رئيس كولومبيا يتخبط أمام ترامب    حريق جزئي في بناية 'دار النيابة' التاريخية بطنجة بسبب تماس كهربائي    انفجار نفق بسد المختار السوسي بضواحي تارودانت.. بعد مرور أكثر من 12 ساعة من الحادث لا زال 5 عمال مفقودين    نشرة إنذارية: هبات رياح محليا قوية من 70 إلى 95 كلم/س بعدد من أقاليم الشمال    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    تأني الفتح يغلب استعجال الرجاء    نادي الشارقة الإماراتي يعلن تعاقده مع اللاعب المغربي عادل تاعرابت    السنغال تبدأ تنفيذ مشروع أنبوب الغاز الرابط بين المغرب ونيجيريا    العيون تُعلن عاصمة للمجتمع المدني المغربي لسنة 2025    الكاف: أكثر من 90 بلدا سيتابعون قرعة كأس أمم إفريقيا بالمغرب    جريمة تهز وزان: مقتل سيدة وإصابة شقيقتها في اعتداء دموي بالسلاح الأبيض    الشرقاوي حبوب: تفكيك خلية إرهابية بمنطقة حد السوالم يندرج في إطار الجهود المبذولة للتصدي للخطر الإرهابي    الدورة 35 لماراطون مراكش الدولي: العداء الكيني ألفونس كيغين كيبووت والإثيوبية تيرفي تسيغاي يفوزان باللقب    المغرب يحقق سابقة تاريخية في كأس إفريقيا.. معسكرات تدريبية فاخرة لكل منتخب مشارك    وزارة التربية الوطنية تكشف خلاصات لقاءات العمل المشترك مع النقابات التعليمية    إحباط تهريب 200 كيلوغرام من الحشيش بميناء سبتة المحتلة    الملك محمد السادس يهنئ الحاكمة العامة لكومنولث أستراليا بمناسبة العيد الوطني لبلادها    تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية ومرفوضة فلسطينيا وعربيا.. ترامب يقترح ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى الدول العربية المجاورة    تراجع للدرهم أمام الأورو.. و4% نمو سنوي في الاحتياطيات    هذه خطة المغرب لتعزيز شراكته الاقتصادية مع الصين وتقليص العجز التجاري    المفوضية الأوروبية: الاتفاقيات الجوية بين المغرب والاتحاد الأوروبي لا تشمل الصحراء    تقرير: المغرب يواجه عام 2025 بتطلعات متفائلة مدعومة بالتعاون الاقتصادي مع الخليج وأوروبا    الشرقاوي: تفكيك الخلية الإرهابية بحد السوالم يندرج في إطار التصدي للخطر الإرهابي    غرق بحار ونجاة أربعة آخرين بعد انقلاب قارب صيد بساحل العرائش    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    15 قتيلا بنيران إسرائيل بجنوب لبنان    "كاف": الركراكي مطالب بالتتويج    ريدوان وحاتم عمور وجيمس طاقم تنشيط حفل قرعة كأس أمم إفريقيا    بعد نجاحه مع نشيد ريال مدريد.. ريدوان يستعد لإطلاق أغنية خاصة ب"أسود الأطلس"    تفكيك "شبكة حريڭ" باستخدام عقود عمل مزورة    كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم: الكشف عن الشعار الرسمي للبطولة    تفشي مرض الحصبة في المغرب.. الوضع يتفاقم والسلطات تتحرك لمواجهة اتساع رقعة انتشاره    وزارة التجهيز والماء تطلق ورشات تشاورية لتثمين الملك العمومي البحري    تدشين وإطلاق عدة مشاريع للتنمية الفلاحية والقروية بإقليم شفشاون    الطماطم المغربية تغزو الأسواق الأوروبية أمام تراجع إسبانيا وهولندا    جمعوية: الكلاب المتخلى عنها الأخطر على المواطنين مقارنة بالضالة    أساتذة "الزنزانة 10" يحتجون بالرباط‬    المغرب حاضر بقوة في المعرض الدولي للسياحة في مدريد    رحلة مؤثر بريطاني شهير اكتشف سحر المغرب وأعلن إسلامه    شبكة صحية تنتقد الفشل في التصدي ل"بوحمرون" وتدعو لإعلان حالة طوارئ صحية    المحكمة الكورية ترفض طلب تمديد اعتقال الرئيس المعزول    الجزائر تتجه نحو "القطيعة" مع الفرنسية.. مشروع قانون لإلغائها من الجريدة الرسمية    الصين: ارتفاع الإيرادات المالية بنسبة 1,3 بالمائة في 2024    أخنوش أصبح يتحرك في المجالات الملكية مستبقا انتخابات 2026.. (صور)    معرض القاهرة الدولي للكتاب .. حضور وازن للشاعر والإعلامي المغربي سعيد كوبريت في أمسية شعرية دولية    لقاء ينبش في ذاكرة ابن الموقت    الولايات المتحدة.. طائرات عسكرية لنقل المهاجرين المرحلين    الخارجية الأمريكية تقرر حظر رفع علم المثليين في السفارات والمباني الحكومية    القنصلية العامة للمملكة بمدريد تحتفل برأس السنة الامازيغية    هوية بصرية جديدة و برنامج ثقافي و فني لشهر فبراير 2025    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    من العروي إلى مصر :كتاب "العناد" في معرض القاهرة الدولي    فعاليات فنية وثقافية في بني عمارت تحتفل بمناسبة السنة الأمازيغية 2975    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عصمة الأنبياء .. وترهات بوهندي
نشر في لكم يوم 12 - 06 - 2013

نشرت مجلة هيسبريس الإليكترونية تصريحين للدكتور مصطفى بوهندي، أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني، وصاحب كتاب " أكثر أبو هريرة"، حول موضوع عصمة الأنبياء، الأول بتاريخ 6/6/2013، والثاني بعد يوم من ذلك التاريخ، وقد جاء التصريحان – مع الأسف – مليئين بالأخطاء والمغالطات والتطاول على مقام النبوة والأنبياء بغير علم. وهذا نص التصريحين، قبل أن نعلق عليهما بما يسر الله من ملاحظات.
يقول الدكتور بوهندي في تصريحه الأول : " موضوع العصمة هذا، فلا بد أن نربطه بالسياق الذي طرحت فيه علي الأسئلة السابقة، برنامج دوزيم، كانت الغاية هي بيان أنه يمكن الاستفادة من أخطاء الأنبياء، كما يستفاد من الجوانب الإيجابية عندهم، فقصص الأنبياء الله سبحانه وتعالى يقول: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً – قرأها بوهندي بالضم - لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، فالاعتبار من هذا القصص هو النظر في كل شيء من أجل أخذ ما نرحم به ونهتدي به، ونفصل به جميع الأشياء، ونصدق كذلك ما جاء به الرسل والكتب السابقة، الناس عموما بسبب القول بالعصمة، التي تعني أن الأنبياء لا يخطئون وعصمة الأنبياء، ركزوا على الجوانب الإيجابية للأنبياء، ولم يتحدثوا أبدا عن الجوانب السلبية، والتي كانت فيها دروس مهمة وكثيرة جدا، هم يقدمون لنا باعتبارهم بشرا، يتعثرون بكل ما يتعثر به البشر، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتكونون بجميع ما يتكون به البشر، ولذلك فقصصهم ليست مقتطفات من حياة أشخاص، بل هي قصص حياة كاملة، تكوين من الأول إلى النهاية، فقصة موسى عليه السلام هي قصة الرجل السياسي الذي سيحرر شعبه، من أول لحظة إلى آخر لحظة، وقصة يوسف عليه الصلاة والسلام هي قصة تكوين الرجل الاقتصادي، لا بد أن يتكون من أول لحظة إلى آخر لحظة، موسى الذي يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، يرى أحد المتخاصمين من شيعته، والآخر من عدوه، يقتتلان، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فوكزه موسى فقضى عليه، هذا واقع، وهذا واقع ثقافي فاسد، فالتربية، هذا العمل الذي قام به موسى، حين وكز هذا الرجل، كان عملا سلبيا، ولكن القرآن قدم لنا به درسا، ماهو الدرس: ( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين)، هنا سيتغفر ربه، وسيطلب أنه بما أنعم الله عليه فلن يكون ظهيرا للمجرمين، ولكن التربية الفاسدة والدخول في هذا النفق، نفق القتل، من قتل أول مرة يدخل في نفق خطير جدا، ولذلك بمجرد أن رأى رجلا ثانيا في الغد، في اليوم الثاني، فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، هنا سيتكلم العدو، سيقول له أمرا لم يخطر على باله، ( ياه)، كيف، أنت موسى رجل صالح ونراك من المحسنين، ماذا تريد أن تفعل، هذا ليس من شيم الصالحين، هذا طريق الفراعنة، ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)، إذن هنا يقدم القرآن قراءة جديدة، هذه القراءة الجديدة ماذا تقول، إن الأمر ليس هذا عدو وهذا من شيعة، القضية أنك قتلت نفسا وستقتل نفسا أخرى).
وأما التصريح الثاني، فقد ذكر فيه بوهندي أن " القول بالعصمة هو انتقاص من كمال الأنبياء، وأن النبي محمد – عليه الصلاة والسلام – كامل وليس معصوما، وأن الله اختاره وسائر الأنبياء للرسالة لعلمه بكمالهم، وليس لأنه يعصمهم ويتحكم فيهم، كما يتحكم البشر في الروبوهات، لأن للرسول عقلا وقلبا وفؤادا، وبالتالي فالقول بالعصمة بهذا المفهوم هو انتقاص من كمال الرسل".
وقد وقع الدكتور بوهندي فيما ذهب إليه في أخطاء بالجملة، وخالف معتقد أهل السنة في الأنبياء، في أمور عدة، نوردها على النحو الآتي:
الخطأ الأول: ينكر بوهندي أي خصوصية للأنبياء، وأي اختلاف بينهم وبين سائر الناس، فهم – في زعمه – بشر كسائر البشر، لا يتميزون عنهم بميزة، ولا يفضلونهم بفضيلة، ولا ينفردون عنهم بشيء، ولذلك، فهم – بتعبيره - " يتعثرون بكل ما يتعثر به البشر، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتكونون بجميع ما يتكون به البشر"، هكذا بهذا التعميم والتعتيم، ودون تفصيل أو تمييز لما يجوز في حقهم من الخطأ، وما لا يجوز، كل ذلك من أجل الطعن في عصمتهم ببعض الأخطاء الاجتهادية التي يسميها العلماء ب " خلاف الأولى"، وبعض المخالفات الصغيرة غير المقصودة، التي لا تتنافى مع العصمة ولا تقدح فيها، والتي ضخمها بوهندي تضخيما، حتى حولها إلى جرائم وكبائر، كما ورد في تقييمه لقتل موسى للقبطي. وانظر كيف جعل من عبارة " يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" بيانا لعبارة " يتعثرون بكل ما يتعثر به البشر"، مع ما بينهما من بون دلالي شاسع، إذ تدل الأولى على بشرية الرسل، وأنهم يجري عليهم من الأعراض والصفات الخلقية – بكسر الخاء – ما يجري على سائر البشر، كالأكل والشرب والمرض غير المنفر والزواج وغيرها، في حين تنفي الثانية، كما هو ظاهر كلام المصرح، أي تميز خلقي – بضم الخاء – للأنبياء عن سائر البشر، وهذا زعم باطل لم يقل به قبل بوهندي أحد، وإنما المتفق عليه عند الأمة علماء وعامة في موضوع عصمة الأنبياء: أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يتعلق بتبليغ الوحي، فلا يتصور منهم كذب، أو غفلة، أو نسيان، وقد تواترت الدلائل الشرعية على إثبات ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم، وحق سائر الأنبياء، ومن تلك الدلائل ما وعد الله به نبيه من عصمته من النسيان قال تعالى:(سنقرئك فلا تنسى) (الأعلى:6)، ومنها تزكية الله له من جهة البلاغ عنه، قال تعالى: ( وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى) (النجم:3- 4).
هذا فيما يتعلق بحال الأنبياء في تبليغ الوحي، أما ما سوى ذلك من أحوالهم، فمذهب السلف من أهل السنة والجماعة: أن الرسل بشر، يعتريهم ما يعتري سائر البشر من العوارض والأمراض، إلا أن الله يعصمهم من كبائر الذنوب، والصغائر التي تدل على خساسة الطبع، صيانة لعلو مكانتهم، وحرصا على أن يكونوا في منزلة الإمامة والقدوة لسائر الناس.
وأما صغائر الذنوب التي لا تدل على خساسة قدر، وضعة منزلة، والتي تكون في بعض الأمور الاجتهادية التي لا نص شرعي فيها، فمذهب السلف جواز وقوعها من الأنبياء، إلا أن الله لا يقرهم عليها، بل سرعان ما ينزل الوحي مصححا وهاديا، وقد ذكر الله لنا بعضا مما وقع من أنبيائه، مما عاتبهم عليه وأرشدهم فيه: من ذلك قوله تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: ( عبس وتولى (1) أَن جاءه الأعمى) (عبس:1-2)، وسبب نزولها أن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى أتى النبي يستهديه، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لانشغاله بدعوة سادات قريش، فنزل عتاب الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك عتاب الله لنبيه في قبول الفدية عن أسرى المشركين في بدر، قال تعالى: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) (الأنفال:67).
وفي صحيح السنة نماذج أخرى من أخطاء الأنبياء الاجتهادية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة ) رواه البخاري ومسلم.
فهذا بعض ما ورد في الكتاب والسنة، مما يثبت جواز وقوع الخطأ اليسير والاجتهادي في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مع التأكيد أن ذلك غير قادح في عصمتهم ومنزلتهم ووجوب الاقتداء بهم، كما قال تعالى:( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدهْ) (الأنعام:90) ، ذلك أن الله لا يقرهم على خطأ، بل ينزل الوحي هاديا ومرشدا.
وأما الحكمة من جواز وقوع الخطأ اليسير منهم فذلك من رحمة الله بهم، حيث لم يحرمهم من أعظم العبادات وأحبها إليه سبحانه وهي التوبة والإنابة، وقد وصف الله خليله إبراهيم – عليه السلام – بأنه: ( حليم أواه منيب) ( هود: 75)، وقال صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) رواه البخاري.
الخطأ الثاني: يفهم من كلام الدكتور بوهندي جواز وقوع الأنبياء في الكبائر، بدليل ما ورد في تصريحه من قتل موسى عليه السلام للقبطي، وما صدر منه في حق موسى عليه السلام من الكلام الذي لا يليق بمسلم عادي أن يقوله، فضلا عن أن يكون أستاذا باحثا في مقارنة الأديان، من قبيل قوله: " ولكن التربية الفاسدة والدخول في هذا النفق، نفق القتل، من قتل أول مرة يدخل في نفق خطير جدا، ولذلك بمجرد أن رأى رجلا ثانيا في الغد، في اليوم الثاني، فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، هنا سيتكلم العدو، سيقول له أمرا لم يخطر على باله، ( ياه)، كيف، أنت موسى رجل صالح ونراك من المحسنين، ماذا تريد أن تفعل، هذا ليس من شيم الصالحين، هذا طريق الفراعنة". والذي يظهر أن بوهندي لا يفرق في سير الأنبياء، بين مرحلة ما قبل البعثة وما بعدها، ولا يدري أن قتل موسى للقبطي كان قبل بعثته ونزول التوراة عليه، وأنه كان قتلا خطأ لم يقصده موسى عليه السلام، ولا خطط له، ولا فكر فيه مطلقا، وإنما حصل منه في لحظة تسرع وغضب، كان يريد فيها فض الشجار بين الرجلين، وصرف القبطي عن العبراني، فوكز القبطي وكزة أدت إلى موته، ولم يقصد ذلك أبدا، ولذلك ندم في الحال، واعترف أن ذلك ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (15)، واستغفر الله ووعده عدم نصرة الظالمين: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)، وذلك ما ذهب إليه كبار المفسرين في فهم الآيات:
قال الإمام الشوكاني في " فتح القدير": " لم يقصد موسى قتل القبطي، وإنما قصد دفعه فأتى ذلك على نفسه، ولهذا قال ( هذا من عمل الشيطان)، وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل، لأنه لم يكن إذ ذاك مأمورا بقتل الكفار. ( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)، فغفر الله له ذلك، (إنه هو الغفور الرحيم)، ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين، أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر، لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به، ومعنى ( فاغفر لي): فاستر ذلك علي لا تطلع عليه فرعون، وهذا خلاف الظاهر فإن موسى- عليه السلام - ما زال نادما على ذلك خائفا من العقوبة بسببه، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها ، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح. وقد قيل : إن هذا كان قبل النبوة، وقيل: كان ذلك قبل بلوغه سن التكليف وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل".
وقال العلامة بن عاشور في " التحرير والتنوير": " كان هذا قتلا خطأ صادف الوكز مقاتل القبطي، ولم يرد موسى قتله"... وجملة ( قال هذا من عمل الشيطان) مستأنفة استئنافا بيانيا، كأن سائلا سأل: ماذا كان من أمر موسى حين فوجئ بموت القبطي؟. وحكاية ذلك للتنبيه على أن موسى لم يخطر بباله حينئذ إلا النظر في العاقبة الدينية، وقوله هو: كلامه في نفسه. والإشارة ب ( هذا) إلى الضربة الشديدة التي تسبب عليها الموت، أو إلى الموت المشاهد من ضربته، أو إلى الغضب الذي تسبب عليه موت القبطي. والمعنى: أن الشيطان أوقد غضبه حتى بالغ في شدة الوكز. وإنما قال موسى ذلك، لأن قتل النفس مستقبح في الشرائع البشرية، فإن حفظ النفس المعصومة من أصول الأديان كلها. وكان موسى يعلم دين آبائه لعلمه بما تلقاه من أمه المرأة الصالحة في مدة رضاعه وفي مدة زيارته إياها".
الخطأ الثالث: ويكمن في تفريق بوهندي بين كمال الرسل وعصمتهم، وادعائه أن القول بالعصمة هو انتفاص من كمال الرسل، لأنهم يصبحون حينها – بتعبيره - أشبه ب ( ربوتات) يتحكم فيها الله عز وجل، دون وعي ولا إرادة منها، ودون أن يكون لها دخل في الموضوع. ومثل هذا الفهم أقل ما يقال عنه، أنه كلام سخيف مضحك، يدل على جهل مطبق فاضح، وعلى جرأة زائدة جاهلة، فإن كمال الرسل ليس كمالا ذاتيا ناتجا عن إرادة وكسب منهم كما يفهم من كلام بوهندي، وإنما هو محض هداية وتربية وعناية ربانية، يحيط بها الله رسله، ويكلأهم ويرعاهم بها، بدء باصطفائهم من أزكى الأصلاب وأطهر الأرحام، ومرورا بما يهيئه لهم من البيئة الصالحة والتربية الحسنة، لصناعتهم على عين الله، وإنباتهم نباتا حسنا، وانتهاء بما يكلفون به من أنواع الرياضة الروحية وتزكية النفس، للارتقاء بهم في مدارج الكمال الخلقي والروحي. ثم إن مدد الله لرسله لا ينتهي باصطفائهم للرسالة، وبإنزال الوحي عليهم، وإنما يستمر هدايات تترى، ورحمات تتنزل، وإرشادا لا يتخلف، وتسديدا لا ينقطع، وحفظا دائما مستمرا من أذى الخلق ووساوس الشيطان، فإذا لم يكن كل هذا عصمة فما هي العصمة إذن؟. وهذا الذي ذهبنا إليه، هو منطوق عشرات النصوص الشرعية الصريحة، والتي نذكر منها:
- قوله سبحانه في حق نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) ) ( الضحى: 6- 8).
- قوله تعالى في سورة طه في حق نبيه موسى عليه السلام: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38) أنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي( 39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى( 40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)).
فمثل هذه النصوص وغيرها كثير، تدل دلالة صريحة قطعية، على أن الله تعالى، يصنع الرسل على عينه، ويكلأهم برعايته، ويبلغهم من منازل الكمال والرفعة ما شاء عز وجل، فإذا لم تكن هذه هي العصمة، فما معنى العصمة إذن؟.
ولا بد من الإشارة إلى أن الأخطاء الثلاثة التي ذكرناها، إنما تمثل الزلات الكبرى والأساسية للدكتور بوهندي في تصريحيه، وإلا فللرجل أخطاء أخرى بالجملة لا يتسع المقام لذكرها.
وفي الختام فإن المرء ليحار، فإن وهو ينظر إلى جرأة البعض واقتحامهم، لكثير من المباحث والمواضيع، التي فيها من النصوص الصريحة القطعية العشرات، بمجرد الخرص والتخمين، مع قلة زاد ونقص بضاعة، ويتساءل عن المقاصد والدوافع، وعمن يشجع ويدعم، نسأل الله أن يثبتنا على الحق، حتى نلقاه وهو راض عنا، لا مبدلين ولا مغيرين، ولا فاتنين ولا مفتونين، آمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.