** تذكير بالسياق : نظم مركز ابن القطان بمدينة العرائش ندوة عن الإمام البخاري وجامعه الصحيح، وقبل ذلك نشرت جريدة هيسبريس استجوابا مع رئيس المركز، وهو ما تفاعل معه أحد الكتاب، فنشر مقالين لتبيان ما في الجامع الصحيح من ضعف ووهن، كان آخرهما معنونا بمحاولة انتحار المعصوم، أكذوبة في صحيح البخاري، فنشرتُ تعقيبا على هذا المقال بعنوان أكاذيب البخاري، قراءة متهافتة، قسمته إلى فقرات، بينت من خلاله أهمية قراءة تراثنا الإسلامي قراءة نقدية، كما اقتبست من مقاله عدة نقول تفيد تبخيسه لمخالفيه وتنقيصه من مكانة الإمام البخاري وجامعه الصحيح، ومحاولته استمالة القارئ بأسلوب غير علمي مثل استعماله للقسم واليمين، وكذا استعلاءه، ثم بينت توجيها مخالفا لرؤيته للأثر الضعيف الذي يفيد همَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالانتحار في البدايات الأولى للدعوة. هذا المقال، تفاعل معه الكاتب مشكورا، فعمل على نقده، وحاول تتبع هناته وأخطائه، وذلك من خلال مقال بعنوان : تهافت صاحب القراءة المتهافتة، وهو ما أثارنا لمناقشة بعض ما بدا لنا مما له تعلق بالموضوع. ** على مستوى الشكل : أفرط الكاتب في مقاله الأخير في إطلاق ألفاظ وعبارات في حق محاوره كان حريا به أن يتجنبها، مثل الكذب والتحريف والجهل والتعصب وقلة الدين والجحود والتدليس والغدر وتقديس كلام المتقدمين ...، كما وصف مناقشه بأنه البتار المتعصب الخائر ... ولعل الكاتب يعلم يقينا أن مثل هذه العبارات لا تستعمل في الحوار والمناظرة العلمية، وأنها من باب المجادلة بالتي هي أخشن، لذلك أجدني مضطرا لعدم الالتفات إليها، لأنها من اللغو الذي نمر عليه كراما. واستمر الكاتب في تبخيس الآخر المخالف، وغلا في ذلك حتى اعتبر الجامعات المغربية سجونا وقبورا فكرية، والواقع يشهد بخلاف ذلك والحمد لله. واستمر الكاتب في تعاليه وتعالمه، فقال : "وإذا كان شيوخه المتخصصون قناعيس، فنحن بفضل الله وكرمه لسنا أقل منهم شأنا"، وهو كلام بعيد كل البعد عن التواضع الذي عُرف به العلماء رضي الله عنهم، فلا تجدهم يتكلمون عن أنفسهم إلا بعبارات يختمون بها تواليفهم مثل : "وكتبه أفقر العبيد وأضعفهم وأحوجهم إلى رحمة مولاه ..."، هذه أخلاق العلماء، وهذا أسلوبهم، ولأن الكاتب يحس بتضخم في العلم، فإنه يبادر إلى توزيعه يمينا وشمالا، فخاطب محاوره قائلا : "وهذا التعليم والتذكير يأتيك مني هرولة"، على رسلك يا شيخ !!! هذه العبارات وأمثالها هي التي انتقدتها على الكاتب، لذلك قلت : "وهي عبارات تدل على بعد صاحبها عن ميدان البحث العلمي ومناهجه، مع أنه يطرق مبحثا لا يستطيع ولوج رحابه إلا البزل القناعيس"، وكلامي واضح في أنني لا أعيب عليه خوضه هذا النقاش، بل عبت عليه استعمال هذه العبارات التي يتحاشاها العلماء، كما عِبْتُ عليه نشر هذه المواضيع في المنتديات العامة، وهو ما فهم مني أنني وصفته بالعامي، كما صدر عنه تأويل آخر لكلام رئيس المركز المذكور، حيث فهِم منه أنه "يتضمن التبديع والتكفير"، إضافة إلى أنه فهم من عنوان مقالي "أكاذيب البخاري" أنه يصف البخاري بالكذب، وهي تأويلات بعيدة جدا، لعلها ناتجة عن تسرع الكاتب، دون أن أستعمل عبارته، فأصفه ب"سوء إدراك الكلام الفصيح". ** عصمة الصحيحين : صرح الكاتب في أكثر من موضع بأن مخالفيه يقولون بعصمة الجامع الصحيح وقدسيته، وهذا غير صحيح ألبتة، بل إن علماء أهل السنة على اختلاف مذاهبهم يقولون عبارة واحدة، وهي أن الصحيحين "تلقتهما الأمة بالقبول"، وهي عبارة لا تفيد العصمة كما هو معلوم، بل إن علماء الإسلام الذين قالوا هذه المقولة وروجوها هم أنفسهم انتقدوا أحاديث الصحيحين، ولم يسلموا للإمامين بكل ما دوناه بين دفتي كتابيهما، قال ابن تيمية : "ومن [أحاديث] الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث، كجمهور أحاديث البخاري ومسلم، فإن جميع أهل الحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين"، فهو يتحدث عن جمهور أحاديث الصحيحين وليس عن كل الأحاديث، وأوضح منه قول القسطلاني : "والصالح دون الحسن،،، والمضعف ما لم يجمع على ضعفه، وفي البخاري منه"، فأين العصمة ؟ وأين القدسية ؟ ومن ادعاهما ؟ وممن تناول أحاديث الصحيحين بالنقد من العلماء المعاصرين، العلامة المحقق عبد الله بن الصديق الغماري، حيث انتقد أحاديث من الكتابين في كتابه الماتع "الفوائد المقصودة، ببيان الأحاديث الشاذة المردودة"، وفي غيره من مؤلفاته، انتقد بعض متونهما بعمق فكري، وأدب سامي، ولسان عف، ولم يستعمل لغة "علف الفول والبقول"، وهو ما نبين من خلاله للقراء أن الكاتب ليس مجددا ولا فاتحا كما قد يُتوهم. ** منهج البخاري : ذكرت في مقالي السابق أن الإمام البخاري لم يقل بصحة رواية الهمّ بالانتحار رغم أنها موجودة في الجامع، لأنها غير متصلة السند، وهو لم يلتزم بالصحة إلى في الموصول فقط، وهو ما تعقبه الكاتب بدعوى أن الإمام لم يوضح منهجه، وأن التفرقة بين الأصول والشواهد وغيرهما حادثة بعده، وأن العلماء نسبوها إليه بالاستقراء دون أن ينص عليها. نعم، لم يكتب البخاري مقدمة لكتابه يبين من خلالها منهجه، لكن عنوان كتابه يشي بذلك ويشير إليه، فهو "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه" ومن خلال هذا العنوان يتبين أنه التزم الصحة في المسند لا غير، أما المعلقات والبلاغات فلا، والعنوان يبين المنهج باختصار. ** مفهوم الظن : رجحت ضعف رواية الهم بالانتحار خلافا للكاتب الذي قال بوضعها وكذبها، وبينت أن الضعيف ليس مقطوعا بكذبه، بل يبقى وقوعه ظنيا، إلا أن ظنيته أقل من ظنية الصحيح، وقلت بالحرف : "كلما تدنى الحديث في الصحة كلما نقص الظن"، فعلق علي بقوله : "واللازم أن يقول : [كلما ازداد الظن]، لأن النزول من أعلى درجات الصحة نحو الأدنى يزيد نسبة الظن والشك في ثبوت الحديث، وليس ينقصها يا جدع"، ولنا على هذا الكلام ملاحظات : أولاها : عبارة [يا جدع] لا علاقة لها بالعلم والبحث العلمي. ثانيتها : لعل الكاتب يستعمل الظن بمعناه الدارج، لذا جعله مرادفا للشك فأدرجهما في سياق واحد. ثالثتها : بيّن العلماء مفاهيم مصطلحات [القطع والظن والشك]، وحافظوا على ترتيبها التنازلي، ومنه قولهم إفادة حديث الآحاد الظن، وإفادة المتواتر اليقين والقطع. رابعها : للقطع والشك درجة واحدة، والظن بخلاف ذلك، لذا قال العلماء ب[تفاوت الظنون]، فيكون الظن راجحا في الحديث الصحيح، وتنزل درجة الظن في الحسن، وينقص الظن أكثر في الحديث الضعيف، قال أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني : "إن الظن يتفاوت ويتفاضل، ويقع على درجات عديدة، بعضها ينزل حتى لا يكون فيه من الرجحان إلا قدر طفيف، وبعضها يعلو حتى لا يبقى بينه وبين اليقين إلا فارق طفيف"، وعليه، فإن الحديث كلما تدنى في الصحة كلما نقص الظن، وليس العكس كما قال الكاتب. ** الهم بالانتحار : لم أثبت في مقالي السابق صحة همّ النبي صلى الله عليه وسلم بالانتحار، بل بينت أن ذلك من قبيل الجائز والممكن، وليس من قبيل المحال كما ذهب إلى ذلك الكاتب، فحاول في تعقبه أن يكرر مقولاته السابقة، وألزمني بعدة إلزامات، منها : أولا : [الانتحار مستقبح بالفطرة]، وهذا كلام مرسل وغير علمي، لأن كل شخص أراد أن يسترذل مسألة يحق له أن يدعي مخالفتها للفطرة، كما يمكنني أن أجيبه بقولي : [نكاح المتعة حرام، لأنه مستقبح بالفطرة]، وهذا ما يوافقني عليه كثير من الشيعة ناهيك عن أهل السنة، فهل سيقتنع بفطرتي ؟ أم لكم فطرتكم ولي فطرتي ؟ فتبين ضعف الاستدلال. ثانيا : [الانتحار محرم في كل الشرائع السماوية]، لم يذكر الكاتب ما يعضد هذه الدعوى، لذا تبقى من الكلام المرسل كسابقتها. ثالثا : [النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بتحريم الانتحار في شريعة إبراهيم وإسماعيل]، لم يذكر الكاتب دليلا على دعواه، ولم أقف على رواية صحيحة السند تفيد ذلك، فهو من الكلام المرسل إلى أن يثبت العكس. رابعا : [لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بحاجة لنهيه عن قتل نفسه في أوائل السور نزولا]، ما الدليل على ذلك، بل العكس هو الصحيح، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحظى بالعناية الربانية، وكان محتاجا غلى النهي الإلهي، فنهاه مولاه بقوله : "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه"، ونهاه قائلا : ّ"فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر"، إلى غير ذلك من النواهي الربانية. خامسا : [لم تنزل في بداية البعثة النصوص القرآنية المحرمة للقتل والزنا والسرقة والظلم رغم أنها محرمات، وكذلك الانتحار، فهو محرم رغم عدم وجود النص]، وهذه الجرائم مختلفة تماما عن الانتحار، لأن هذا الأخير ممارسة ذاتية، والجرائم الأخرى ممارسات متعدية إلى الغير، إضافة إلى أن النصوص المروية تثبت تحريمها في المجتمع العربي، مثل قول هند : "أوتزني الحرة ؟"، فرغم وجود الزنا إلا أنه مستقبح مرذول، والأمر ذاته في الجرائم الأخرى، فثبت أن هذا التشبيه غير مستقيم. ** الانتحار في الشريعة الموسوية : بينت في مقالي أنه لم يثبت بأي دليل أن الانتحار كان محرما قبل الإسلام، بل إن بني إسرائيل أمروا بقتل أنفسهم كما هو صريح الآية، لكن الكاتب أورد في تفسيرها أقوالا، ورجح منها [فاقتلوا أنفسكم : افعلوا بأنفسكم ما يشبه القتل، وهو الندم والحسرة والتوبة، والتعبير مجازي، أما قتل النفس حقيقة فمجرد خرافة إسرائيلية]، ولنا على هذا الكلام ملاحظات : أ – رجحت المعنى الحقيقي ورجح الكاتب المعنى المجازي، وإذا اختلفت الحقيقة والمجاز كان الحمل على الحقيقة أولى كما هو مقرر في محله. ب – لا نلجأ إلى المجاز إلا بقرينة، وهي غير موجودة، والمجاز الذي انتصر له الكاتب بعيد جدا. ج – الحكم بقتل أنفسهم موافق لشدة شريعتهم وثقل أحكامها، مثل تحريم صيد السمك يوم السبت، وهذه الأحكام الشديدة هي الإصر والأغلال التي وضعها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه بعث بالحنيفية السمحة. د – الجنوح إلى المجاز في الآيات الخاصة بالأمم السابقة من أخطاء المفسرين التي نبه إليها العلامة المحقق عبد الله بن الصديق الغماري، فقال : "الآيات التي يكون موضوعها الحديث عن الأمم التي لا تتكلم العربية، مثل قوم نوح وإبراهيم وبني إسرائيل، وحكاية ما حصل بين رسلهم وبينهم من مجادلات، وما توجه إليهم من خطابات تكليفية وغيرها، لا يجوز حملها على المجاز، بل يجب حملها على الحقيقة، لأنها مجزوم بإرادتها رغم اختلاف اللغات، ورغم تباين التقاليد والعادات". تأسيسا على ما سبق، يتبين أن ترجيح الكاتب للمعنى المجازي ترجيح بدون مرجح، وأن ترجيحنا لم يكن خضوعا لخرافة إسرائيلية ولله الحمد. ** النبوة ألعوبة : ختم الكاتب مقاله بعبارة : [والكاتب يظن النبوة ألعوبة]، وجعلها – لفرط ذكائه – آخر كلمة في المقال، حتى تبقى راسخة في أذهان القراء، لا يكاد ينقطع صداها عن أسماعهم، وأتمنى أن تكون سبق قلم من الكاتب، أما إذا كانت غير ذلك فلا أجد لها معنى إلا التكفير، لأن المتلاعب بالنبوة ومستصغرها ومحتقرها والمُهَوِّن من شأنها لا يكون إلا كافرا. أستغفر الله .. أعوذ بالله .. اللهم عظم النبوة في قلوبنا وأنفسنا .. قلت : الرواية ليست صحيحة. وعلى فرض صحتها، فإن الانتحار لم يكن محرما. وعلى فرض تحريمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم همّ به ولم يفعله. والهم بالمعصية ليس معصيةً قولا واحدا .. وهذا أبعد ما يكون عن التلاعب بالنبوة، حشرنا الله مع المدافعين عنها الذابين عن حياضها. قال العلامة عبد الله بن الصديق الغماري : "همّ النبي صلى الله عليه وسلم بالانتحار لا يعيبه لوجوه : أحدها : أن الهم بالمعصية لا ينافي العصمة ... ثانيها : أن الانتحار لم يكن محرما في ذلك الوقت، وإنما نزل تحريمه بعد ذلك في المدينة بقوله تعالى "ولا تقتلوا أنفسكم". ثالثها : أن قتل الإنسان نفسه شرع لبني إسرائيل في توبتهم من عبادة العجل". هذا نص كلامه، وأرجو ألا يتسرع الكاتب ليصف هذا العالم المجتهد بالتلاعب بالنبوة. خاتمة : المسألة فرعية لا يكاد يذكرها أحد، من أنكر همّ النبي بالانتحار لا ينقص من إيمانه شيء، ومن قال بإمكان وقوع ذلك لا ينقص من إيمانه شيء، وإنما جرنا للحديث عن ذلك مقالة الكاتب التي أورد فيها هذه المسألة وتشعب حديثه لقضايا خارجة عن هذه الجزئية. أما الإمام البخاري فنعظمه ونجله، وجامعه الصحيح نقدره ولا نقدسه، ولا نقول بعصمته، ومن نسب إلى علماء الأمة ومثقفيها خلاف ذلك فهو واهم. الاختلاف لا يفسد للود قضية، ولا داعي لإرهاب المخالف بأنه يتلاعب بالمقدسات، لأنها حيلة لا تنطلي على أحد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. * خريج دار الحديث الحسنية [email protected]