إن هدفنا الأسمى هو إنزال الاجتهادات البشرية منازلها، وغايتنا العليا هي الذب عن الجناب النبوي، ومرمانا الأعظم هو تأكيد عصمة القرآن وحده. وإذا كانت هذه المقاصد لا تتحقق إلا بإعادة الشيخين، البخاري ومسلم رحمهما الله، إلى حجمهما الطبيعي كرجلين عظيمين، اجتهدا فأصابا الحق كثيرا واستحقا الأجرين، وجانباه حينا فنالا الأجر الواحد، وكانت تلك الأهداف لا تدرك إلا برد بعض أحاديث الكتابين، فالنقل والعقل يوجبان ذلك دون مين. وعندما نتجرأ على معاكسة التيار، ونطعن في سقيم الأخبار، المصححة عند الحفاظ الكبار، فلسنا من رافضي الآثار، بل هي الغيرة على مقام وسنة النبي المختار. وإذا تكلمنا بصيغة الجمع، فإننا لا نتعالم أو نختال، بل هكذا هو الأسلوب الشائع في الكتابة، وهو أفضل عند البلغاء والعقلاء من استعمال صيغة المفرد، لأن الإفراد تمحيض للأنا، والجمع إخفاء للأنا في المجموع، لكن الباحثين عن الهفوات لا يفهمون الموضوع. إننا نعرف حجمنا، ولا يدور بخلدنا أن نبخس العظماء أو ندعي التشبه بهم، لكننا نبحث عن الحق بقلوب صافية، وعقول متحررة من التعصب والتقليد فيهدينا ربنا إلى ما نراه صوابا وفق المعايير العلمية والمبادئ الشرعية. إننا طلاب علم مبتدئون في المجمل والعموم، لكننا إذا كتبنا في موضوع محدد، فإننا لا نفعل حتى نقتله بحثا من غير تعصب ولا اغترار بالسابقين، واضعين نصب أعيننا أن الحق قد يكون مطويا منسيا مهجورا بفعل عوامل التاريخ والصراع المذهبي، مفترضين أن الأعلام لم يمحصوه ولم يحرروه بموضوعية، أي أننا نعتمد منهج الشك، لذلك نتوصل إلى نتائج قد تكون اليوم شاذة صادمة، لكنها ستكون مستقبلا حقيقة ثابتة. وكلنا يعرف باحثين حاصلين على الدكتوراة في العلوم الإسلامية، بعضهم أساتذة جامعات، لا يحسنون الكلام في أيسر أبواب الفقه كأحكام السهو في الصلاة، لكنهم علماء في مواضيع أطروحاتهم، فبعضهم أفنى سنوات من عمره في تحقيق موضوع بحثه حتى صار أعلم به من كبار العلماء، فيضيف ويجدد ويكتشف الخلل. إن العالم عالم في الجملة، والعالمية لا تعني أنه حقق ودقق في كل المواضيع والأبواب، وربما يكون الطالب المجد أعلم من شيوخه بمسألة اجتهد في تحريرها. وهذا الذي قلناه محل تسليم من الموافق والمخالف، لذلك لا يعقل أن يعترض علينا أصحاب العواطف بأن السابقين لم يتركوا لنا مجالا للاستدراك وإعادة البحث والتحقيق، فهو كلام يخفي التقليد والتعصب المقيتين. وإذا كان "القنعاس" لغة هو الجمل الضخم العظيم، وكان إطلاق "القناعيس" على كبار العلماء كناية عن عظمتهم وسعة علمهم، فإن "الجدع" وصف يطلق على ذكر الغنم وغيره عندما يستوي ويشتد عوده، ويستعمله إخواننا المصريون كناية عن الشجاعة والفتوة، فإذا جاز إطلاق لفظ "القنعاس" على العالم الكبير، جاز وصف الطالب الباحث "بالجدع"، فافهم ولا تجزع. عصمة البخاري عقيدة عملية: عصمة صحيح البخاري عند أهل التعصب والتقليد على مرتبتين: الأولى: ادعاء صحة كل أحاديث الجامع الصحيح، دون فصل بين الأصول والشواهد والمعلقات، إلا ما صرح الإمام البخاري بتضعيفه، ثم مهاجمة كل من يقدح في هذه القاعدة الكلية ونعته بأقبح النعوت. الثانية: ادعاء صحة كل الأحاديث التي خرجها البخاري في الأصول، وكل المعلقات التي صدرها بصيغة الجزم كقوله "روى فلان" أو "قال فلان"، والإقرار بوجود الروايات الضعيفة في غير الأصول، والزعم بأن البخاري لم يخطئ في إيرادها، وأنه ذكرها لبيان ضعفها فلا يلام، ثم إعلان الحرب والإرهاب على كل من تسول له نفسه مخالفة هذه المسلمة كأنها قرآن كريم. والنتيجة الجامعة بين المرتبتين، هي الجزم بأن الإمام البخاري لم يخطئ في شيء من جامعه أبدا، ولم يتكاسل أو يتعصب لمذهبه... وجمهور علمائنا رحمهم الله، لا يخرجون عن هذين المرتبتين، فتجدهم يستعظمون القول بأن الإمام أخطأ لما أورد المعلقات الضعيفة والشواهد السقيمة في كتابه. وتراهم يبالغون في تبرير وجود الروايات الضعيفة عند البخاري بما يضحك الأطفال، حيث يبحثون عن المعاذير الفارغة، ويعلنون النفير العام ضد من يخطئ الإمام. ولو أن علماءنا قالوا: ذكر البخاري للروايات الضعيفة المنكرة، كأكذوبة الانتحار وخرافة السحر، هفوات وزلات من الإمام، مغمورة في بحر حسناته ومحاسن كتابه، لهان الخطب وقضي الأمر، وسكت الناقد وهدأت العواصف. وإذا لم يكن ما ذكرناه تقديسا مبالغا فيه للإمام رحمه الله، وتأكيدا لعصمته من الأخطاء العلمية، فليس هناك تقديس مذموم. هذا، وقد كان العلماء المعاصرون للبخاري العارفون به، ثم أئمة التحقيق من بعدهم، يعظمون شخص البخاري، ويقرون له بالإمامة والورع، لكنهم كانوا لا يترددون في تخطئته ونسبة الأوهام إليه. فالإمام ابن أبي حاتم الرازي ألف كتابا سماه: "بيان خطأ البخاري في تاريخه"، جمع فيه تعقبات أبيه وأبي زرعة الرازيين على "التاريخ الكبير للبخاري"، والرازيان إمامان معاصران للبخاري، وهما من أعلم المحدثين بالرجال والعلل، ويقدمان عليه من بعض النواحي، فلا كلام. ثم جاء بعدهما أمير المؤمنين في الحديث أبو الحسن الدارقطني المتوفى سنة 385 ه فألف كتاب "الإلزامات والتتبع"، ضمنه فصلا كبيرا تحت عنوان: ( ابتداء ذكر أحاديث معلولة اشتمل عليها كتاب البخاري ومسلم أو أحدهما بينت عللها والصواب منها ) أورد فيه أكثر من مائتي حديث موجودة في الصحيحين، رأى الدارقطني أنها معلولة، أي فيها علل قادحة، وخطأ الشيخين بسببها. والخلاصة أن الإمام البخاري أخطأ عند الرازيين في الحكم على بعض الرجال رواة الأحاديث، وأخطأ عند الدارقطني في أسانيد ومتون بعض أصول وشواهد الجامع الصحيح، وأصاب فيما سوى ذلك. فهل ابتدعنا شيئا؟ وهل خرجنا عما قاله كبار أئمتنا؟ وهل كان هؤلاء العظماء أهل زيغ وتمرد على هوية الأمة؟ وبالمناسبة، فالمتعصبون للبخاري معتقدو عصمته، عمليا، يخطئون أبا حاتم وأبا زرعة الرازيين والدارقطني رحمهم الله، ويزعمون أن الصواب مع البخاري في كل ما انتقدوه عليه، فكيف تنتظر منهم أن يتقبلوا نقدا وتخطئة من جاهل أمي مثلي؟ الضعف بمراتبه موجود في أصول البخاري: إذا تجاوزنا المعلقات والبلاغات، فهل ما أورده الإمام البخاري في "الأصول المسندة المتصلة" كله صحيح خال من العلل؟ أم يمكن أن يكون تسرب إليها شيء من الروايات المنكرة بله الضعيفة؟ أما العقل والمنطق فيقولان ابتداء: "الجامع الصحيح" اجتهاد فرد إنسان، والإنسان مجبول على النقصان، والنقصان تقليد وتكاسل وغفلة ونسيان... فلا بد أن يوجد فيه الضعيف مهما عاند فلان. وأما الواقع الملموس، فيدلنا على أن في أصول الصحيح الشاذ والمقلوب والمنكر والمكذوب المدسوس، ومعاذ الله أن نقلد ونتعصب ونهجر المعقول والمحسوس. وقد مثلنا لذلك في مقال "تنقيح الصحيحين" بحديث: "لولا حواء..." وحديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، وسنمثل له بإذن الله وتوفيقه، في مقال مستقل، بأسطورة خضوع النبي صلى الله عليه وسلم للسحر. وبالنسبة لأصحاب التبرير والتهويل والتقديس، فيتجاهلون ما رده أئمة مذاهبهم الفقهية من الأحاديث الأصول في الصحيح بسبب الشذوذ أو الاضطراب أو مخالفة عمل أهل المدينة... وهو كثير غير يسير. ثم يحتجون على الذين يقبلون معظم أحاديث البخاري، رحمه الله، ويرفضون شيئا يسيرا منها لضعفها، بحجج فارغة نورد أشهرها مع بيان هشاشتها: الحجة الأولى: قالوا: البخاري إمام عظيم مشهود له بالتقوى والعلم، وكان رحمه الله أحفظ الناس وأعرفهم بالحديث الشريف. ويقال لهم: هذه حجة فاسدة، فمحل النزاع هو وجود الأحاديث الضعيفة من عدمه في كتاب الإمام، وليس هو منزلة الرجل الدينية والعلمية. ثم إنكم تعلمون أن الإمام أحمد كان أزهد وأعبد أحفظ وأعرف بعلوم الحديث من البخاري، بل ما الأخير إلا تلميذ لأحمد وأمثاله من الكبار، وأنتم تقرون بوجود الضعيف والموضوع في "المسند الحنبلي"، فهل ذلك توهين من الإمام وحط من قدر كتابه؟ وهل يتنافى وجود الضعيف مع عبادة وإمامة مولانا أحمد؟ والنتيجة المنطقية: تضعيف بعض أحاديث "الجامع الصحيح" لا يمس رتبته بين كتب السنة، ولا يقدح في إمامة صاحبه شأنه شأن الإمام أحمد ومسنده. الحجة الثانية: رووا عن الإمام إبراهيم بن معقل أنه قال: سمعت محمد بن إسماعيل الْبُخَارِيّ يَقُول: مَا أدخلت في كتابي "الجامع "إِلا مَا صح، وتركت من الصحاح لحال الطول. وعن محمد بن يوسف الفربري: قال لي محمد ابن إِسماعيل الْبُخَارِيّ: مَا وضعت في كتاب "الصحيح" حديثا إِلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. ثم احتجوا بهذين النصين على صحة كل أحاديث البخاري، والحق أنها لا تسمن ولا تغني، لأنها شهادة رجل لصالح كتابه، والشهادة للنفس لا تقبل مهما كان صاحبها إلا أن يكون نبيا. ولو تسامحنا وقبلنا شهادة الإمام لنفسه، فأقصى ما يفيده قوله رضي الله عنه: (ما أدخلت في كتابي "الجامع" إِلا ما صح)، أن الأحاديث الواردة في كتابه صحيحة عنده هو، أي حسب ما أداه إليه اجتهاده، والأمة ليست ملزمة باجتهاد أحد، والعلماء الذين ضعفوا بعض أحاديث الجامع، كالدارقطني وابن حزم وغيرهما، لم يردعهم ما شهد به الإمام لكتابه، فلنا فيهم أسوة. وإمامنا مالك رضي الله عنه ورحمه كان موقنا بصحة أحاديث "الموطأ"، لكنه عارض أبا جعفر المنصور لما أراد فرضه على الأمة، لأنه عمل بشري يحتمل الخطأ والصواب. وأما قول البخاري رضي الله عنه: (ما وضعت في كتاب "الصحيح" حديثا إِلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين)، فشهادة ثانية للنفس، ويبدو أن كلامه خرج مخرج التغليب والتكثير، كقولك أكلت السمكة كلها وأنت لم تأكل عظمها وشوكها، ولو قبلناه لما كان حجة على خلو الجامع الصحيح من الضعيف والموضوع، فمنتهى ما يدل عليه هذا الكلام هو ربانية الإمام وتوكله على الله وتأدبه الشديد مع سنة رسول الله الشريفة. ولو أن مولانا علي بن أبي طالب ألف كتابا، واشترط على نفسه أن لا يكتب فيه شيئا حتى يقوم الليل ويصوم النهار، لما كان ذلك حجة على عصمة عمله من الخطأ والنسيان، لأنه عمل فرد واحد معرض للنقصان. ثم إذا فرضنا أن البخاري كان يستخير الله في كل حديث، فمن أين نعرف أن الله ألهمه تخريج كل حديث حديث؟ ومن أدرانا أنه كان يخشع في كل صلاة استخارة؟ ومن يضمن لنا أنه لم يكن يسارع للكتابة قبل أن يلهم الصواب؟ ومن يقطع بعصمة قلبه وعقله من وسوسة الشيطان وتخييلاته؟ إن القواعد العلمية هي الفيصل، والبخاري ليس نبيا حتى نأمن إلهامه وكشفه، ومعلقاته الضعيفة، ثم بعض متونه المنكرة، كأكذوبة الانتحار وفرية السحر، أقوى برهان على أن اجتهاده وإلهامه ليسا معصومين. الحجة الثالثة: قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: قال أبو جعفر العقيلي: لما صنف البخاري كتاب الصحيح، عرضه على ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة.ه وبناء على هذه الرواية قرر جمهور العلماء أن الأمة تلقت صحيح البخاري بالقبول، ولوحوا بها ضد أي صوت يتوجه بالنقد الموضوعي للكتاب. ونجيب عليها بالآتي: أولا: هذه الرواية لا تصح بحال، فأبو جعفر العقيلي لم يكن حاضرا لأنه لم يلق ابن المديني وابن حنبل وابن معين، ولم يذكر لنا من حدثه بها، فنحترم شخصه ونضعف قصته ونعدها من مبالغات العلماء، ولو صحت هذه القصة لشاعت وانتشرت في الآفاق لجلالة أبطالها. والعلماء الذين يستدلون بها ثم لا يبينون ضعفها، لا يحترمون المبادئ والأسس العلمية، ويستغلون جهل غير المتخصصين بعدم ثبوتها فيدلسون عليهم، غفر الله لنا ولهم. ثانيا: لم يخبرنا العقيلي رحمه الله عن الأحاديث التي ضعفها هؤلاء النقاد وغيرهم، ولا وجه ترجيحه تصحيحها، فلا عبرة بقوله، ويبقى كل حديث من أحاديث الجامع مرشحا ليكون من ضمن الأحاديث الأربعة المضعفة. ثالثا: إذا صحت هذه الرواية، فهي دليل على عدم صحة كل أحاديث الجامع الصحيح، وهي حجة على المتعصبين المقدسين لو كانوا يعقلون، ومن قدم رأي البخاري على شيوخه الثلاثة فهو معتوه لأنهم كانوا أجل منه، وما هو إلا تلميذ نجيب لهم. رابعا: لو صحت الرواية، ووافق هؤلاء الأئمة البخاري في تصحيح أحاديثه كلها، لما جاز عد ذلك برهانا علميا وشرعيا على صحة كل روايات البخاري، لأن العبرة بمدى توفر شروط الصحة من عدمها، وليس بموافقة جماعة من الأئمة مهما كان شأنهم. خامسا: في الجامع أكثر من أربع معلقات ضعيفة، وفيه بلاغات ومراسيل معلولة، وفيه شذوذات واضطرابات باعتراف الحفاظ المحققين، فتكون قصة العقيلي من جملة الأساطير لأن أمثال هؤلاء الأئمة لا يمكن أن يوافقوه على تصحيح ما رواه بأسانيد منقطعة. سادسا: إذا صحت القصة، فالمقصود أنه عرض عليهم كتابا، أي فصلا، من كتب الجامع الصحيح لا كل الجامع، فخالفوه في أربعة أحاديث، وهذا أقرب للمنطق والعقل. وإلا فهؤلاء الأئمة تجنبوا إحراج البخاري فاكتفوا بتضعيف أربعة أحاديث، وهذا ما يفعله كبار العلماء اليوم، يتقدم إليهم مؤلف بكتاب جديد خال من الفائدة أحيانا، كثير الأخطاء العلمية، فيمدحون العمل وصاحبه تأدبا ومداراة. نقول منسية دالة على بشرية الإمام وقصور عمله العظيم: تجد في ترجمة البخاري رحمه الله شهادات يوردها العلماء دليلا على إمامته وحفظه وجلالة قدره، وهي في الواقع كاشفة لبشريته الناقصة، شاهدة للمنتقدين على المتعصبين. فنقلوا عن أحيد بن أَبي جَعْفَر والي بخارى أنه قال: قال مُحَمَّد بن إِسمَاعِيل يوما: رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر. قال: فقلت له: يَا أَبَا عَبد اللَّهِ بكماله؟ قال: فسكت.ه قلت: المعاصرون يحذفون سؤال والي بخارى، ويستدلون بالجزء الأول على حفظ البخاري، وقد أشرنا في مقال "التنقيح" إلى أن اضطراب بعض متون كتابه وغموضها وعدم تمامها نتائج سلبية لتعويله على الحفظ وإهماله الكتابة أثناء مجالس السماع من شيوخه، وسكوته رحمه الله عن اعتراض والي البخاري برهان صريح على ما قلناه، والإقرار سيد الأدلة، فثبت وجود نوع من الخلل في جانب من أحاديث الجامع، يكشف عنه التحقيق العلمي المتحرر من العاطفة والتهيب من العظماء. وعن مُحَمَّد بن أَبي حاتم الوراق قال: كَانَ أَبُو عَبد اللَّهِ إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحِد، إِلا في القيظ أحيانا، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إِلَى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا بيده، ويسرج، ثُمَّ يخرج أحاديث فيعلم عليها، ثُمَّ يضع رأسه. وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، وكان لا يوقظني في كل مَا يقوم، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هَذَا ولا توقظني؟ قال: أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك. ورأيته استلقى على قفاه يوما ونحن بفربر في تصنيف كتاب "التفسير"، وكان أتعب نفسه في ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث. فقلت له: يَا أَبَا عَبد اللَّهِ سمعتك تقول يوما: إِنِّي مَا أتيت شيئا بغير علم قط منذ عقلت، فأي علم في هَذَا الاستلقاء؟ فَقَالَ: أتعبنا أنفسنا في هَذَا اليوم، وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو فأحببت أن أستريح وآخذ أهبة ذلك، فإن غافصنا العدو كان بنا حراك.ه قلت: تدل هذه الرواية على فناء الإمام في خدمة العلم النبوي، لكنها تكشف أحد أسباب قصوره في تحرير وتحقيق أسانيد ومتون بعض مروياته. فالإمام ينتبه من النوم ويكتب ما حدثته به نفسه أو تراءى لمخيلته في المنام، ومحال أن يفعل ذلك في حال من الوعي والإدراك التامين. ثم إن المقولة تكشف لنا أن الإمام كان يتعب نفسه ويجهدها كثيرا، والإثقال عدو الإتقان، فلا جرم ينسى ويخطئ في الجامع والتاريخ وغيرهما. قراءة تجديدية في حكم المعلقات والبلاغات التي لم يضعفها البخاري صراحة: شاع بين العلماء ويشيع أن البخاري رضي الله عنه لم يشترط الصحة إلا في الأحاديث الأصول المسندة، أي ما يرويه بأسانيده عن شيوخه عن شيوخهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأحاديث التي رواها منقطعة غير متصلة كالمعلقات والبلاغات والمراسيل لم يشترط فيها الصحة، لذلك فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنكر أحيانا. وبناء على التفرقة بين "الأحاديث الأصول" وبين غيرها من المعلقات والبلاغات، فإنهم يبرئون الإمام البخاري من الخطأ، ويشنعون على من ينتقد إدخاله الضعيف المنقطع في كتابه العظيم، وهذا عين التقديس والعصمة. إنهم يزعمون أن إيراد الحديث معلقا في "الصحيح" تضعيف له غير صريح من الإمام، فلا يخطأ ولا يلام. ويستدلون على هذه الفكرة التقديسية باسم الكتاب وعنوانه، وهو: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه". قالوا رحمهم الله ويقولون: عبارة: (المسند الصحيح) صريحة في أن البخاري لم يشترط الصحة إلا في الأحاديث المسندة، أي المتصلة الخالية من الانقطاع. ثم أضافوا إليها كل المعلقات المصدرة بصيغ الجزم، واستثنى بعضهم شيئا منها. وإذا كان إحقاق الحق جهادا، وكان السكوت عنه تشبها بالشيطان، فهذا الذي قالوه أكبر تدليس وتحريف مارسه متأخرو المحدثين، وأعظم البدع السيئة في تاريخ علم الحديث، والبخاري رحمه الله بريئ من ذلك، وكذلك أوائل المحدثين زمن الإمام وبعده إلى القرن السادس الهجري. فوجب بيان الحق للأمة، وتنبيه الباحثين المتحررين من الهوى والتقليد، إلى قراءة جديدة لعنوان كتاب البخاري فتح الله بها علينا، نحمده ونشكره على كرمه، وندعو طالبي الحق للتفاعل معها وتأملها بقلوب طاهرة وعقول متحررة، فالأمر دين وأمانة، ونتحدى بكل تواضع أن يدحضها المخالفون المتشككون في حقراء عباد الله بالمنطق والعقل، فنقول متوكلين على الله: اسم كتاب البخاري هو: (الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله...) والمحدثون لا يقفون عند عبارة (المختصر) وقفة تأمل وتدبر أبدا، بل يركزون على (الجامع) و(الصحيح) و(المسند)، فينسبون إلى البخاري أنه لم يشترط الصحة إلا فيما أسنده، وهم مخطئون في ذلك، بل معتدون على قصد المؤلف مناقضون له. والصواب أن عبارة (المختصر)، التي يتجاهلونها ويتجاوزونها كأنها غير موجودة، تعني أنه اختصر بعض الأحاديث بحذف أسانيدها خشية طول الكتاب، وهي (المعلقات). وهذه المعلقات صحيحة عند البخاري سواء صدرها بالجزم أو بالتمريض، إلا المعلقات التي أوردها وضعفها صراحة، وهي نادرة ذكرنا مثالين لها في مقال "تنقيح الصحيحين". والتمييز بين صيغتي الجزم والتمريض اصطلاح حادث بعد البخاري لم يخطر بباله، بدليل وجود الضعيف في المعلقات بصيغة الجزم ووجود الصحيح في المعلقات بأسلوب التمريض كما أفاد الحافظ ابن حجر. فقول الإمام رحمه الله: (الصحيح المسند المختصر) يريد به أن أحاديث كتابه صحيحة عنده سواء كانت مسندة، أي مذكورة بأسانيدها، أم مختصرة أي محذوفة الأسانيد. وإطلاق وصف الاختصار على الكتب المحذوفة الأسانيد أمر شائع بين المحدثين. ودليلنا على هذه القراءة الجديدة، رغم أنف المحجرين لرحمة الله، هو الآتي: الدليل الأول: تصريح الإمام في أقواله المتقدمة، حيث يقول: (ما أدخلت في كتابي "الجامع "إِلا مَا صح، وتركت من الصحاح لحال الطول). فقوله رحمه الله: (ما أدخلت في كتابي "الجامع "إِلا مَا صح) نص صريح في صحة كل أحاديث الجامع من غير تفرقة بين المسند المتصل والمعلق والبلاغ، ومن غير تمييز بين المعلق بصيغة الجزم والمعلق بصيغة التمريض. وقوله: (وتركت من الصحاح لحال الطول) تأكيد لما سبق، فهو يفيدنا أن معلقاته ومراسيله وبلاغاته أصح من الأحاديث المتصلة التي لم يخرجها، وأن لفظة "المختصر" تعني حذف أسانيد المعلقات اختصارا، وهو ما يؤكده قول جَعْفَر بْن مُحَمَّد الْقَطَّان إمام الجامع بكرمينية: سمعت مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الْبُخَارِيّ يَقُول: كتبت عَنْ ألف شيخ وأكثر، مَا عندي حديث إِلا أذكر إسناده.ه ومن عاند وكابر فليجب على هذا الإشكال: صرح الإمام البخاري بأنه ترك أحاديث كثيرة صحيحة لم يخرجها في كتابه، وبعضها يتصل بمهمات الدين، نجدها عنده في كتبه الأخرى، ثم أورد المعلقات والبلاغات مع السكوت عنها، فما تفسير ذلك إذا لم يكن يشترط الصحة في أحاديثه غير المسندة؟ وعليه، فالإمام ينقض قول المحدثين بأنه لم يدخل المعلقات وأشباهها للاحتجاج، ويرفض ادعاءهم وجود الضعيف فيما أورده معلقا ولم يضعفه. والنتيجة أنهم يرفضون دعواه تلك، ويخالفون نفيه وجود المعلقات والبلاغات الضعيفة، فيحق للباحثين والعلماء اليوم، أن يوسعوا الدائرة فيخالفوه في دعوى صحة أحاديثه الموصولة إذا تبين لهم ضعفها. هذا، والحافظ ابن حجر الذي هو واحد من النافين لاشتراط الصحة في غير المسندات، يتذبذب ويضطرب أحيانا، فتجده يقول عكس ذلك، فها هو يقول في مقدمة فتح الباري: (الفصل الثاني في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه وتسمية المؤلف لكتابه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنته وأيامه): تقرر أنه التزم فيه الصحة وأنه لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا، هذا أصل موضوعه، وهو مستفاد من تسميته إياه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وسننه وأيامه، ومما نقلناه عنه من رواية الأئمة عنه صريحا.ه قلت: انظر إلى تجاهله رحمه الله لعبارة: (المختصر). ثم يعود فيقول: ظهر لي أن البخاري مع ذلك فيما يورده من تراجم الأبواب على أطوار، إن وجد حديثا يناسب ذلك الباب ولو على وجه خفي ووافق شرطه أورده فيه بالصيغة التي جعلها مصطلحة لموضوع كتابه وهي حدثنا وما قام مقام ذلك، والعنعنة بشرطها عنده، وإن لم يجد فيه إلا حديثا لا يوافق شرطه مع صلاحيته للحجة كتبه في الباب مغايرا للصيغة التي يسوق بها ما هو من شرطه، ومن ثمة أورد التعاليق كما سيأتي في فصل حكم التعليق.ه قلت: قوله: (ظهر لي) صريح في أن البخاري لم يصرح، وأنه فهم واحتمال خاص بالحافظ ابن حجر، فلا تلزمنا موافقته لأن فهمه ليس حجة، وما أخذناه من كلام البخاري الصريح أولى بالاعتماد. ثم إن الحافظ يعترف بصلاحية المعلقات للحجة عند البخاري، أي أنه أوردها محتجا بها ومستدلا على ما يراه ويعتقده. فيكون مثله مثل الأئمة الذين رووا الأحاديث الضعيفة محتجين بها. وعليه، فالبخاري يلام على تخريج المتون المنكرة القادحة في العصمة وغيرها، كخرافة الانتحار، لأن سكوته عن تضعيفها قرينة على احتجاجه بها وتصديق مضامينها. الدليل الثاني: يشتمل صحيح البخاري على كثير من الموقوفات المسندة، أي أقوال الصحابة المروية عنهم بالأسانيد المتصلة، وعلى بعض المقطوعات، أي كلام التابعين وفتاواهم. والمحدثون يعتبرون تلك الموقوفات والمقطوعات المتصلة صحيحة بدعوى أن البخاري اشترط الصحة في كل رواه. أي أنهم تجاهلوا عنوان كتابه هذه المرة، فهو لم يشر من قريب أو بعيد لاشتراط الصحة في الموقوف والمقطوع، بل قوله: (... من أمور أو حديث رسول الله ...) صريح في أنه لا يشترط الصحة إلا في الروايات المرفوعة إلى النبي عليه السلام. هذا ما يفيده اسم الكتاب، أما صحة الموقوفات والمقطوعات التي لم يضعفها، فتستفاد من قوله خارج "الجامع الصحيح": (ما أدخلت في كتابي "الجامع "إِلا مَا صح). إذا كان كذلك، فهذا الكلام يفيد أيضا صحة كل المعلقات والبلاغات التي لم يضعفها الإمام صراحة، وإلا فالموقوفات والمقطوعات المسندة ليست صحيحة كلها، وهو ما يرفضه المحدثون. أرأيت الهوى والتعصب أيها القارئ؟ ونحن في انتظار من يقنعنا بتهافت قراءتنا من خلال كلام الإمام نفسه، لا بالاعتماد على أقوال الرجال، فقد جربنا عليهم التقليد والاغترار والتقديس والخبال، ومن استفزته هذه الجرأة فليشنق نفسه بالحبال. عودة إلى أكذوبة الانتحار: في مقال "الانتحار"، ضربنا مثالا لخبر منقطع سندا منكر متنا، مناقض للقرآن والسيرة والعلم والعقل، أصر الإمام البخاري على تشويه كتابه العظيم بروايته رغم عدم الحاجة إليه. ولم يشر الإمام إلى كونه "بلاغا" ضعيفا كما يدعي الأحبة المبررون، بل ساقه مساق التسليم والتصحيح، فاستحق العتاب رحمه الله، لأن موضوع البلاغ عظيم الخطر على مقام النبوة. وسمع بعض الطيبين الشيخ الحويني المصري، متعه الله بالعافية، يدافع عن "البلاغ"، ويبرر وجوده في صحيح البخاري، تبعا لكلام شيخه الألباني رحمه الله، فطاروا فرحا بكلام الرجلين وصاروا يرددونه دون تمحيصه والتأكد من صدقيته، لأنهم بحاجة إلى أي تبرير يحول دون الإقرار بصدور هفوة من إمام كبير غير معصوم. إن الألباني والحويني يقولان ما مضمنه: الإمام البخاري يحصر شرط الصحة فيما أسنده من أحاديث تسمى الأصول، بدليل اسم كتابه: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، أما المعلقات والبلاغات فإنه لم يشترط فيها الصحة، وقصة الانتحار من البلاغات، فلا يعاب على الإمام أن يرويها، ولا يقدح في كتابه إيرادها. بل زعما ما لم يخطر على أي محدث سابق، فيما نعلم، فادعيا أنه لا يجوز أن نقول عن المعلقات والبلاغات: رواها البخاري في صحيحه. وهذا كله غلط من الشيخين، إليك البيان: أولا: تقدم أن الأخبار المختصرة صحيحة عند البخاري، فنسبتها إليه متجهة عند العقلاء قبل الأغبياء، ويستحسن أن يقال: رواها البخاري معلقة أو بلاغا. ثانيا: إذا كان الإمام البخاري يعرف بطلان قصة الانتحار لانقطاع سندها، فلماذا أوردها في كتابه رغم عدم الحاجة إليها؟ ولماذا لم يصرح بضعفها كما فعل مع بعض المعلقات الأقل شأنا وخطرا على الدين؟ ثالثا: ظاهر سياق الأكذوبة عند البخاري أنها مسندة متصلة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والإمام البخاري لم يفصلها عن حديث بدء الوحي، ولم يوضح أنها من كلام الإمام الزهري، ولولا عبارة: "فيما بلغنا" الموجودة وسط المتن، ودون نسبتها لقائلها، لما عرف العلماء أن الخرافة زيادة مرسلة وبلاغ زهري شبه الريح. وقد توهم الحافظ شمس الدين الذهبي، وهو من هو، أنها متصلة صحيحة لأنه لم ينتبه لتلك العبارة الكاشفة للانقطاع، وأوردها المؤلفون في السيرة والتاريخ مسلمة بناء على ورودها في الصحيح. رابعا: إذا كان الجامع الصحيح مقصورا على الأحاديث المسندة، فلماذا ملأه البخاري بمئات المعلقات والبلاغات والمراسيل حتى اضطر الحافظ ابن حجر لوضع كتاب "تغليق التعليق" في مجلدات؟ خامسا: المعلقات والبلاغات المصدرة بصيغ الجزم صحيحة عند المدافعين، وخرافة الانتحار يرويها البخاري عن الزهري بصيغة الجزم دون بيان ضعفها، فهي مقبولة عنده صحيحة عند مبتدعي صحة كل مصدر بصيغة الجزم. وأراني مضطرا لإعادة ذكر الأسطورة كما جاءت في صحيح البخاري، مع حذف وسط القصة اختصارا، حتى يدرك القارئ المنصف حجم التدليس والتقديس عند إخوتنا وعلمائنا: قال البخاري رحمه الله: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب. وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء (...) ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل (...) فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.ه وبعد، ألا يدل صنيع البخاري على أن القصة مسندة متصلة؟ وهل يستطيع أحد أن يدرك انقطاعها لولا عبارة (فيما بلغنا)؟ وهل هي صريحة في أنها من كلام الإمام الزهري لولا القرائن التي ذكرناها في مقال "الانتحار"؟ وأين هي الصيغة الدالة على تضعيف البخاري للخرافة؟ وهل يترجح من هذا السياق أنها مقبولة لديه؟ والخلاصة أن الإمام البخاري يلام على مزج الصحيح بالضعيف، وخلط المتصل بالمنقطع العجيف، وأن مقولة "صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله" خرافة ساذجة، وأن عبارة: "كل ما في كتاب البخاري صحيح" أكذوبة معوجة، وأن مسلمة: "تلقي الأمة للكتاب بالقبول" فرية مرتجة. وقفة مع كلام سيدي عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله: ساق أحد الأحبة كلاما للحافظ العلامة عبد الله الغماري في شأن حديث الانتحار، محتجا علينا به فقال: قال العلامة عبد الله بن الصديق الغماري: "همّ النبي صلى الله عليه وسلم بالانتحار لا يعيبه لوجوه: أحدها: أن الهم بالمعصية لا ينافي العصمة ... ثانيها: أن الانتحار لم يكن محرما في ذلك الوقت، وإنما نزل تحريمه بعد ذلك في المدينة بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم). ثالثها: أن قتل الإنسان نفسه شرع لبني إسرائيل في توبتهم من عبادة العجل.ه وهاك الجواب: سيدي عبد الله الغماري إمام محقق كبير، تعلمنا من كتبه وأفدنا، وهو شيخ شيخنا بالإجازة العامة المكتوبة الإمام المحدث عبد الله التليدي بارك الله في عمره، وأمده بالعافية، فنتشرف بالانتساب إليه، لكن منهجنا واحد لا يتغير، وهو تخطئة المخطئ مهما كان قدره وشرفه، وقد أخطأ رحمه الله فيما قال من وجوه، وما تعلمنا الجرأة في نقد العظماء نقدا علميا إلا منه وأمثاله، فلا مجال لإرهابنا بأقوال من تعلمون أنهم محل تعظيم عندنا. ومن تجرأ على تخطئة أئمة أجل من الحافظ عبد الله، كالبخاري والذهبي وابن حجر، بل والصحابة رضي الله عنهم، فلا يلعب معه إلا واهم، ولا يحتج عليه بكلام الرجال إلا غافل. لقد تعلمنا أن القول بدليله لا بقائله، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى الكلام. ثم نعود لكلام العلامة الغماري، جعلنا الله في زمرته مع النبيئين والصديقين، فنقول: أولا: سيدي عبد الله لم يحقق المسألة كعادته، ولم ينتبه لخطورة الأكذوبة، بدليل أنه يتحدث عن "الهم" بالانتحار لا عن تكرار محاولة تنفيذ الانتحار، والأكذوبة تتضمن المحاولة المتكررة لا "الهم"، والإمام الغماري يرى "الهم" دون "العزم" وأقل درجة منه، فقال رحمه الله في كتاب "بدع التفاسير ص69" عن يوسف عليه السلام: (وهم بها) هم بمخالطتها (لولا أن رأى برهان ربه) لخالطها، والمراد أن نفسه مالت إليها بحكم الطبيعة البشرية كما يميل الصائم للماء البارد مثلا، لكنه لم يعزم.ه قلت: هذا الكلام لم ينقله لنا الأخ المحترم، وهو صريح في أن الذي يجيزه الغماري هو "الهم" دون "العزم"، وقد جوزنا في مقال "الانتحار" "الهم" ومنعنا "العزم" عند شرح "النزغ"، فلا يتعارض كلامنا مع كلام شيخا مشايخنا في هذه الناحية. ثانيا: الإمام الغماري رد أحاديث صحيحة الأسانيد في كتاب "الفوائد المقصودة" بسبب الشذوذ والنكارة، وكلها أخف شذوذا وأقل نكارة من أكذوبة الانتحار، ثم نراه يدافع عن بلاغ الزهري الضعيف المنكر، فهو ذهول وقصور منه رضي الله عنه. وبالمناسبة، فحديث الانتحار لم يورده العلامة في "الفوائد المقصودة" كما يوهم صنيع الأخ المحترم في مقاله، لأنه لم يشر إلى مصدر كلام الإمام، وأورده بعد ذكر رسالة "الفوائد"، ولم أستحضر أين قاله، وقد جربت البتر والتدليس والتحريف على الناقل، فأخشى أن يكون مارس شيئا من ذلك في حق سيدي عبد الله. ثالثا: العلماء يصيبون في التنظير ويخطئون في التنزيل والتطبيق، والعلامة الغماري واحد منهم، فهو يقول في كتاب "بدع التفاسير" ص 94: ما يمس العصمة ويتصل بصميم العقيدة، لا نقبل فيه المسندات الصحيحة، فضلا عن المراسيل. وأول نكارة في تلك القصة تسلط الشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء شيء على لسانه وهو لا يعلم، مع أن من البدهيات العقلية عصمة النبي من الشيطان، فكيف تمكن منه في هذه الحادثة؟ه قلت: شد يدك على هذا الكلام النفيس، واضرب صفحا عن كلامه حول قصة الانتحار، فهي تمس العصمة وتتصل بصميم العقيدة وتتضمن تسلط الشيطان على النبي عليه السلام، ثم إسنادها شبه الريح لا شيء. رابعا: قوله رحمه الله: (الانتحار لم يكن محرما في ذلك الوقت، وإنما نزل تحريمه بعد ذلك في المدينة بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم). خطأ فاحش من إمام كبير، وقد ذكرنا ما يبطله في مقال الانتحار، ولم يرد عليه المخالف بما يقنع الصبيان، فانظره أيها القارئ مشكورا. ثم إن القرآن المكي يشتمل على آيات كثيرة تحرم القتل مطلقا فتشمل الانتحار وغيره، ويبطل كلام العلامة، لأن العام يبقى على عمومه ما لم يرد مخصص. وقوله: (قتل الإنسان نفسه شرع لبني إسرائيل في توبتهم من عبادة العجل) متفرع عن قاعدته الشاذة القائلة بنفي المجاز والاستعارة عن آيات قصص الأنبياء والأمم السابقة، وهي قاعدة حاول الإمام ترسيخها في كتاب "بدع التفاسير" بحجج ضعيفة مختلة، وسامحه الله إذ جعل قبول المجاز في تلك الآيات بدعة أطبق المفسرون عليها حسب قوله، والحق أن قاعدته هي "البدعة"، والمجاز أولى في قصص السابقين لأنه أقدر على نقل المعاني وتصويرها لطول الفترة الزمنية بيننا وبين الماضي السحيق. وتذكر أيها القارئ أن الآية لا تدل على تشريع قتل النفس لبني إسرائيل، فقد أبطلنا ذلك في مقال "الانتحار"، ثم إن الرواية الإسرائيلية المعتمدة في تفسير الآية بذلك تتضمن نسخ خرافة قتل النفس، أي أن آخر ما شرع لبني إسرائيل هو تحريم الانتحار، فتكون القصة الإسرائيلية دليلا على تحريمه في الشريعتين السابقتين على شريعة الإسلام، وهو ما طالبنا به الناقل. واعلم أن قتل النفس لأجل التوبة، على فرض صحة الرواية الإسرائيلية، أو تسليم النفس للإعدام عند الإجرام، غير الانتحار حزنا وكآبة، فلا وجه لاستشهاد العلامة عبد الله الغماري بآية بني إسرائيل على إمكان تفكير النبي في الانتحار، فهو غفلة وزلة من عالم كبير رحمه الله.