المعارضة -في الدول النامية على العموم- كلمة تبدو إما غاية في التعقيد أو غاية في البساطة ولكن لا بأس من محاولة فهمها. هناك المعارضة التي تتم من داخل البرلمانات من طرف الأحزاب التي لم تفلح في الوصول إلى ترأس الحكومات، و كذلك من طرف بعض الجمعيات المدنية التي تستعمل أسلوب المعارضة من داخل المؤسسات لسبب أو لآخر، و من طرف بعض الأفراد المدعومين من الإعلام الخاص، و الرسمي، و شبه الرسمي، المحلي أو العالمي، و الذين يطلق عليهم عامة لقب باحثين أو محللين سياسيين أو اقتصاديين، و هي معارضة لا تطرح أدنى مشكل لدرجة أنها، في الدول النامية، لا تعتبر معارضة في حد ذاتها من لدن بعض المهتمين لأنها لا تطالب بالتغيير. وهناك المعارضة التي تتم من خارج مؤسسات الدولة سواء كانت جماعات سياسية، أو جمعيات مدنية، أو فئات قبلية، أو مجرد أفراد متمكنين من سلاح القلم أو من فنون الكلمة. طيب. لكي نقترب شيئا ما من المفهوم يجب طرح السؤال التالي: ماذا يعارض المعارضون حقيقة ولماذا؟ الجواب على هذا السؤال يلزمه التدقيق و التمحيص و الكثير من الصدق و الموضوعية قدر الإمكان. المعارضون من داخل البرلمان يعارضون الحزب أو الأشخاص المتفوقين في الانتخابات فيحاولون نزع المصداقية عنهم ليتربعوا على مناصبهم أو ليحلوا مكانهم في المستقبل القريب أو المتوسط دون إحداث أي تغيير في الجوهر، إما من خلال انتخابات مقبلة أو عن طريق عملية أو تقنيات سحب الثقة حسب القوانين الدستورية الجاري بها العمل. في الدول النامية هذه معارضة لا تعتبر معارضة في حد ذاتها من لدن المهتمين لأنها بحسبهم لا تطالب في العمق بالتغيير و لا تسعى إليه. أما المعارضة من خارج البرلمانات أو المؤسسات، فهي معارضة لا تتفق مع أسلوب الحكم فتريد تغييره بطريقة أو بأخرى، فهي إذا لا تعارض الحكومات بقدر ما تعارض الدول التي تنتمي إليها. و في هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أن الأسباب تختلف من فئة معارضة إلى أخرى. فأما الجمعيات السياسية المعارضة التي لم تحصل على الصفة الحزبية، فغالبا ما تكون حاملة لمشروع مجتمعي لا يحضا بموافقة الدولة، بصفة عامة، و بالتالي فهي معارضة تعمل على المدى الطويل و الطويل جدا نسبيا. و أما الجمعيات أو الهيئات المدنية المعارضة للدولة، بصفة عامة، فهي غالبا ما تمثل ذراعا لفئات معارضة أخرى، علنيا أو في الخفاء، تلقائيا أو بتخطيط، للتغلغل وسط المجتمع قدر الإمكان. و مقابل هذه الجمعيات المدنية المعارضة للدولة، هناك جمعيات أو هيئات مدنية أخرى تعمل وفق أجندات خاصة معدة بعناية، فتقوم تارة بمحاربة الرشوة و نهب المال العام في حدود ضيقة، و تارة أخرى تقوم إما بالتشهير، عن حق أو عن باطل، ببعض الأشخاص المسؤولين حسب الظرفية أو ما تمليه بعض الأجندات، أو بالدفاع عن بعض من يوصفون، عن حق أو عن باطل، بكبار المرتشين و بعض من يوصفون بكبار ناهبي المال العام،(- نعم، عن حق أو عن باطل، فيا ما سقطت، مثلا، الصحافة المعارضة و الخاصة و غيرها في الكذب و التحامل و التهويل المغرض و تغليط الرأي العام و خلط الأوراق لسبب أو لآخر، مدعية الموضوعية في الطرح-)، و من أجل كسب بعض المصداقية تتظاهر تلك الجمعيات أو الهيئات بالدفاع عن بعض الشرفاء النزهاء، فتقوم باستغلالهم إلى أن يفطنوا إلى ذلك أو يتعبوا من لعبة لا تجدي نفعا، فيختفون تماما من الساحة مما يتيح الفرصة إلى بعض أشباه النزهاء بالاستئساد و تغليط الرأي العام، إن وجد طبعا، و الله أعلم. وأما الفئات القبلية المعارضة فغالبا ما تكون حاملة لمشروع انفصالي، غير معلن عنه، على المدى البعيد فتعمل إما في العلن أو في الخفاء بغطاء شرعي، حزبي أو غيره و بنفس طويل، فهي معارضة تعتمد العمل السري تارة و العمل المتستر في المعارضة من داخل المؤسسات تارة أخرى. و أما معارضة الأفراد أو المثقفين فهي معارضة تختلف حسب الأشخاص و مدى تشبثهم بالمبادئ المتعارف عليها أخلاقيا، فإما أن يكون الفرد معارضا لسياسة الدولة أو لنظام الحكم من باب المبدأ و بالتالي فلا يكون له أي تأثير نظرا للتعتيم الإعلامي و من طرف المجتمع المدني، أو أن يكون متخندقا في إطار أجندات خارجية، إما عن طواعية لأسباب شخصية أو مهنية، إما مرغما إذا كان من المهمشين المبعدين المحاصرين اقتصاديا في بلدهم فيستحيل له العيش داخل وطنه أو الاستفادة كمواطن من خيرات بلده. و يمكن أن يكون الفرد في البلدان النامية مصلحا يطالب فقط بإصلاح إداري و بإعمال المنطق السليم في إطار الشرعية القائمة بعيدا عن أي تهافت للحصول على منافع غير مستحقة و بعيدا كل البعد عن السياسة و غاياتها بمفهومها إن الدقيق أو الواسع، و بعيدا أيضا عن كل الأجندات، و مع ذلك فالمجتمع و أغلبية أطر الدولة -في الدول النامية- يعتبرونه معارضا للنظام و يعاملونه كذلك ما دام يجهر بعدم رضاه عن أداء الإدارة و طريقة تعاملها مع المواطنين. طيب. و بصفة عامة، المعارضون في البلدان النامية يتكلمون عن حقوق الإنسان، و عن فصل السلط، و عن العدالة المستقلة، و يتخذون الغرب قدوة في جميع مناحي الحياة، ولكنهم يضلون بعيدين كل البعد عن الموضوعية في إثارتهم لتناقضات النظام الذي يعارضونه متجاهلين تناقضات أنظمة الغرب. فالغرب ليس عادلا في تعامله مع الكثير من الملفات كملف فلسطينالمحتلة مثلا، كما أن بريطانيا، مثلا، التي يتخذها المعارضون قدوة في مجال حقوق الإنسان و العدالة، هي من أسست و خططت و نفذت عملية استعمار فلسطين التي مازالت محتلة إلى يومنا هذا. و يبقى السؤال، على سبيل المثال، هو : كيف لمعارضين أن يستنكروا، مثلا، زيارة بلدهم الأصلي من طرف مسؤول صهيوني في الوقت الذي يحتمون بالغرب الذي أسس و مكّن للكيان الصهيوني ؟ المعارضون يحتاجون و يلجؤون إلى الغرب من أجل تفادي عقاب أنظمتهم، و الغرب يحتاج إلى تواجد المعارضين في الدول النامية ليستعملهم كورقة ضغط على أنظمة الحكم في تلك الدول للسيطرة على أسواقها و لتنفيذ مخططاته داخلها. و من هنا يتضح أن المعارضين في الدول النامية يساعدون الغرب، عن دراية أو عن جهل، من إحكام قبضته على الدول التي ينتمون إليها و يعارضون أنظمتها. فالغرب مقتنع بأن لا مصلحة له بتاتا في أن تصبح الدول النامية ديمقراطية تحتكم كليا لإرادة الشعب. و بالتالي يبقى المعارضون في الدول النامية أداة ابتزاز بيد الغرب ليستغل أو ليستفيد من خيراتها أكثر فأكثر بطريقة شبه ناعمة. فلو تقلد المعارضون في الدول النامية مقاليد الحكم لتخلّوا عن مبادئ الديمقراطية ليس خيانة ولكن لإرضاء الغرب الذي حماهم و آواهم و وفّر لهم العمل و المال و الجنسية في بعض الأحيان، و حينئذ سيشجع الغرب على ظهور معارضين جدد لإعادة اللعبة من جديد بطريقة أيسر و أسهل مع من لا تجربة لهم في الحكم. طيب. لا عتاب على الغرب بتاتا، فهو يدافع على مصالحه. العالم تغير و على الدول النامية أن تتغير كذلك. و لن تتغير الدول النامية سوى باعتناقها للموضوعية كثقافة ثابتة. ولكن الموضوعية تقتضي تجاوز المصلحة الضيقة و المصلحة الذاتية داخل كل دولة نامية على حدة. لا تتغير في الدول النامية إذا لم تتغير المعارضة داخلها. فالمعارضة التي لا يتبناها الشعب لن تحدث سوى مزيدا من التخلف بل لن تحدث سوى دمارا غير منتج على كل الأصعدة. على الجميع أن يعلم أن مصير البلدان النامية بيد شعوبها و ليس بيد معارضة لا شعبية لها تضطر للدخول في متاهات تجعلها مجرد دمى يلهو بها الغرب مقابل حماية ضيقة أو عمل أو جنسية ثانية أو ثالثة، ثم يستعملها و يستغلها لصالحه دون أي مقابل لصالح شعوب الدول النامية، كأن يستغلها أو يستعملها من أجل مشاريع انفصالية و بث نزعة التفرقة من الداخل بعد أن أصبحت مشاريع الانفصال المدعومة من الغرب تعتمد على تشجيع التحرك القبلي و التمرد الشعبي و العصيان المدني من الداخل بدل دعم العصابات المسلحة المرتزقة من الخارج، و معلوم أن الغرب مقتنع بأن مصلحته تكمن في تقطيع البلدان النامية إربا إربا، -سواء بإشعال نار الفتن أو بتشجيع الانقلابات العسكرية و دعمها، أو الاثنين معا...-، ليسهل عليه الانقضاض على كل قطعة على حدا بأقل مجهود و لضمان تأبيد التخلف في تلك البلدان النامية. لا عيب في أن يبحث المرء على سبل العيش في دول الغرب إذا ضاقت به الحياة أو تم تضييقها عليه في بلده. فإذا كانت لديه كفاءات مهنية أو فنية أو أدبية أو تقنية أو علمية و تم طرده من إدارة بلده أو لم يستطع أن يجد له مكانا في بلده، فلا بأس أن يبحث له عن عمل في دول الغرب أو غيرها، و أما المعارضة فليست مهنة. طيب. يتضح إذا، حسب الظرفية السياسية التي يمر منها العالم، بأن السبيل السليم الوحيد للتغيير الممكن في الدول النامية التي تتميز بالشرعية، -((و الحديث هنا لا يعني تلك الدول النامية حيث الانقلابات العسكرية الدموية المدمّرة كليّا...))-، لا يمكن أن يتم إلا من داخل الإدارة، من طرف الموظفين المسؤولين المعتبرين في قطاع السلطة و في سائر المجالات الإدارية، بدعم من الماسكين بزمام الأمور، لأن المعارضة التي تريد أو تدّعي الإصلاح أو التغيير من خارج الإدارة تستدعي حماية أو دعم الغرب مما يعرضها للفشل لا محالة. هنا يأتي دور المثقفين الحقيقيين الذين عليهم الإبداع و المثابرة من أجل إقناع الحكام بضرورة التغيير و الإصلاح الحقيقي غير المنتج للفتن العقيمة و غير المؤذي إلى الشلل الاقتصادي و السياسي. نعم، يبدو أن في الدول النامية لا بد لمن يجهر بضرورة الإصلاح الإداري من داخل الإدارة، -كمحاربة الرشوة أو عدالة القضاء-، أن يتعرض للمضايقات، أو للطرد، أو للسجن، أو للتهديد المباشر أو غير المباشر، أو للتهديد الناعم المشفّر، ولكن يبقى الأمل قائما أن في يوم من الأيام سيتم بفضل الله تعيين مسؤولين كبار أكفاء سيتضح أنهم نزهاء و سيشجعون الإصلاح أو التغيير المنشود في إطار إستراتيجية موفقة بدل قمعه بطرق ملتوية، و في انتظار ذلك تبقى الشعوب النامية هي صاحبة القرار الأول و الأخير في ما يتعلق بإرادة التقدم و الخروج من دائرة ذل التخلف حتى لو انعدمت الديمقراطية كليا في بعضها.