وجوه شاحبة، نظرات متعبة وأجسام صغيرة تصارع بتحد تبعات السقم، مُحاولة اقتناص لحظات فرح.. كان هذا حال الأطفال المصابين ب"الثلاسيميا" الذين حجوا، اليوم، إلى مستشفى الأطفال ابن سينا بالرباط لتخليد اليوم العالمي لهذا المرض الفتاك. وكان الموعد، بالنسبة لذات ال"ثلاَسِيميّين" فرصة لتناسي المعاناة التي تبدأ بالسفر لمسافات طويلة، قادمين رفقة عائلاتهم من مدن البعيدة في اتجاه المستشفيات الكبرى للبلاد، للحصول على جُرعات دماء تقي من المضاعفات الخطيرة للمرض، وتنتهي بخوف مستمر من الموت في حال وجود خصاص بأبناك الدم. وتفيد المعطيات المقدمة من طرف الجمعية المغربية لمرضى الثلاسيميا أن عدد المصابين في المغرب يقدر بحوالي 5 آلاف، مع تسجيل 25 حالة جديدة كل سنة.. وينتشر المرض في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ما يجعله يسمى "مرض فقر دم حوض البحر الأبيض المتوسط"، وهو ينتج عن خلل جيني يؤدي إلى فقر دم مزمن، إذ تصبح الكريات الحمراء غير قادرة على القيام بوظائفها بشكل قد يودي بحياة المريض إذا لم يتلقَّ علاجا دائما. فقدت بنتا وتحمي ابنا شبح الموت يطل بوجهه المرعب ليقض مضاجع أطفال صغار ويجعل حياتهم رهينة بالحصول على جرعات الدم بشكل منتظم، وفي غيابها قد يصبح الطفل مهددا الوجود.. تماما كما هو حال أمينة التي فقدت ابنتها المصابة بالثلاسيميا.. "ارتفعت حرارتها فجأة، وما كدت أصل بها إلى مستشفى بالرباط حتى فارقت الحياة.. مازال جرح فراقها لم يندمل لحد الآن" تقول الأم ضمن تصريح لهسبريس. أمينة، التي كلما روت قصة معاناتها مع أبنائها المصابين بالثلاسيميا إلا وارتفع صوتها واحتقن وجهها بالدم وكادت عيناها أن تنط من محجريهما، ما تزال في حرب مع ذات المرض.. "صعب هو العيش مع الخوف المستمر على حياة الأبناء، وتكبد معاناة السفر من الجديدة إلى الرباط لأربع مرات في الأسبوع، على الأقل، من أجل نقل الدم لابني المصاب بنفس المرض.. إنها معركة لن يشعر بها إلا من اكتوى بنيرانها" تجزم أمينة وهي تستنكر تصرفات المستخفين بمرض الثلاسيميا. وبحرقة الأم المكلومة تحدثت أمينة عن معاناة ابنها مع المرض.. "ابني يقول لي: ليت الطبيب يقطع لي يدا أو رجلا فقط لأتخلص من هذا الألم"، وهنا تتوقف أمينة في محاولة لتكفكف دموعها قبل أن تواصل الحديث بنفس العزم والتحدي وهي تشدد على أنها لن تترك ابنها يضيع من يديها كما ضاعت أخته.. "حتى لو اضطررت لأن أبنيَ خيمة أمام المستشفى لأحصل على الدم لصغيري، ولا يهم حتى لو أكلت من القمامة، فالأهم بالنسبة لي هي حياة وصحة ابني". متاعب أمينة مع الثلاسيميا لا تتوقف عند الإحساس بالخوف من تكرار سيناريو ابنتها المتوفاة، بل حتى بعد المسافة بين مدينة الجديدة حيث تقطن والعاصمة الرباط تذكي المحنة.."تعب السفر ينهك ابني، بالإضافة إلى النفقات المادية التي تتجاوز إمكانياتي المحدودة" تقول أمينة قبل أن تؤكد أن طلبها هو توفير مستشفيات قريبة يحصل فيها مرضى الثلاسيميا على الدماء دون الحاجة للسفر بانتظام إلى الرباط. نظرات قاتلة إذا اجتمع مرض منهك ونظرات الناس الخائفة منك أحيانا، والمشفقة أحايين أخرى، فاعلم أن حياتك لن تكون سهلة، بل ستتحول إلى جحيم مستمر.. ذاك حال مريم، الشابة القادمة من طنجة والتي قاست الأمرين خلال مسارها الدراسي بسبب نظرات زملائها وأساتذتها إليها.. "كان الأساتذة يقومون بعزلي بعيدا عن باقي التلاميذ الآخرين، اعتقادا منهم أن الثلاسيميا مرض معدٍ" تروي مريم وهي تفرك يديها محاولة صرف التوتر البادي على محياها كلما استحضرت معاناتها. "تحملت الكثير حتى وصلت إلى البكالوريا، لكن الرحلة كانت شاقة بالنسبة لي" تؤكد مريم التي لم تكمل بعد عقدها الثاني، لكنهما عقدان مرا عليها كالدهر بسبب جهل الناس بتفاصيل المرض الذي سكنها واكتفوا بإبداء خوف غير مبرر تجاهها.. "لا يمكن أن أصف شعوري وأنا أجلس لوحدي في مقعد بعيد عن باقي التلاميذ، لأنهم كانوا يتعاملون معي وكأنني مصابة بمرض غريب قد يفتك بهم، والأدهى أن بعض الأساتذة لم يتفهموا حالتي وأخذوا يتعاملون معي بحذر.. لا يمكن تصور إحساس طفل يشعر بكونه معزولا حتى في القسم" هذا الإحساس بالحيف والظلم دفع مريم إلى أن تصرخ في وجوه التلاميذ والأستاذة، في مرة عرفت توقيفها لدرس، وهي تقول: "الثلاسيميا مَا كَاتْعَادِيشْ". ولأنه لن يشعر بمريض ثلاسيميا إلا مريض تجرع نفس السقم، ترى مريم، وهي تتنقل بين الأطفال الذين حضروا إلى مستشفى ابن سينا موزعة الابتسامات عليهم ومحاولة أن تخفف عنهم وتمنحهم جرعة من الأمل، بأن الغد سيكون أفضل ..لأنها تعلم أن أغلبهم يخشى الموت وهو مازال طفلا، بيد أن هذا لم يمنعها عن التعبير عن شكواها من مشقة السفر من طنجة إلى الرباط، شهريا، والمكوث بالعاصمة لثلاثة أيام.. "الأمر متعب وجد مكلّف.. أليس من الممكن أن يتواجد مركز في طنجة بدل كل هذا الشقاء" تتساءل مريم علها تجد آذانا صاغية. عصف بالأسر أسر المرضى أول المعانين مع الأمراض، وهذا ينطبق على أعوائل المصابين بالثلاسيميا، خصوصا الأمهات اللواتي يتحركن دوما رفقة أبنائهم من أجل العلاج، ومثل اليوم استثناء لهن حين صاحبن ابناءهن وبناتهن للاحتفال مع النيابة عن الصغار في الحديث.. لدى الأمهات الكثير من القصص ملؤها الشجن والألم والأمل في قادم أفضل، كما هو الحال بالنسبة لفاطمة التي لها من الأبناء ثلاثة كلهم مصابون بمرض الثلاسيميا أكبرهم سنا فتاة تبلغ 15 سنة وأصغرهم طفل يبلغ من العمر سبع سنوات، وإذا كانت المعاناة مع المرض هي نفسها بالنسبة لجل الأمهات، ففاطمة تعاني حتى مع عائلة زوجها التي تتهمها بأنها السبب في إصابة أبنائها بهذا المرض، "علما أن إصابة الأطفال بالمرض يعني أن كلا الوالدين يحمل جينا معتلا، لكن مع الأسف الأم هي الحلقة الأضعف" تتحسر فاطمة. وإذا كان الثلاسيميا قد قصم ظهر أسر لديها مريض واحد فكيف سيكون حال أم ترعى ثلاثة مرضى، "أنا راضية وصابرة لكن أن تأتيك الطعنة من أقرب الناس إليك فهذا الأشد والأمر" تقول فاطمة والبسمة لا تفارق محياها "علي أن أبدو دائما قوية حتى لا يضعف أبنائي"، هكذا تواسي فاطمة نفسها وتعبر عن أملها في شفاء ابنها الصغير الذي تتدهور حالته الصحية بشكل خطير ويحتاج لعملية زرع النخاع التي تتطلب أزيد من 370 مليون سنتيم "وأتمنى أن أجد من يساعدني في إنقاذ ابني". مشكل آخر يؤرق فاطمة وهو المسار الدراسي لأبنائها، فنظرا لحاجتهم لنقل الدم يضطرون للتغيب عن المدرسة لأيام متواصلة، وتفوتهم العديد من الامتحانات "والأساتذة في بعض الأحيان لا يقبلون عذر أبنائي وبأنهم مجبرون على الغياب"، ومؤخرا تعرضت إحدى بنات فاطمة لتدهور صحتها بشكل خطير "لأنها حصلت على نقطة جد سيئة بسبب تغيبها وهو ما لم تتقبله ابنتي وأصيبت بحمى ألزمتها الفراش لمدة أسبوع". تبرع وفحص إذا كان مرضى الثلاسيميا قد كتب عليهم أن يستمروا في العلاج والتجلد لمواجهة هذا المرض مدى حياتهم، فإن الحد من انتشار المرض أو القضاء عليه بشكل نهائي أمر ممكن، حسب ما كشف عنه البروفيسور محمد الخطاب رئيس الجمعية المغربية للثلاسيميا، "العلاج هو إجراء فحص طبي قبل الزواج لمعرفة هل يحمل الزوجان معا جينا معتلا"، يقول الخطاب موضحا بأن إصابة الطفل بالثلاسيميا يكون نتيجة حمل الوالدين معا لجينات معتلة "أما إذا كان أحدهما فقط هو حامل هذا الجين فلا يمكن للطفل أن يصاب بالثلاسيميا". وحتى لا يعتل البعض بأن إجراء الفحوصات هو أمر مكلف فقد أكد الدكتور الخطاب أن ثمنها لا يتجاوز 300 درهم، وسيمكن الأزواج من تجنب إصابة أبنائهم بمرض سيؤثر على حياتهم مصير الأسرة، مشددا على أن هذه الفحوص مكنت من اختفاء المرض في العديد من الدول كما هو الحال بالنسبة لإيطاليا وقبرص وحتى إيران. ولعل ما يخفف من معاناة أسر مرضى الثلاسيميا أن الدولة هي من يتكلف بمصاريف المرض، فمنذ سنة 2011 أطلقت وزارة الصحة مخططا لتحمل الدولة كل النفقات المرتبطة بالمرض من خلال توفير الدم للمرضى والأدوية التي يحتاجونها "وهذا أمر يخفف الضغط المادي على الأسر التي يوجد أغلبها في وضعية مادية صعبة" وفق تصريح البروفسور الخطاب. وإذا كانت الدولة توفر الدعم المادي للمرضى، فإن المجتمع هو الآخر له دور محوري في التخفيف من معاناة مرضى الثلاسيميا حسب البروفسور الخطاب الذي ربط بين التقليص من آثار الثلاسيميا على الأطفال وبين كثافة التبرع بالدم، لأن أطفال الثلاسيميا في حاجة مستمرة للدم وفي بعض الأحيان يجد الأطفال أنفسهم مجبرين على الانتظار لأيام لأن الدم غير متوفر، داعيا كل قادر على التبرع بدمه لأن "يتوجه لأقرب مركز للتبرع بالدم".