يرفض مقدسو الصحيحين الإقرار بوجود الروايات الضعيفة والمنكرة فيهما، ويتهمون من يدعو لمراجعة أحاديثهما بألوان من التهم الخرقاء. وإن الغيرة على سنة نبينا عليه الصلاة والسلام هي الدافع إلى حدة موقفنا، فأي رواية منكرة المتن تنسب إليه، تؤدي إلى الشك في نبوته والطعن في مجمل أخباره، أو تدفع نحو اعتناق المذاهب المخالفة. بل إن مراجعة الصحيحين، على ضوء المعايير الشرعية والعقلية، تؤدي إلى إثبات صحة معظم أحاديثهما وقلة الروايات الواهية فيهما، وفي ذلك تمتين لمنزلة صاحبيهما وتبرئة لهما، بل تلك المراجعة أعظم شكر نتقدم به إليهما رحمهما الله، فالرجلان اجتهدا وقدما للأمة عصارة علميهما، ولم يدعيا خلو كتابيهما من الخطأ، وعلى العلماء والباحثين أن يدرسوا مواضع الانتقاد عليهما بعيدا عن العاطفة والتعصب لمعرفة وجه الحق فيها. ولا مجال للزعم بأن المحدثين السابقين راجعوا أحاديث الصحيحين فتأكدوا من سلامتها، فدون ذلك خرط القتاد، والحافظ ابن حجر الذي يشهر اسمه في وجه الباحثين المتحررين، اعترف بوجود الضعيف بمراتب مختلفة عند البخاري، لكنه تكلف في التبرير حينا، ولم ينتبه لروايات شديدة النكارة حينا، وأخطأ في التقدير والتوجيه كثيرا، وكان مدفوعا في كل ذلك بالحفاظ على قداسة الجامع الصحيح التي تقررت قبله، ولم يكن بإمكانه التمرد عليها، وهو شافعي على مذهب البخاري، رحم الله الإمامين. وبين أيدينا رواية مكذوبة على حبيبنا رسول الله، وضعها زنادقة اليهود للتشكيك في عصمة نبينا عليه السلام، ولقنوها للرواة الحريصين على رواية كل غريب جديد على المجتمع. وبالمنطق نفسه، أي الحرص على رواية الغرائب، كان الإمام ابن شهاب الزهري رحمه الله يروي تلك الخرافة، وهو يعرف بطلانها، ومن غير تفكر في نتائجها الكارثية. ومن باب الأمانة العلمية الساذجة، أو من باب تصديق ما يرويه إمام كبير كالزهري، تتابع المحدثون على حكاية الأكذوبة، فأخرجها عبد الرزاق في مصنفه، وأحمد بن حنبل في مسنده وغيرهما. ثم جاء الإمام البخاري، وهو بشر يخطئ ويقلد ويغتر مهما كابرتم، فلم ينتبه لخطورة تلك القصة المفبركة، أو دفعته جلالة راويها فصدقها، أو حفزته الأمانة العلمية الساذجة، فأخرجها في صحيحه. واستقبل العلماء "الطيبون" تلك الخرافة بناء على ورودها في "أصح الكتب" بعد كتاب الله حسب معتقدهم، وبالغ بعضهم في الدفاع عن تخريج البخاري لها، وتكلف آخرون التأويلات الفارغة والتبريرات السفيهة. وهكذا راجت الأكذوبة على المسلمين رغم أنها رواية منقطعة السند، يعرف المختصون في الحديث ضعفها المشدد. كيف لا، وقد تربوا على أن صحيح البخاري خال من الضعيف والموضوع، وصموا آذانهم عن كل صوت عاقل مؤمن ببراءة النبي المتبوع. الرواية الأكذوبة: روى البخاري في الحديث رقم6581 من طريق عبد الرزاق قال: حدثنا معمر قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق - حتى بلغ - علم الإنسان ما لم يعلم }. فرجع بها ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة فقال: ( زملوني زملوني ). فزملوه حتى ذهب عنه الروع. الحديث قال الزهري في آخره من غير سند: ( وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا. فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك). قلت: حديث أم المؤمنين صحيح ثابت، وزيادة الزهري موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك حذفها الإمام مسلم، حيث روى الحديث بطوله تحت رقم 422 من طريق الإمام الزهري مسقطا زيادته المنكرة. ولولا أنها باطلة معلولة عنده ما أسقطها، فإنه امتاز عن شيخه برواية الحديث تاما كما وصله بواسطة شيوخه. وهذا تصرف إيجابي يحسب للإمام مسلم، فإن جلالة الزهري لم تجعله يتهيب من حذف الخرافة حماية لمقام النبوة. وقد أخطأ البخاري رحمه الله لما أوردها في كتابه، ولا مبرر له إلا أنه كان يصدقها ولا يراها مناقضة للعصمة. ويقال لمن يبررون عمل البخاري بالأمانة العلمية: إن البخاري اختصر متون عشرات الأحاديث مما أدى لغموضها، وغير الألفاظ في بعض الروايات، كما أنه أخفى بعض الأسماء ووضع بدلها كلمة "الرجل" أو "فلان" حماية لجلالة أصحابها، وخالفه تلميذه مسلم، فكان يروي المتون تامة من غير تصرف، لذلك اتفقت كلمة المحدثين على تفضيل صحيح مسلم من جهة الصنعة، أي حسن الترتيب والسياقة للمتون، حتى قال أحد علماء المصطلح الحديثي: تنازع قوم في البخاري ومسلم ... لدي وقالوا أي ذين يقدم فقلت لقد فاق البخاري صحة ... كما فاق في حسن الصناعة مسلم قلت: يشترط البخاري ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه، ويكتفي مسلم بإمكان اللقاء مع البراءة من التدليس، وهذا ما جعل العلماء يفضلون كتاب البخاري على صحيح مسلم. والحق أن مسلما لم يخرج عمن تعاصرا ولم يلتقيا إلا في مواضع نادرة من صحيحه، والنادر لا حكم له. وصحيح البخاري محشو بمئات المعلقات والبلاغات الضعيفة، ويختصر المتون، ويبهم الشخصيات، وهي عيوب شبه معدومة عند مسلم، فوجب تفضيل كتابه ليحل بعد الموطأ، وهو ما كان عليه أسلافنا في المغرب والأندلس قبل أن تنتصر مدرسة الشافعية في الحديث والأصول. ويدافع العاطفيون عن تصرف البخاري في المتون، فيقولون إنه كان يجيز الرواية بالمعنى، وأنه كان يكتفي خلال مجلس السماع من شيوخه بالحفظ والفهم، ولا يكتب في سجلاته إلا بعد أيام أو شهور، ويعدون ذلك من مناقبه وآيات حفظه الخارق. إن الإمام البخاري عندنا حافظ كبير مصدق مأمون، لكنه كان بشرا يتعرض للنسيان والغفلة، ويسمع الحديث الطويل أحيانا فيسيء فهم بعض معانيه، فإذا تأخر عن كتابته ازدادت نسبة النسيان والخطأ لا محالة، لذلك كان يتصرف في المتون، وينسى أسماء الشخصيات الواردة فيها، ويخطئ في ترجمة ما سمعه أحيانا، ومن قارن بعض رواياته التي سمعها من شيوخه المصنفين كالحميدي صاحب المسند، وقف على نماذج تؤكد بشرية الرجل: نسيانه وخطأه وسوء فهمه للمعنى أحيانا. وإذا كانت عادة تلميذه أن يكتب مسموعاته في مجلس الإملاء مباشرة، فتلك مزية له على شيخه، فكيف تريدون منا أن نفضل روايات البخاري حين يختلفان ويتفاوتان؟ أوليس هذا تعصبا وتلاعبا بالعقول؟ وإذا لم تكن لكم رغبة في تحرير عقولكم من وهم عصمة أحاديث البخاري، فالعقلاء غير مستعدين لمجاراتكم في الحماقة والهبل، والأمة لا يمكن أن تبقى مكبلة بالزلل، وهي ماضية صوب المنبع الأحلى من العسل، فإن شئتم اللحاق بها وإلا فتشبثوا بالعطب والخلل. وأضرب مثالا صريحا على الفرق الهائل بين تصرف البخاري وحسن صنعة مسلم: أخرج البخاري في الحديث رقم 3500 عن أبي حازم أن رجلا جاء إلى سهل بن سعد فقال: هذا فلان، لأمير المدينة، يدعو عليا عند المنبر، قال: فيقول ماذا؟ قال: يقول له أبو تراب، فضحك، قال: والله ما سماه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان والله له اسم أحب إليه منه. الحديث قلت: لن تفهم شيئا من جملة: (هذا فلان، لأمير المدينة، يدعو عليا عند المنبر، قال: فيقول ماذا؟ قال: يقول له أبو تراب)، ولا من جملة: (فاستطعمت الحديث سهلا)، ولن تدرك أن صهر المعصوم كان ميتا عند حدوث القصة، إلا بالرجوع إلى صحيح مسلم الحديث رقم 6382 عَنْ أَبِى حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ - قَالَ - فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا - قَالَ - فَأَبَى سَهْلٌ، فَقَالَ لَهُ أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَقُلْ: لَعَنَ اللَّهُ أَبَا التُّرَابِ. فَقَالَ سَهْلٌ: مَا كَانَ لِعَلِي اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِى التُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِي بِه. الحديث قلت: لم يتفرد مسلم بهذه الرواية التامة، فأخرجها الحاكم في المعرفة، والبيهقي في السنن، وابن عساكر في التاريخ، فلا يجوز للشيعة اتهام كل علمائنا بإخفاء الحقيقة التاريخية. وتوضح رواية مسلم التامة أن شيخه نسي لأنه لم يكن يكتب، أو تعمد التستر على هذه الحقيقة المرة، وهي: كان الفسقة من أمراء دولة معاوية بن أبي سفيان رحمه الله، يسبون مولى المؤمنين عليا رضي الله عنه، ويحرضون على ذلك، كما في قصة سهل، تقربا إلى معاوية وتثبيتا لملكه، ومنهم مروان بن الحكم الأموي. وسب مولانا علي أو التشجيع عليه، شعبة من النفاق، ويؤديان حتما إلى القدح في أصحابه ثم في معاوية، لأنه كان المسئول الأول عن صنيع أمرائه. وهذه النتائج الحتمية كانت تؤرق العلماء عامة، والمحدثين خاصة، لذلك تصرف بعضهم في المرويات بالاختصار والإبهام والتعمية حتى لا تكون مطية للقدح فيمن يرونهم مجتهدين متأولين، زعموا. والإمام البخاري كان من هذه البابة، ولم يكن ناصبيا أبدا، حاشاه رحمه الله، لكننا لا نقره على نظرته للمسألة. والسؤال الآن: إذا لم يكن التصرف في حديث سهل مخالفا للأمانة العلمية، فلماذا لم يحذف الإمام بلاغ الزهري رغم أنه منقطع تالف؟ ألم يكن مقام النبوة أولى بالصيانة من منزلتي معاوية ومروان، غفر الله لهما؟ إن البخاري يصحح تلك الرواية رغم انقطاعها، ولا يراها منكرة قادحة في العصمة، لذلك حرص على روايتها. فهل نغتر به ونقلده؟ وهل يصح أنه استفرغ كل جهده في دراسة مرويات صحيحه سندا ومتنا؟ أسباب بطلان الرواية الزهرية وكونها مكذوبة: السبب الأول: مناقضة العصمة، والتشويش على النبوة: إن التفكير في الانتحار والعزم عليه ومحاولته، مراحل لا يبلغها إلا من استولى الشيطان على قلبه ووعيه تماما، وذلك محال شرعا في حق كل الأنبياء، فكيف إذا كان النبي هو من شق صدره الشريف منذ الطفولة، فغسل قلبه وحشي إيمانا وحكمة؟ إن وعي النبي وقلبه معصومان، والذين يجيزون تلك الرواية لا يستحضرون ما يعارضها من القرآن الصريح، لأنهم مغرمون بما يرويه البخاري في الصحيح، من غير فرز بين القبيح والمليح. وهذه آيات بينات تجعلنا نقسم بأغلظ الأيمان أن تلك الرواية كذب وبهتان: الآية الأولى: قال الله سبحانه في سورة الحجر، عن حواره مع إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الارْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُم أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ). أثبتت هذه الآية أن إبليس لا يمكن أن يتسلط على عباد الله المخلصين، فكيف يستولي على الأنبياء والمرسلين؟ وإذا لم يكن العزم على الانتحار ومحاولته رضوخا لغواية إبليس وانقيادا لسلطانه، فماذا يكون؟ الآية الثانية: قال الحق في "الأعراف": (خذ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ). وفي سورة "فصلت": (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). و(النزغ) هو الهاجس الذي لا يرقى إلى مستوى العزم والتخطيط بدليل قوله تعالى: (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا)، أي طيف وخيال يمر بالذهن ثم يغيب بسرعة. فأثبتت الآيتان أن أقصى ما يمكن أن يفعله الشيطان مع الأنبياء هو (النزغ). فهل العزم على الانتحار ثم مباشرته مرات وكرات (نزغ)، أي هاجس عابر، أم هو أرقى من ذلك بكثير؟ وقد تقرر أن الحديث إذا عارض صحيح المنقول، فهو مرذول غير مقبول، وإن رواه الثقات الفحول، فكيف إذا كان بلاغا مقطوع الأصول؟ ثم إن محاولة الانتحار تعني الإصابة بالحمق والجنون، وهما منافيان للعصمة، إذ لو صح ذلك المحال، لاهتبل به مشركو قريش وطاروا به أي مطار، ولاستندوا إليه في اتهام النبي بالجنون، ولكان لهم العذر في عدم تصديقه، إذ كيف يطمئنون لمصلح يحتاج إلى إصلاح نفسيته. وإن أحبار اليهود أهل مكر وخداع، ولديهم تجربة ناجحة في تحريف الديانتين الموسوية والمسيحية، وذلك بنسبة الأقوال والأخبار المكذوبة إلى أنبياء الله، فلما أرادوا تحقيق الهدف نفسه مع الحنيفية المحمدية، تظاهر بعض أحبارهم بالإسلام، وعاشوا بين صغار الصحابة والتابعين، وكانوا يخترعون الروايات الفاسدة، ثم يحدثون بها سذج المسلمين على أنها كلام سيد المرسلين، مستغلين ضعف خبرة الأجيال الأولى بمكر اليهود وطيبوبتهم، بدليل الكم الهائل من الإسرائيليات في كتبنا. وقد استطاع اليهود أن يستغفلوا سذج التابعين، وأن يمرروا عليهم الأخبار المتناقضة، والروايات المشوشة على عقائد الإسلام، ومنها أكذوبة الانتحار الدالة على قدرة تسلط الشيطان واستيلائه المتكرر على وعي المعصوم، والنتيجة أن من تسلط عليه إبليس مرة واحدة، فإن نبوته تحتاج إلى إثبات، وهو ما يقوله خصوم المسلمين اليوم، وحق لهم، فنحن الذين أسأنا إلى نبينا وآذيناه، فداه أبي وأمي، بما نسبناه إليه من أكاذيب وأراجيف. وإذا كان العلماء المتقدمون لا يرون خرافة الانتحار شبهة قوية حول عصمة وعي النبي، فلأن مجتمعهم كان مغلقا، وكانت دولتهم قوية. وإذا كانوا لم ينتبهوا لخطورتها على مستقبل الدين، فهم أضعف منا عقولا، وأقل ذكاء وفطنة، فلا نطمئن لاجتهادهم ولا نسمع لقولهم في هذا الباب. والحق أن بعض المسلمين العقلانيين كالمعتزلة، رفضوا تلك الخرافة، لكن الفقهاء عاندوا لأنهم كانوا يرون الاعتراف للمعتزلة بالصواب مرة واحدة يمنح مدرستهم قوة وشعبية، وهو عندهم أخطر من تدنيس مقام النبوة والتشكيك في سلامة الوحي، غفر الله لهم. السبب الثاني: مناقضة العلم والعقل: زعمت الخرافة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر بالانتحار فقط، بل حاول ذلك مرات كثيرة، فكان يذهب إلى قمم الجبال عازما على التردي الفعلي، لكن ظهور سيدنا جبريل كان يردعه ويطمئنه. وتقول الدراسات النفسية: إن الهم بالانتحار دون عزم عليه، أي أن يخطر هاجسه للمحة خاطفة، أمر مقبول من العظماء وغيرهم. أما التفكير الجدي والعزم على الانتحار من غير تنفيذ، فهو خلل نفسي خطير، شخصية صاحبه مهزوزة لا يوثق بها ولا يطمأن إلى تصرفاتها وأقوالها. وهذا المستوى لا يصيب أصحاب النفوس العظيمة الواعية. أما محاولة تنفيذ فكرة الانتحار، فلا يقدم عليها إلا من فقد عقله، وتحطمت نفسيته، وتلاشت آماله، وأظلمت الحياة لديه تماما واستحلى الموت بأي حال، وتكرار محاولة الانتحار يعني الجنون والحمق. وإذا علمت أن شخصية النبي مصنوعة على عين الله، فلا بد أن تكون نفسيته كاملة مطمئنة برية من العيوب والخلل، أي في أعلى درجات العظمة والوعي، فلا يمكن أن تتعرض للاهتزاز والاكتئاب فتفكر في الانتحار فضلا عن التخطيط ومحاولة التنفيذ، بله المحاولة المتكررة. وفترة الوحي ليست مصيبة داهية بالنسبة للنبي الذي فاجأه الوحي بغار حراء، بل هي راحة وفسحة، بدليل فزعه وخوفه الشديد من ثقل الأمانة التي أعلمه بها سيدنا جبريل، حتى إنه عاد إلى بيته مرتجفا من هول ما سمع. أي أن تلك الفترة كانت إيجابية ليلتقط النبي أنفاسه، ويبدأ الاستعداد النفسي والذهني للمستجدات. وعليه، فمعايير علم النفس ترفض الرواية جملة وتفصيلا، لأنها غير مفترضة في الشخصيات العاقلة العظيمة، وغير مبررة لانعدام الدافع المنطقي نحو التفكير ومحاولة الانتحار. فتسقط الرواية علميا ولو خرجها البخاري بسند نظيف، لأن القاعدة الحديثية تقول: إذا خالف الحديث صريح المعقول، أي العلم والعقل، فهو منكر مرذول. ومن نسب نفسه إلى معرفة علوم الحديث والأصول، ثم أنكر وجود هذه القاعدة، فهو كذاب أو معاند جهول، يحسن به أن يعلف الفول والبقول. السبب الثالث: سوء الأدب مع الله ثم مع جبريل: قدمت الخرافة سيدنا جبريل ومولانا محمدا في صورة صبيين يلعبان الغميضة، حيث كان أمين الوحي يختفي في انتظار صعود النبي قمة الجبل ليتردى منها فيتجلى له ويطمئنه، حدث ذلك مرارا حسب الأكذوبة. ويتأكد لدينا عناد علمائنا، أو تعطل مواهبهم العقلية بفعل سحر اليهود، عندما نطرح هذه الأسئلة المحيرة: أولا: لماذا كان الرسول يكرر المحاولة رغم أن جبريل طمأنه وأكد له نبوته؟ ألم تكن المرة الأولى كافية ليتخلى عن فكرة التردي؟ ثانيا: لماذا كان جبريل يختفي ولا يظهر إلا عند محاولة الانتحار؟ ألم يكن من الأفضل بقاؤه مع النبي حتى يبرأ من الفكرة الخبيثة؟ ثالثا: ما العلة وراء عدم ظهور جبريل للنبي بمجرد عزمه على مغادرة بيته في اتجاه الجبل؟ ألم يكن جبريل قادرا على ذلك؟ أم أنه كان يستحلي مشقة الحبيب؟ أم أن الله جل جلاله لم يكن يأذن لجبريل حتى يشقى النبي ويتعذب في تسلق الجبل الوعر؟ ألا يتعارض ذلك مع قوله سبحانه في سورة: "طه": (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)؟ إن علماءنا لم يكلفوا أنفسهم التفكير في هذه الإشكالات، وربما لم يلتفتوا إليها، ونتحدى المدافعين عن الأكذوبة أن يقدموا للأمة أجوبة مقبولة مقنعة بخصوص تلك الأسئلة. ونجزم أنهم لو انتبهوا إليها بعقول متحررة، لما ترددوا في إنكار خرافتهم وتكذيبها، ولو اتفق عليها كل المحدثين رواية وتصحيحا. ولو تأملوا لشموا رائحة اليهود المشهورين بالعداوة لجبريل عليه السلام، فإنهم قصدوا من جملة ما قصدوا تنفير المسلمين منه، وذلك بنسبة القسوة إليه ومشاقة نبي الأمة. بل إنهم أرادوا تشكيك المسلمين في حكمة الله جل جلاله، إذ ما وجه الحكمة من ترك النبي يصل إلى قمم الجبال قبل الإذن لجبريل بالتجلي؟ فالخرافة سوء أدب مع رب العالمين، وقدح في الملك الأمين، وتشكيك في عقل نبي الأميين، من فبركة الشياطين. السبب الرابع: مخالفة الأحاديث الصحيحة: من قواعد الصنعة الحديثية، أن الرواية الضعيفة سندا، إذا خالفت الرواية الصحيحة بالزيادة وغيرها، كان موضع المخالفة من الرواية الضعيفة منكرا واهيا باطلا. فهل احترم الإمام البخاري هذه القاعدة؟ وهل حاكم المحدثون روايته إليها؟ والجواب: كلا ورب الكعبة، وإليكم الرواية الصحيحة التي تقطع ببطلان بلاغ الزهري ونكارته: روى الطيالسي ح1688 وح1693، وأحمد بن حنبل ح14523 والبخاري ح4 وح4641، ومسلم ح426، والترمذي ح3325 وغيرهم عن سيدنا جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي، سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء الآن قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} ثم حمى الوحي بعد وتتابع. قلت: هذا الحديث يرويه الزهري وغيره عن أبي سلمة عن مولانا جابر، فأين كان عقله رحمه الله؟ وخرجه البخاري ثم لم يلحظ مناقضته للبلاغ المفبرك، فهل تزعمون بعد الآن أنه كان يدقق في كل رواية؟ وهذه أوجه الاختلاف بين حديث جابر وبلاغ الزهري المكذوب لتعلم أننا لا نتهم علماءنا بالتقصير تحاملا أو تعالما: أولا: ليس في حديث جابر أي إشارة للحزن بسبب فترة الوحي، ولا إلى التفكير في الانتحار بله المحاولة. ثانيا: لم يؤكد جبريل للنبي أنه مبعوث، وإنما تجلى له في صورته الحقيقية ليتأكد أن الرجل الذي جاءه في غار حراء ملك كريم، وما أخبره به في الغار كاف لتوكيد نبوته. وبلاغ الزهري يدعي أن جبريل كان يكرر للنبي الشهادة بالنبوة كلما أشرف على الانتحار. ثالثا: تجلي جبريل للنبي كان مرة واحدة، وكان النبي في مكة بعد نزوله من حراء، لا في قمم الجبال كما يصرح بلاغ الزهري. رابعا: حديث جابر يدل على أن النبي فزع من صورة جبريل حتى هوى إلى الأرض، ولم يقل له جبريل شيئا، فعاد إلى أمنا خديجة يرتجف من الهول، أي لم يكن تجلي جبريل من أجل طمأنته، بل مقدمة لينزل عليه بسورة المدثر، بينما يصرح بلاغ الزهري أن النبي كان مطمئنا ثابتا كلما تبدى له جبريل. خامسا: فترة الوحي كانت مرة واحدة، قصيرة حسب الصحيح، وذلك يمنع الحزن والانتحار المختلقين، وبلاغ الزهري يؤكد تكرر فتور الوحي، ومن ثم تهديد النبي بالانتحار. فهذه خمسة أوجه من التناقض تقضي بالحكم على بلاغ الزهري بالوضع والبطلان، ونسأل المتعصبة للبخاري وصحيحه: هل التزم البخاري والمغترون بالقاعدة المذكورة أعلاه؟ وإذا لم يفعلوا، فما هو تبريركم؟ وهل تقرون مخالفة البلاغ للصحاح؟ السبب الخامس: اضطراب الزهري في متن الخرافة: الزهري إمام حافظ متقن، لكنه سمع مئات الآلاف من الروايات، لذلك كانت تختلط عليه فيضطرب ويتناقض، وقد حدث له ذلك بخصوص قصة فترة الوحي، فرواها مرة خالية من خرافة الانتحار فأصاب. أخرج الإمام عبد الرزاق في التفسير3/360 عن معمر عن الزهري في قوله تعالى: (يا أيها المدثر) قال: فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم فترة، وقال: كان أول شيء أنزل عليه: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق) حتى بلغ: (ما لم يعلم) فلما فتر عنه الوحي، حزن حزنا، حتى جعل يغدو مرارا إلى رؤوس شواهق الجبال ليتبين خلفها، وكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فيقول: « إنك لنبي حقا، فيسكن لذلك جأشه، وترجع إليه نفسه » ورواه البلاذري في أنساب الأشراف1/108 من طريق سفيان عن معمر عن الزهري كذلك، فظهر تجويد عبد الرزاق له. وهذه الرواية تدل على أن فترة الوحي كانت مرة واحدة وقصيرة، فوافقت حديث جابر بن عبد الله الصحيح، وأظهرت أن النبي صعد الجبل بحثا عن جبريل ظنا منه أنه لن يراه إلا هناك، حيث بشره في غار حراء. فهي رواية مقبولة لا تتعارض مع حديث جابر الصحيح، ولا تتضمن ما يخدش مقام النبوة وعصمتها، فتكون دليلا على شدة ضعف بلاغ الزهري، ولم أر أحدا انتبه لهذه العلة، فحمدا لله على أفضاله. السبب السادس: انقطاع سند خرافة الزهري: روى الإمام الزهري تلك الأكذوبة من غير إسناد، فيكون السند معضلا، أي سقط منه راويان على الأقل، فالزهري من صغار التابعين، لا يروي عن الصحابة إلا نادرا، ويكون بينه وبين النبي ثلاثة رجال في الغالب. وأصرح دليل على أنه بلاغ منقطع، قوله: (فيما بلغنا) وعند ابن منده: (فيما بلغني)، وهو كلام لا تقوله مولاتنا عائشة كما توهم بعض الكبار، ثم إنه روي عن الزهري مرسلا، كما في تفسير عبد الرزاق وأنساب البلاذري، ورواه ابن جرير في "تاريخه" (2/305) من طريق محمد ابن ثور العابد الثقة عن معمر عن الزهري بلاغا من غير ذكر عروة وعائشة. فتحصل أن خمسة من الأئمة الثقات يروون القصة عن الزهري بلاغا، وهم سفيان وعبد الرزاق وعقيل ويونس وابن ثور، فلم يبق شك في انقطاعها. ويعترف كبار الحفاظ بذلك، لكنهم يسكتون على حقيقة مرة، وهي أن بلاغات الزهري ومراسيله شر أنواع البلاغات والمراسيل، فإنه كان يسمع الخبر من الضعفاء والمجاهيل الذين لا يرتضي الرواية عنهم، لكن إذا أعجبه الخبر رواه من غير ذكر شيوخه، وهو نوع من التدليس، لكنه يبرئ نفسه بالحيلة المذكورة، إذ يقول: (فيما بلغنا). وما قلناه عن بلاغات الزهري ومراسيله محل تسليم: قال البيهقي في المعرفة(1/432): فإن الزُّهْرِيَّ يَرْوِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ عَنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ، ثُمَّ يُرْسِلُ عَنْ مِثْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، وَهُوَ فِيمَا بَيَّنَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ضَعِيفٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ: مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وفي التقدمة لابن أبي حاتم ص246: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: هو بمنزلة الريح. ويقول: هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوا. وقال يحيى القطان كما في تاريخ دمشق55/368: مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يحسن أو يستجيز أن يسميه. والخلاصة: رواية الانتحار بلاغ أرسله الزهري، فهي لا شيء بل شبه الريح، أي أنها خرافة باطلة سندا، ثم هي موضوعة متنا. وقد سبقنا إلى ردها وتضعيفها جماعة من الباحثين، نذكر منهم: 1 العلامة الألباني في "دفاع عن الحديث النبوي1/40، والضعيفة3/160 و10/450، وحكم عليها بالنكارة والبطلان، وضعفها بالانقطاع ومناقضة أخلاق النبوة. لكن الشيخ زعم تفرد معمر بن راشد بها، وهو مقصر في البحث، ثم إنه نسي حكمه عليها بالبطلان، فأوردها في "صحيح السيرة ص88" من غير تنبيه ولا تحذير. 2 الدكتور أكرم ضياء العمري في كتاب "السيرة النبوية الصحيحة1/126، ضعفها بالإرسال ومناقضة العصمة. 3 الدكتور عبد الرحمن دمشقية في أحاديث يحتج بها الشيعة1/86، واعتمد على الألباني. 4 الدكتور علي الشحود في "المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين"2/266، ردها بضعف السند، واستحالة صدورها عن المعصوم. 5 الدكتور أبو شهبة في "السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة"1/265. أثر رواية البخاري للأكذوبة: تخريج البخاري للخرافة، (وكتابه أصح كتاب بعد القرآن)، جعل العلماء المتقدمين يصدقونها، ويسلمون بمضمونها الشيطاني، ويبحثون لها عن الشواهد والقرائن المؤيدة، فداسوا عصمة النبي الأكرم. وهكذا وردت الأكذوبة مقرونة بالتسليم أو التصحيح أو التبرير عند كثير من المفسرين في سورة العلق كابن كثير، وعند شراح البخاري كابن حجر، وعند المؤلفين في السيرة كابن عبد البر. وصححها من المعاصرين الشيخ شعيب الأرنؤوط في التعليق على مسند أحمد وصحيح ابن حبان. فظهر بالملموس أن وجود الروايات المنكرة في صحيح البخاري، خطر على الأمة والملة، لأنها تتلقى بالقبول فتعظم الزلة. ونذكر أقوال بعض الكبار الذين قصروا في البحث لتعرف أثر هيبة الصحيح: الحافظ شمس الدين الذهبي: قال رحمه الله في كتابيه سير النبلاء1/195 وتاريخ الإسلام1/119: قال الزهري عن عروة عن عائشة: وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وغدا مرارا كي يتردى من شواهق الجبال، وكلما أوفى بذروة ليلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا. فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال مثل ذلك. رواه أحمد في مسنده والبخاري.ه قلت: أعمت جلالة الصحيح هذا الإمام، فجعل بلاغ الزهري المنكر، كلاما لأم المؤمنين الصديقة، ولو استعمل جزءا ضئيلا من عقله لرأى استحالة صدور عبارة: (فيما بلغنا) عنها، فإن قائلها لا يمكن أن يكون صحابيا، فضلا عن أن يكون زوج رسول الله. ولو جمع الطرق لظهر له أنها قول مرسل للزهري. الحافظ البدر العيني: قال في عمدة القاري شرح صحيح البخاري(1 / 145): وهذا من بلاغات معمر ولم يسنده ولا ذكر راويه ولا أنه قاله، ولا يعرف هذا من النبي، مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر قبل رؤية جبريل عليه الصلاة والسلام كما جاء مبينا عن ابن إسحاق عن بعضهم، أو أنه فعل ذلك لما أحرجه تكذيب قومه كما قال تعالى: ( فلعلك باخع نفسك )، أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب، فخشي أن يكون عقوبة من ربه، ففعل ذلك بنفسه ولم يرد بعد شرع بالنهي عن ذلك فيعترض به، ونحو هذا فرار يونس عليه السلام حين تكذيب قومه والله أعلم.ه قلت: العيني رحمه الله يضعف السند لأنه منقطع، ويجعل البلاغ لمعمر بن راشد، لكنه لا يقنع، بل راح يقوي المتن بالفهم السقيم لقوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك)، وتعني لعلك مهلك نفسك، فتكون الآية في نظره شاهدة لمضمون خرافة الزهري، وهذا تحريف غير مقصود لكلام الله وقع فيه العيني وغيره، لأنهم يبترون الآية، ولا يفسرونها بمثيلاتها من كلام الله الحكيم، بل يستروحون إلى الروايات الباطلة. إن الآية جاءت هكذا في سورة الكهف: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا). وفي "الشعراء": (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). فدلت الآيتان على أن النبي كان يتألم ويتعذب نفسيا أسفا على قومه المعاندين، فأمره الله أن يترك ذلك رحمة بنفسه، وهو ما جاء صريحا في "سورة فاطر": (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). هذا ما فهمه المفسرون من الآية التي بترها العيني غفر الله له، ونرجو أن يتخلق علماؤنا بالشفقة على الناس مسلمين وكافرين، إن كانوا بنبينا مقتدين. وأضيف شاكرا فتح ربي الوهاب فأقول: قوله تعالى: (فلعلك باخع) أو (لعلك باخع) أو قوله: (فلا تذهب نفسك)، أسلوب يدل على المستقبل، فلا علاقة لها بالماضي، واسألوا البلاغيين والنحاة ثم تكلموا. فكأن الله الحكيم يقول لنبيه الكريم: إياك أن تؤذي نفسك بالحسرة الشديدة على قومك إذا لم يؤمنوا بك مستقبلا، لأن الهداية بيدي وما عليك إلا البلاغ. فتكون الآيات إشارات إلى أن أهل مكة لن يؤمنوا، وأن النبي سيضطر للهجرة، وهي بذلك تهيئة نفسية من الحكيم للكريم. ورواية الانتحار المزعومة كانت بعد نزول سورة العلق مباشرة، والآيات التي ذكرنا نزلت بعد المدثر والمزمل والضحى بزمن طويل، أي بعد انقطاع فترة الوحي. وتلك الآيات تدل على الاستقبال كما تقدم، فكيف يستشهد العيني وغيره بالآية على الماضي؟ أليس ذلك مثالا على أن العلماء يهرفون بما لا يعرفون أحيانا؟ وتشبيه أكذوبة الانتحار، بهجران سيدنا يونس للمشركين الفجار، دون إذن العزيز الجبار، تشبيه مضحك معيب صدوره عن رجل من الكبار. وأتفه منه خرافة عدم ورود تحريم الانتحار قبل فترة الوحي، فإن الأنبياء معصومون من الإقدام على التصرفات الجنونية قبل البعثة وبعدها، وإن حصرتم ذلك بما بعد البعثة، فنبينا كان مبعوثا منذ نزول سورة العلق، أي قبل التفكير المزعوم المكذوب. والنتيجة أن العيني أخطأ مرتين: الأولى عندما جعل البلاغ عن معمر بن راشد، والثانية لما دافع عن المتن بالترهات رغم شدة ضعف السند، فلا تكذبوا على الأمة وتزعموا أن أقوال المتقدمين هي المعتمد. الحافظ ابن حجر: تكلم الحافظ عن البلاغ الزهري في فتح الباري12/359، وخلص إلى النتائج الآتية: أولا: زعم أن معمر بن راشد متفرد برواية البلاغ عن الزهري دون عقيل ويونس، وهو مخطئ مقصر في البحث، فمعمر لم يتفرد برواية البلاغ عن الزهري، بل تابعه عقيل عند ابن منده في الإيمان2/693 ، ويونس عند الدولابي في الذرية الطاهرة1/33، وأبي عوانة في المستخرج1/102/328 وابن منده في الإيمان2/689، وتابعهم سفيان وابن ثور كما سلف. ونسبة الأخطاء إلى العظماء لا تنقص فضلهم إلا عند الحمقى والمغفلين، ولا تستفز إلا المتعصبين والمعاندين، ولسنا نلتفت إلى هؤلاء وأولئك بل ندعو لهم بالمغفرة وخلق المحسنين. ثانيا: رجح ابن حجر أن القائل: (فيما بلغنا) هو الإمام الزهري، ثم قال: وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا.ه وقد أصاب الحافظ في هذه الجزئية، فيا ليته لم يدافع عن المتن. ثالثا: لم يستنكر الحافظ متن الخرافة بل استفاض في شرحه، ودافع عن مضمونه وأيده بما يتنزه عنه الراسخون أمثاله، لكن هيبة الصحيح تعشي الأبصار، وتوقع في الأخطار. فمما قاله رحمه الله: أما الإرادة المذكورة في الزيادة الأولى، ففي صريح الخبر أنها كانت حزنا على ما فاته من الأمر الذي بشره به ورقة، وأما الإرادة الثانية بعد أن تبدى له جبريل وقال له: إنك رسول الله حقا، فيحتمل ما قاله يقصد الإسماعيلي المدافع عن الخرافة أيضا والذي يظهر لي أنه بمعنى الذي قبله، وأما المعنى الذي ذكره الإسماعيلي، فوقع قبل ذلك في ابتداء مجيء جبريل، ويمكن أن يؤخذ مما أخرجه الطبري من طريق النعمان بن راشد عن ابن شهاب، فذكر نحو حديث الباب، وفيه: فقال لي: يا محمد، أنت رسول الله حقا. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق جبل.ه قلت: فظهر أن عقل الحافظ يتقبل الأكذوبة رغم ضعف سندها، وتخلى عن الموضوعية فذكر طريق النعمان بن راشد، وسكت عن عللها القادحة، وهو تدليس. ومن القواعد المظلمة المقررة عند جمهور المشتغلين بالحديث، أن الحافظ إذا أورد في فتح الباري حديثا ثم سكت عنه فهو حسن عنده لزاما، لأنه حافظ متحر لا يسكت عن الواهيات، وكذبت القاعدة وأخطأ مروجوها. ونحن نسوق رواية النعمان ونذكر مطاعنها لتحذر تصرفات الحافظ، وتحتاط لدينك يا حامل المحافظ: قال الطبري في تفسير سورة العلق، وفي التاريخ1/531: حدثني أحمد بن عثمان البصري، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يقول عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان أوّل ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة؛ كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، فكان بغار حراء يتحنَّث فيه الليالي ذوات العدد(...) حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال: يا محمد أنت رسول الله، قال رسول الله: "فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتيَّ وأنا قائِمٌ، ثُمَّ رَجَعْتُ تَرْجُفُ بَوَادِرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، حتى ذَهَبَ عنِّي الرَّوْعُ، ثُمَّ أتانِي فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنا جِبْرِيُل وأنْتَ رَسُولُ اللهِ، قال: فَلَقَدْ هَمَمْت أنْ أطْرَحَ نَفسِي مِنْ حالِقٍ [مِنْ جَبَلٍ] ، فَتَمَثَّل إليَّ حِينَ هَمَمْتُ بذلكَ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنا جِبْرِيلُ، وأنْتَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قالَ: اقْرأ، قُلْتُ: ما أقْرأ؟ قال: فأخَذَنِي فَغطَّنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ قالَ:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) فَقَرأتُ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ. وفي آخره: ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ بعد اقْرَأْ: «ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ...»، و«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» و«وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى».ه هذه الرواية التي سكت عنها الحافظ ساقطة سندا منكرة متنا، إليك البيان: النعمان بن راشد الرقي ضعفه يحيى القطان وابن معين وابن حنبل والبخاري وأبو داود وابن حماد والعقيلي وابن شاهين، وفسروا ضعفه، فقال ابن معين: روى أحاديث مناكير. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال البخاري وأبو حاتم: في حديثه وهم كثير. وقال النسائي: كثير الغلط. والحافظ يعرف أقوالهم لذلك قال في التقريب: "صدوق سيء الحفظ". ومثله لا يصح حديثه إذا انفرد، أما إذا خالف الثقات، فروايته منكرة واهية، وقد خالف الأئمة الخمسة الرواة عن الزهري من عدة وجوه، فروايته باطلة لا تصلح في الشواهد، والحافظ يعرف هذا، فاستغفروا له، وهذه أوجه المخالفة: أولا: أسقط عبارة الزهري: (فيما بلغنا)، وجعل البلاغ موصولا عن عروة عن أمنا عائشة، وهذا وحده يقضي على ضبطه بالضعف الشديد. ثانيا: جعل قصة الانتحار قبل نزول سورة العلق، وذلك مخالف لرواية معمر وعقيل ويونس. ثالثا: دلت روايته على أن النبي هم بالانتحار لأن خبر النبوة أفزعه وفاجأه، بينما جعلته رواية الثلاثة ناتجا عن فترة الوحي. رابعا: زعمت روايته أن سورة "القلم" أول ما نزل بعد "العلق"، وقبل أو مع "المدثر" و"الضحى"، وهذا زيادة على رواية الجماعة، ثم إن "القلم" لم تنزل إلا بعد المدثر والضحى، فهي زيادة منكرة باطلة. خامسا: جعل نزول سورة "العلق" بعد واقعة "زملوني زملوني"، وهي مخالفة لكل الأحاديث الصحيحة في الموضوع. وقد سبق الشيخ الألباني إلى تضعيف طريق النعمان في "الضعيفة"10/454، وحكم عليها بالنكارة بسبب ضعف النعمان ثم المخالفة من وجهين فقط، فلله الحمد والمنة. رواية منكرة يستشهد بها الطيبون: قال ابن سعد في الطبقات1/196: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي بحراء، مكث أياما لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا، حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة، يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدا لبعض تلك الجبال، إلى أن سمع صوتا من السماء، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقا للصوت، ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعا عليه يقول: يا محمد، أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقر الله عينه وربط جأشه، ثم تتابع الوحي بعد وحمي. استشهد بعض العلماء بهذه الرواية على صحة بلاغ الزهري، وقد جانبوا العلم والإخلاص، فهي رواية موضوعة، لذلك أوردها الألباني في "الضعيفة"3/160 و10/450 وحكم عليها بالبطلان والوضع، بناء على هذه العلل: أولا: ضعف الواقدي، ونحن نخالفه في ذلك، فالرجل حسن الحديث، والذين ضعفوه تحاملوا عليه، ولم يثبتوا التهم الموجهة إليه. ثانيا: جهالة شيخ الواقدي، ورجح أنه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أبو إسحاق المدني، المتهم بالكذب، وقد أصاب في هذا، فهو مذكور في الرواة عن داود بن الحصين، وأجمعوا على ضعفه واتهموه بالوضع وسرقة أحاديث الناس. فالمتهم بهذه الرواية هو شيخ الواقدي الوضاع، ولعله سرقها من الزهري فإنه من تلامذته، وركب لها الإسناد عن ابن عباس. وربما يكون إبراهيم واضع قصة الانتحار من أساسها، ويكون شيخه الزهري سمعها منه، لذلك كان يخفي الإسناد. وقفة أخيرة مع العاطفيين: شبه بعض السذج التفكير في الانتحار المكذوب، بعزم المعصوم في شبابه على السمر مع فتيان مكة.وهذا لعمري من أوضح المهازل، فالنبي لم يكن مبعوثا حينئذ، حيث حصلت القصة قبل سن الخامسة والعشرين، وأكذوبة الانتحار كانت بعد إكرامه بالوحي.ثم إنه لم ينو فعل جريمة أو معصية، بل قصد السمر مع شباب قومه في عيد أو فرح، فعصمه الله حتى لا يجلس مع قوم يشربون الخمر وترقص أمامهم (الشيخات) العاريات، ثم يشيعون عنه بعد البعثة أنه شاركهم الإثم وإن لم يفعل ولم يقصد، فتأدبوا مع نبيكم واتقوا الله ربكم. خاتمة: ثبت بالقواطع الشرعية أن محاولة الانتحار محال في حق المعصوم، وتأكد بمعايير علم الحديث بطلان الرواية الزهرية وشواهدها، فأمكن القول بوجود الروايات الواهية الساقطة في كتاب البخاري، وبطل ادعاء صحة كل مروياته. - خريج دار الحديث الحسنية [email protected]