مند اعتلاء الملك محمد السادس العرش إلى يومنا هذا، استطاع النظام عبر مراحل مختلفة، وفي سياقات زمنية متنوعة، صنع وترويج العديد من الشعارات والمفاهيم التي أطرت العشرية الأولى من حكم هذا الملك. العهد الجديد، المفهوم الجديد للسلطة، الإنصاف والمصالحة، التنمية البشرية(.....) مجموعة من المفاهيم أو المداخل، التي ارتكزت عليها فلسفة النظام، لخلق حالة من التنفيس داخل المجتمع، في وقت وصل فيه الاحتقان الاجتماعي إلى درجة قصوى، لم يكن إزاءها من خيار آخر ،غير زرع بدور الأمل لدى فئات عريضة بالمجتمع، أنهكها الفقر والعطالة والأمية والتهميش. لكن مع كل ذلك، حتى وان كنا لسنا أمثال أولائك الدين كانوا يرددون دائما (العام زين)،إلى أن جاء الخطاب الملكي الشهير، الذي تحدت بموجبه الملك الراحل الحسن الثاني عن احتمال إصابة المغرب بالسكتة القلبية، فانقلبوا بسرعة الريح العاصفة إلى تبني خطاب الأزمة. قلت مع كل ذلك،نسجل أن العشرية الأولى من حكم الملك محمد السادس، تميزت بانفتاح واضح للمؤسسة الملكية على مجموعة من الأصعدة( قرب الملك من فئة المحرومين والفقراء، تجديده الثقة في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، مراجعة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من خلال تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة، إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية...الخ اليوم تغيرت المعطيات بشكل كبير، ولم يعد حديث الصالونات السياسية، يركز على نوايا الملك الشاب، تنمويا وسياسيا وحقوقيا، بل إن الصالون السياسي، دخل إلى مرحلة تقييم أداء السياسات العمومية للدولة خلال العشرية الأولى من تربع الملك على العرش، وذلك بالتركيز على حصيلة وأداء الدولة، في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، في مجال التنمية وعلاقتها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في المجال القانوني والمؤسساتي. على مستوى الورش الحقوقي، ليس هناك اليوم من الحقوقيين بالمغرب، من يشكك في مصداقية الراحل إدريس بن زكري، ولا في نظافة يديه ووطنيته الصادقة، ولا في مجهوداته المضنية في مجال إقرار العدالة الانتقالية(...)، لكن هناك من يشكك في نوايا الدولة بشأن القطع مع ممارسات الماضي الأليم، وهذا الشك بطبيعة الحال شك منهجي مؤسس على معطيات موجودة اليوم في أرض الواقع، وتشكل مادة خام لتقارير مجموعة من المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية التي تحاول الحكومة في مناسبات عدة تبخيسها أو التقليل من أهميتها. كيف يمكن إقناع المغاربة، بأن الدولة قطعت مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في ظل استمرارية: الاعتقالات التعسفية، والاختطافات خارج إطار القانون، محاكمات غير عادلة، التضييق على حرية الرأي والتعبير واغلاق مقرات الجرائد وتشميعها التعذيب بمراكز الاعتقال السرية،مع العلم أن البلد، يعد واحدا من البلدان التي وقعت على اتفاقية مناهضة كل أشكال التعذيب وعلى البروتوكولات الملحقة بها؟. كيف يمكن التماهي مع خطاب الدولة وتطميناتها في مجال إقرار الحقوق والحريات، في ظل وجود قضاء غير مستقل وغير قادر على إصلاح ذاته كما تؤكد على ذلك تسريبات ويكيليكس. اليوم مرت أكثر من أربع سنوات على صدور توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ومع دلك، لا زلنا في المغرب، لم نتجاوز بعد النقاش حول ضرورة تنزيل تلك التوصيات على أرض الواقع، بل العجب العجاب في هدا الإطار، يبقى مرتبطا بالتوظيف السياسوي الضيق لهذا الإرث الحقوقي الرائع، الذي تركه المناضل الراحل إدريس بن زكري، بعد أن صارت أحزاب إدارية المنشأ تطالب بتفعيل تلك التوصيات، حتى لا يبقى هدا المطلب حكرا على الحقوقيين من أهل اليسار. على المستوى الإعلامي، لا أحد ينكر أن السنوات الأولى من حكم الملك محمد السادس، تميزت بسعة رحب صدر الدولة وانفتاحها وقبولها بانتقادات الصحافة، باستثناء طبعا، التضييق الذي مورس حينذاك على مجلة لوجورنال، على خلفية قيامها بنشر رسالة محمد الفقيه البصري، التي كشفت عن علم القيادة الاتحادية بالمؤامرة الانقلابية التي حيكت ضد الملك الراحل بداية السبعينات. لكن، هذ لا يعفينا من التأكيد، على أن سجل المغرب خلال السنوات الأخيرة من عشرية الملك محمد السادس، عرف تجاوزات خطيرة، عمقت من الفجوة القائمة بين خطاب الدولة وممارستها على أرض الواقع، في مجال التعاطي مع حرية الرأي والتعبير والصحافة، لاسيما الصحافة المستقلة، التي تعرضت لمحاكمات قاسية جدا، استعملت فيها الدولة كل وسائل الإخضاع من أحكام بالسجن، وغرامات خيالية، وإغلاق مقرات الجرائد، ومصادرة أعداد بعض المجلات بسبب قيا مها باستطلاع للرأي بتنسيق مع أحد الصحف القريبة جدا من قصر الاليزيه حول حصيلة عشر سنوات من حكم الملك محمد السادس. على المستوى التنموي، مبادرة التنمية البشرية، اذا حاولنا النظر إليها ،من زاوية المرتكزات والأهداف التي قامت عليها، من المؤكد، أنها ستبدو مبادرة شجاعة وجريئة، لكن مقاربة حصيلة خمس سنوات من إطلاق مشروع هده المبادرة، باستحضار موقع المغرب في سلم التنمية البشرية على المستوى الدولي، يعطي الانطباع بأن محاربة الإقصاء الاجتماعي والهشاشة والفقر كمرتكزات للمبادرة، لم تتم بالشكل الذي كان مأمولا، والتقرير الذي سبق للمرصد الوطني للتنمية البشرية اعداه لتقييم حصيلة المبادرة، وضح مكامن الخلل. اليوم من الصعب جدا الحديث عن التنمية البشرية، في غياب وجود مقاربة حقوقية، التنمية وحقوق الإنسان وجهان لعملة واحدة، وعلى هدا الأساس، السياسات العمومية للدولة مطالبة بتضمين البعد الحقوقي في استراتيجياتها القطاعية. من الصعب كذلك خلق التنمية في ظل غياب نخب محلية قادرة على وضع مخططات للتنمية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. تاريخ المجتمعات التي حققت التنمية بمفهومها الواسع، هيئت الأرضية المناسبة لدلك قبل استئناف مشاريعها، وخلقت قطيعة مع الجهل والأمية، بخلاف ما يوجد لدينا اليوم بالمغرب: مؤشرات المعرفة متدنية، الأمية السياسة وغياب ثقافة تدبير الشأن العام عنوان للمرحلة، انعدام الثقة في السياسة والسياسيين أصبح من الثوابت بالنسبة للمواطن، غياب نخب محلية واعية وقادرة على الاشتغال بمنظور تنموي، تكرسه القوانين التي لا زالت تعطي حق رئاسة المجالس التي تعد النواة الأولى في مسلسل التنمية لرؤساء أميين غير قادرين حتى على اجتياز شهادة الابتدائي. على المستوى السياسي، شكل تجديد الثقة في الأستاذ اليوسفي، رهان لاستكمال مرحلة التناوب التي تم تدشينها في علاقة أحزاب الحركة الوطنية مع الملك الراحل، لكن الخروج عن المنهجية الديمقراطية التي تم العودة إليها بعد انتهاء ولاية جطو الذي خلف اليوسفي، شكل صدمة قوية، خلخلت الوعي السياسي للطبقة السياسية بالمغرب، وأعطت الانطباع بأن المؤسسة الملكية لا زالت الفاعل المهيمن داخل الحقل السياسي المغربي، وهي التي تصنع التوافق وتتحكم في مساراته. مع بروز الوافد الجديد، تغير طعم ووصف المشهد السياسي المغربي، حيث صار بامكان من يوجد في المغارضة، امتلاك مفاتيح إدارة اللعبة السياسية بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، في الوقت الذي تحولت معه الأغلبية الحكومية الى أيقونة جميلة لثأتيت المشهد السياسي لا أقل ولا أكثر. قواعد اللعبة السياسية مع مجيئ الوافد الجديد، أصبحت تسمح بإمكانية أن تقوم الأغلبية بالتصويت لصالح مرشح المعارضة لشغل منصب رئيس مجلس المستشارين ضدا على مرشحها لشغل نفس المنصب. المعارضة اليوم أصبح بإمكانها إسقاط بعض الميزانيات القطاعية لأحزاب الأغلبية في ساعات متأخرة من الليل بسبب انسحاب أعضائها الذي أرهقاهم ساعات النقاش الطوال. العشرية الأولى من حكم الملك محمد السادس، كانت على المستوى الساسي حابلة بالعديد من البدع السياسية التي لا مثيل لها في العالم. حزب لم يشارك لا في الانتخابات التشريعية ولا البرلمانية، تحول بقدرة قادر الى الفاعل السياسي رقم واحد في المشهد، بل لم يعد هذا الفاعل الذي في خطابات وتنظيرات البعض ومن جملتهم القيادي ادريس الشكر وافدا جديد، بل حزبا له مكانته وريادته في المشهد ينبغي أخدها في الحسبان. بعيدا عن ما هو سياسي، هناك إسهال في الحديث عن الحكامة الجيدة، فليس هناك من تقديم وزاري أو مخطط استراتيجي لا يدع الفرصة تمر من دون أن يتحدث عن الحكامة الجيدة في التدبير. في الأمن هناك حديث عن الحكامة الأمنية، لكن في الواقع، الاختطاف والتعذيب كما تنشر الصحف وبلاغات المنظمات الحقوقية بالداخل والخارج موجود. في الصحة أيضا هناك حديث عن الحكامة في التدبير، لكن في الواقع كذلك، هناك مئات الالاف من المغاربة لا يتم تمكينهم من الولوج الى الخدمات الصحية، بل هناك مناطق معزولة تماما، أطفالها ونسائها يموتون بأمراض تثير سخرية وزيرة الصحة ياسمينة بادو من داخل مؤسسة دستورية اسمها البرلمان. نفس الوزيرة ترفض تطبيق أحكام قضائية، وتسخر من نساء مغربيات شاءت أقدارهن أن يلدن أبنائهن في ممرات المستوصفات والمستشفيات الخالية من كل الخدمات الأساسية والمعرضة للسرقة ونهب معداتها وأدويتها في أي لحظة. في الجانب المالي هناك أيضا حديث عن الحكامة الرشيدة في تدبير الأموال العمومية، لكن في الواقع، تقارير المجلس الأعلى للحسابات تقف على مجموعة من الاختلالات ترقى لوصفها بالجرائم الاقتصادية، دون أن تتم محاكمة الناهبين ولا مسائلتهم. بكل صدق ادا ظلت الدولة على هذه الحالة من الانفصام، بين النوايا المعبر عنها والواقع الحي الذي تعيشه الأغلبية من المغاربة، فالسكتة القلبية هده المرة ستكون لا قدر الله مميتة، وحينها لا ينفع لا خطاب التطمين ولا إجراءات التنفيس. الله ما إنا لا نسألك رد القدر وإنما نسألك اللطف فيه. *كاتب صحفي