فتيةٌ في مدخلِ المدينة يشهرُون المفاتِيح إخطارًا بأنَّ شققًا متاحةً للإيجار، وسياراتٌ للأمن تجوبُ الشوارع أكثر ممَّا دأبت على أن تفعل، فسيَّاحٌ كثر بهندام متشابه، شعرٌ كثٌّ جعلتْ خصلاته جدائل كثيفة، وسراوِيل فضفاضة واسعة، حينَ تلمحُ هذه المشاهد يكُون الإيذانُ بأنَّ "موكادُورْ" أوْ مدينة الريَاح، تتأهبُ لتعيش مهرجانهَا السنوِي لموسيقى كناوة. ثمانية عشر عامًا بالتمام والكمَال مضتْ على إطلاق المهرجان الذي اختتمت فعالياته نهاية الأسبوع المنصرم. موعدٌ يرى القائمُون عليه أنَّ لهُ فضْلًا في تحقيقِ إشعاع المدينة، وقدْ صار كثيرُون حول العالم يحجُّون لسماع موسيقاه وعيش أجوائه، دون إغفال ما تعرفه السياحة بالمدين من انتعاش، سواء تعلق الأمر بالسياح الأجانب، أوْ المغاربة الذِين يقبلُون بدورهم من مدن أخرى ليواكبُوا الحدث. جمهُور مهرجان كناوة يختلفُ عنْ جمهور باقِي المهرجانات الموسيقيَّة في المغرب، فهو لا يتشكلُ حصرًا من المترفِين أوْ المرتاحِين ماديًّا ممن يملكُون القدرة على حجز غرف بفنادق المدينة وتكبد مصاريف السياحة. إذْ إنَّ خيمةٌ سريعة الطي وبطانيَّات خفيفة، وبضع حقائب على الظهر وها هُو الحضُور قدْ جرَى تأمينه، بالنهار تكُون الموسيقى وأشعة الشمس عند البحر، وبالليل تنصبُ في ركنٍ من الأركان للنوم. كريم الذِي قدمَ منْ مرَّاكش رفقه أصدقائه الأربعة وظلَّ يقضِي أيَّام المهرجان على الشاطئ، قال في حديثٍ لهسبريس إنَّ الأهمَّ بالنسبة إليه هُو أنْ يغنم الحدث الموسيقي ويستمتع ب"تكناويتْ"، مقللا من شأن شعوره بالتعب جراء مكوثه في الخارج "الرفقة هي التي تصنعُ الأجواء، وقدْ أمضينا وقتًا طيبًا حتَّى وإنْ لمْ تكن الإمكانيَّات تتيحُ الشيء الكثير". في المدينة القديمة وتحت أقواس الأبواب تلمحُ عددًا من أفارقة جنُوب الصحراء وقدْ امتهنُوا تصفيف شعر الزبائن وفق تسريحة "الراستا"، التي يجدها عددٌ من الشباب فرادةً وتميزًا. في الوقت الذِي ينظرُ إليها كثيرون باستغراب وهمْ يتساءلُون "كيفَ لهمْ أنْ يغسلُوا الشعر بعد اليوم، وقدْ جعلوه بتلك الكثافة والتعقِيد"، تلك الهواجس لا تنالُ كثيرا منْ نزوع "بوهيميين" إلى الفوضَى في المعاش. فعاليَّات المهرجان لا تتوقفُ عند المنصَّات التي جعلتْ بأكثر منْ موقع في المدينة، فسهراتٌ أخرى أطلقت بدار الصويري التقليديَّة، فيما احتضنتْ إحدى الزوايا ليلةً من الحضرة، ما إنْ ينسجمُ الحاضرُون فيها مع الموسيقى الكناويَّة حتَّى تشرع سيداتٌ كثيرات في "التحيار"، مسدلاتٍ شعرهنَّ، وصديقات يسندنهُنَّ لئلَّا يسقطن جراء التماهِي مع "الجذبة". حرصًا على خصوصيَّة منْ يبلغن درجة "التحيار" يحرصُ رجال الأمن في مدخل الزاوية على ألَّا يصحبُ أيُّ متفرج آلةَ تصوير، أمَّا القائمُون على المكان، فينبرُون إلى إمدادك بمخدَّة لتجلس عليها أرضًا، وإنْ لمحُوك تحركُ رأسك بشدَّة، بعثُوا إليك بأحدهم يحملُ مبخرةً توضعُ تحت وشاحٍ أسود في الغالب. وسط الحضور الكثيف للجمهور، كان الصحافيُّون أيضًا بأعداد كبيرة في المهرجان، مغاربة وأجانب. على أنَّ الأجانب حظوْا بمعاملاتٍ اسثنائيَّة بحسب ما عاينتْ هسبريس وصرح به عددٌ من المستائين، حيثُ جرى السماحُ لهم بالولوج إلى بعض فضاءات المهرجان دون غيرهم منْ الصحافيِّين المغاربة، زيادةً على إقامة الصحافيين المغاربة في ظروف غير تلك التي خصصت للقادمِين من الخارج. وإذَا كانت غالبية المهرجانات الموسيقيَّة تنحصرُ في ساعةٍ أوْ ساعتين عند المساء، يصعدُ فيهما فنانٌ مشهور إلى المنصَّة ثمَّ ينهِي عرضه، فقدْ خرق مهرجان كناوة العادة، إذ إنَّ الأنغام تصنعُ النهار كاملًا منْ الجمهور وسط المدينة، والقيمة المثلى منْ الأحداث الفنيَّة الضخمَة، تتحققُ بحسب ما أكده الحاضرون، وقدْ تحلقَ أناسٌ من جنسيَّات مختلفة لسماع الموسيقى والرقص على إيقاعها، بيضًا وسمرًا، أثرياء ومعدمِين.