تبحث الشعوب المقهورة عن الخلاص بالديمقراطية كمن يبحث عن إبرة في كومة تبن فلا تجدها، خصوصا عندما تكون الديمقراطية في نظرهم سلعة تستورد . لكن قد يعثروا على أثرها وبالتالي عليها إن هم أدركوا أن الديمقراطية ثقافة مجتمع ، وأنها نظام اجتماعي قبل أن تكون ثقافة سياسية تخص شريحة من المجتمع و تفتح أبواب الأحزاب السياسية أمام الراغبين ،وبالتالي الآفاق لهم نحو الترقي اجتماعيا . فالديمقراطية أخلاق ومسؤولية والتزام ، وليس مؤسسات دستورية قائمة لا تؤدي دورها في تحقيق العدل أساس الحكم . فعندما يطالب الشعب بفصل السلط فلكي تتحقق مضامين ورقة الطريق " الدستور" الهادفة إلى توزيع الأدوار وضبط المسؤوليات وتفسير العلاقات ورسم الحدود بين المكونات وتوضيح الحقوق والواجبات أمام الجميع ، للقطع مع كل السلوكيات التي رأى المجتمع أنها مضرة بمصالحه وبالتحامه وتوافقاته. إذن الديمقراطية ليست وصفة سحرية تُقْتَنى من دكان وبالتالي يتم تطبيقها على مجتمع في طريق التمدن ، وإنما هي غِنىَ أخلاقي وسلوك وممارسات طوعية تنبعث من الداخل ، وكما هي رغبة جامحة وقوة خفية تدفع المغرم بالديمقراطية إلى فك ارتباطاته مع الظلم والاستبداد والاستفراد لأنه يحب الآخر ويرغب في خدمته لا استغلاله. يقال بأن الديمقراطية هي حكم الشعب لنفسه . والسؤال ، إذا كان الأمر كذلك فلماذا تتخلى الحكومات عن جلدها الشعبي،وعن مبادئها التي تروم تحقيق أهداف الشعب في الكرامة والرخاء، لتلبس لباسا لا شعبيا وتبدأ في قص لباس أبناء الشعب من الأطراف، بإشهار الزيادات في الأسعار تارة وبالحرمان من العمل تارة أخرى ، أو بالتراجع عن استحقاقات شعبية سابقة؟ خصوصا لما تتراجع المعارضة الحكومية وتوارى عن الأنظار بمجرد إعلان نتائج الانتخابات ، فلا تقوم بمسؤولياتها الدستورية في مراقبة الحكومة ،ولاتتبع خطواتها ومساءلتها ومحاسبتها مؤسساتيا داخل البرلمان بندية ،وعبر وسائل الإعلام بحكمة وقرائن . فالدستور يتحدث عن الحق في المعلومة السياسية والاقتصادية، ومن حق الشعب أن يعرف الكثير عما يدور في اللجان البرلمانية، وأن يطلع كيف تدار المناقشات وتحسم القرارات . فما تنقله وسائل الإعلام من نقاش داخل البرلمان أثناء الجلسات العمومية مقتضب جدا، ولا يعطي الانطباع بل الصورة الحقيقية عن برلمان جاد يطلع بمسؤولياته كاملة .فالأسئلة الشفهية غالبا ما تكون أسئلة جانبية لا تتمس هموم الناس الغير مقتنعين لحد الآن بطريقة مناقشة الأمور المصيرية للأفراد والجماعات والوطن بالجدية والعمق المطلوبان. فالمعارضة التي من المفروض أن تكون المحامي اليقظ الممانع لتوجهات الحكومة لا تُسْمِعُ صوتها ، وبالتالي فهي تساهم في تغوُّل الحكومة من جهة ، وبإسقاط ذات الحكومة في أحضان ديكتاتورية يتهرب منها الجميع .إذن لا بد من عمليات شد وجذب كي تتقدم عملية التغيير والإصلاح إلى الأمام ، لأن التشريع الذي هو نواة الإصلاح ما هو إلا استجابة للرغبات الشعبية التي تتغير وتتنوع وتطور مرحليا. فحين يطالب الشعب بالتغيير، ويأتي التغيير بتنصيب حكومة جديدة، لا تجد هذه الحكومة الدعم السياسي من المعارضة ، بانتقادها عند الضرورة وبإعادة توجيهها ، كما لا تجد السند و الضغط الجماهيري – وبوعي تام- من أجل تعميق التغيير والذهاب بعيدا في الإصلاح . لقد ذهبت الجماهير للاستجمام ، وانشغلت الأحزاب التي فشلت في إقناع الجماهير ببرامجها بالبحث عن نفسها من جديد تأهبا للانتخابات القادمة ، في وقت كان من حقها ومن واجبها تنشيط الحياة السياسية ومحاصرة الحكومة وقتما زاغت عن برنامجها الانتخابي الذي واعدت به الناخبين . من المؤكد أنه ليس من مصلحة الحكومة تجاهل المعارضة ، ولا من مصلحة المعارضة إفشال الحكومة لأن الديمقراطية كما سبق، أخلاق ومن بين هذه الأخلاق الاعتراف بضرورة تداول السلطة سلميا وبصورة دورية. إنما هذا لا يعني بالضرورة أن تتماها المعارضة مع قرارات الحكومة ، وأن تخطو خلفها في كل أمر، وحتى تكون المعارضة ذلك " الضمير الوطني" الذي يُذكِّر الحكومة في كل مراحل الحكم بواجباتها ليس أمام الجمعيات والأحزاب ولكن أمام كل مواطن لا يجد من يدافع عنه . لقد أصبح المجتمع المغربي يتكون من دوائر ،كل دائرة تحوي نقابة أو حزبا أو جمعية أو جماعة أو هيئة أو ناديا ، وكل دائرة تُكوِّن جسدا واحدا يدافع عن مصالحه ، بينما هناك مواطنون انتماؤهم الوحيد للوطن فقط . فعلى المعارضة والحكومة أن تضع هؤلاء في الحسبان كلما همَّت أية جهة المس بحقوقهم أو إثقال كاهلهم بواجبات تتعدى إمكاناتهم ولكي تقوم المعارضة بهذا عمل جبار، في مراقبة الحكومة، وتتبع أنشطتها، والاعتراض عن القرارات المجحفة ، يجب أن يكون على رأس هذه المعارضة رجل " وطني ممتاز " نزيه وأمين وملتزم، مستعد لمواجهة الباطل بالحق كيفما كانت ظروف المعتدي، ومواجهة الظلم بالإنصاف بالحكمة والحجة والبرهان كيفما كان الظالم. لم يعد الوقت يسمح لبروز شخصيات تثقن فن الخطاب، ولا شخصيات تثقن فن المراوغة، ولا شخصيات تستغل سذاجة الشعب، وإنما شخصيات عالمة بواقعها وإمكاناته، وعالمة بما حولها ، تمتلك الكاريزما، والفطنة اللازمة لاقتراح الحلول، والتخطيط للإنجازات، وجذب الجمهور إليها بالوفاء . فالمعارضة هي الوريث الشرعي للسلطة الذي يجب تكوينه ورعايته – ليس بالريع- وإنما بصقل مهاراته وقدراته وبإشراكه والتشاور معه، كي يكون جاهزا للعب دوره في الدولة والمجتمع عند الضرورة، وكي لا تسقط البلاد في فراغ قد تتسبب فيه الحكومة بتهميشها للمعارضة ، أو تتسبب فيه المعارضة بتشتتها وابتعادها عن الجمهور. لأن من يمتلك الجمهور هو من يمتلك المستقبل ( حق التداول على السلطة ) ويستحق تدبير وتسيير شؤون هذا الجمهور، لأنه يجمع بين الشرعية والتجربة. لدى على المعارضة أن تكون ذلك اللاعب الاحتياطي المُؤْمِن بقدراته والذي له جمهوره المتكاثر بشكل مستمر ، بما يحقق من منجزات.