو أنه ما درس علم المصطلح جيدا، أو لعله نسي فلا لوم عليه إذا تذكر من جديد.
ثانيا: أخفيت عن القارئ أوجه التناقض بين بلاغ الزهري وحديث سيدنا جابر، وهذا تدليس قبيح يطعن مصداقية الكاتب المليح، وأنا مضطر لتذكيرك وتنبيه القراء للتناقض الصريح:
تضمن حديث جابر أن تجلي جبريل للنبي عليهما السلام كان مرة واحدة، وكان النبي في مكة بعد نزوله من حراء، أما بلاغ الزهري المكذوب فيخبرنا أن التجلي تكرر مرارا، وكان يحدث في قمم الجبال عندما يهدد النبي، حاشاه، بالانتحار.
ودل حديث جابر على أن النبي فزع من صورة جبريل حتى هوى إلى الأرض، بينما يصرح بلاغ الزهري أن النبي كان مطمئنا ثابتا كلما تبدى له جبريل.
وصرح حديث جابر أن فتور الوحي كان مرة واحدة قصيرة، أما بلاغ الزهري فيزعم أن فترة الوحي تكررت، وكانت تطول كل مرة. فهل هذه تناقضات أم لا؟ وهل تحاشيك لذكرها تدليس وخداع للقراء؟
الخطأ الخامس: قال صديقنا: (الهم بالانتحار والإقدام عليه لم يكن معصية محرمة حينها، حيث لم يوجد نص محرم في تلك الفترة، وقرر العلماء أنه لا تحريم إلا بنص، فهل هناك نص قرآني في سورة العلق أو غيرها من الآيات التي نزلت حينئذ يحرم الانتحار؟ ومن ادعى تحريم الانتحار في تلك الفترة فعليه بالدليل. ومثال ذلك تحريم التبني الذي ورد متأخرا، وكان قبل ذلك النبي متبنيا زيدا، فهل يعتبر النبي عاصيا )
قلت: هذا موضع آخر من مواضع التدليس والغدر، فقد أجبت على هذا الاعتراض المعتوه، لكن الكاتب يتعمد التجاهل، لأنه عاجز عن إبطال مضمون كلامي، فقد قلت بالحرف عند مناقشة كلام العيني رحمه الله: ( وأتفه منه خرافة عدم ورود تحريم الانتحار قبل فترة الوحي، فإن الأنبياء معصومون من الإقدام على التصرفات الجنونية قبل البعثة وبعدها، وإن حصرتم ذلك بما بعد البعثة، فنبينا كان مبعوثا منذ نزول سورة العلق، أي قبل التفكير المزعوم المكذوب ).
وأضيف هنا: محل النقاش هو إمكان إقدام نبي مبعوث على الانتحار، وهل يقتضي ذلك وجود الاختلال العقلي الذي يتنزه عنه الأنبياء؟ وليس موضوعنا هل كان الانتحار محرما أم لا؟ فلماذا تتهربون من محل النزاع؟
ثم إن الانتحار مستقبح بالفطرة كالقتل والزنا والسرقة، ومحرم في كل الشرائع السماوية السابقة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة سليم الفطرة، عالما بتحريم الانتحار في شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، كعلمه بوحدانية الله وقداسة البيت الحرام ومعرفته بالحج والعمرة، فلم يكن بحاجة لنهيه عن قتل نفسه في أوائل السور نزولا.
وإذا لم يكن الانتحار محرما كما تدعون، فهل كان حلالا هو والقتل والسرقة والظلم بكل أنواعه؟
وتشبيه الانتحار بالتبني لا يصدر عن عاقل، إذ شتان بين ما تنكره كل العقول، بل تستقبحه الضباع والفيول، وبين ما تراه بدائه العقول خيرا وصلاحا لولا ورود الشريعة بتحريمه.
ولست أدري هل يقبل صاحبنا تشبيه القتل والاغتصاب بالتبني أيضا، فيزعم أنهما لم يكونا محرمين فيشبهانه.
الخطأ السادس: يبدو أن صاحبنا متأثر بخرافات بني إسرائيل، فقد قال: ( الانتحار كان في شرع من قبلنا، بل كان وسيلة للتوبة عند بني إسرائيل بعد عبادتهم العجل،" فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ"، لذلك كان عَدُّ قتل النفس من باب تسلط الشيطان أو الجنون، مجرد كلام لا عبرة به).
ولو توقف الأمر عند التأثر بالإسرائيليات لهان الخطب، لكن الكاتب يتجرأ على كلام الله فيفسره بظاهره، وللمفسرين أقوال في الآية:
الأول: ليقتل المطيع المجرم منكم، وهذا تنفيذ لحكم وليس انتحارا.
الثاني: افعلوا بأنفسكم ما يشبه القتل وهو الندم والحسرة والتوبة، فالتعبير مجازي، وهو الصواب والحق.
الثالث: اقتلوا بعضكم بعضا، ففعلوا حتى قتل منهم سبعون ألفا، ثم نزلت التوبة فنجا الباقون، وهذا ليس انتحارا من جهة بل تقاتل، ثم هو خرافة إسرائيلية من ناحية ثانية، وما كان اليهود يصلون هذا العدد زمن موسى عليه السلام، فهي رواية منقوضة عقلا، منكرة نقلا، ومحال أن يرضى الله تلك المجزرة.
فلماذا اختار الكاتب التفسير الإسرائيلي المعتوه؟
إنه رد كلامي ولو بالخرافات والأساطير، ومن غير تريث في تفسير كلام الله القدير.
الخطأ السابع: قال: ( على فرض تحريم الانتحار في تلك الفترة، فإن النبي لم يفعل، بل همّ بالفعل، والهمّ لا يخدش العصمة، والأنبياء غير مؤاخذين به، لذلك همّ يوسف بالمعصية تحقيقا لبشريته، لولا أن رأى برهان ربه، فلم يفعل تحقيقا لعصمته ونبوته ).
قلت: بلاغ الزهري يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى قمم الجبال أكثر من مرة، وفي اللحظة التي يقرر فيها التردي كان جبريل يتجلى له، فهل هذا هم ونية أم هو تنفيذ قناعة راسخة؟
حاشا رسول الله من ذلك.
وتشبيه أسطورة الانتحار بقصة سيدنا يوسف قياس مع الفارق، فسيدنا يوسف كان شابا مراهقا لم يبعث بعد، وقد هم ونوى لمرة وحيدة، أما مولانا النبي فكان راشدا مبعوثا، ولم ينو بل شرع في التنفيذ، ولم يفعل ذلك مرة واحدة بل مرات ومرات، هذا ما تقوله الرواية المكذوبة، والكاتب يظن النبوة ألعوبة.
- خريج دار الحديث الحسنية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.