«أنا لا تهمّني الحصيلة والأرقام فقط، وإنما يهمّني قبل كل شيء، التأثير المباشر والنوعي لما تم تحقيقه من منجزات في تحسين ظروف عيش جميع المواطنين».. كان هذا كلام ملك البلاد في خطاب العرش لسنة 2014 أثناء حديثه عن الرأسمال غير المادي، الذي أنيطت بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مهمة قياس القيمة الإجمالية للمغرب، وضرورة اعتماد مؤشر الرأسمال غير المادي خلال وضع السياسات العمومية. وهذا يعني، من وجهة خطاب رؤية ما بعد يوليوز 2014، أن حصيلة وأرقام وحسابات السياسات العمومية تأتي في الدرجة الثانية بعد الأثر المباشر والنوعي على حياة المواطنين وعيشهم اليومي، أي أن العمليات والمعادلات الرياضية في الحسابات، ومؤشرات الفائض أو العجز في الموارد والنفقات، ونسبة تنزيل خطة الميزانيات والاعتمادات وفق القوانين والمساطر بأبعادها الكمية، ليست لها أهمية حاسمة ونهائية في تقييم نجاح أو فشل تدبير المشروع، إذا لم يتم ربطها بالأثر النوعي على حياة الناس، وعلى الخدمات الموفّرة لهم ولأبنائهم في المدن والقرى والمداشر، وداخل أو خارج الوطن. فمن هذه الزاوية فقط تتحدد رؤية دستور 2011 بمواده المائة والثمانين، ورؤية ما بعد يوليوز 2014 التي احتفت بالرأسمال البشري، وبالقيمة الإجمالية للمغرب، بقواعد الأثر النوعي قبل الأثر الكمي، وأنظمة الحكامة الجيدة والمحاسبة الموازية لعمليات الحسابات وإبراء الذمة المالية. فالحسابات بمنطقها الكمّي أصبحت محسوبة على عهد ولّى في زمن انتشار مفاهيم الحكامة الرشيدة والمسؤولية النوعية والمحاسبة والأثر الاجتماعي، ولم تعد تليق حتى ببعض المؤسسات الدستورية التي تشتغل في الواقع بمنطق المحاسبة، وتتقدم إلى الأجهزة الخاضعة لرقابتها بهوية وصفة الحسابات. وقد سبق لنا في مقال سابق أن اعتبرنا المحاسبةReddition de compte ، التي تجاوزت حدود المحاسبة المالية والاقتصادية الضيقة إلى المحاسبة الإدارية والاجتماعية والسياسية وحتى الأخلاقية، تطال الجانب المادي والجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي بجناحيه، الكمي والنوعي، بل وتقيم توازنا بين التقييم المادي وغير المادي للعمليات والإجراءات المتخذة، وتأثيرها، ليس فقط على المال العام، ولكن على الخدمات العمومية، وسياسة الدولة، وتوجهاتها الإستراتيجية المنصوص عليها في دستورها وقوانينها وأوراشها ؛ واعتبرنا المحاسبة كذلك، وليس الحسابات، التي ربطها الدستور بالمسؤولية، بمثابة تدقيق موضوعي في أهداف ونتائج شكل ومضمون المسؤولية، ومقارنة علمية وعملية حيادية بين الموارد المتاحة والمردودية المسجّلة، وتقييم واقعي للأعمال والأشغال المنجزة بمساعدة المؤشرات المتوقّعة، أي أنها البحث في البرهنة على نجاعة وقوة المردودية التي تتناغم مع الأهداف الموضوعة في المهمة والرؤية والإستراتيجية، دون إغفال وثيقة صلاحيات وتفويضات التكليف التي تحدد حجم وشكل وبداية ونهاية المسؤولية، وترسانة القوانين والمساطر المعمول بها على المستوى الوطني أو القطاعي، والإمكانات المادية والبشرية المتوفّرة. وعلى هذا الاعتبار أصبح أمر الحسابات سلوكا إداريا ومنهجا تقنيا متجاوزا، حلّت محله الرقابة والمحاسبة ببعدها الكمي والنوعي، والتي جعلت خطاب العرش المذكور، في سابقة سياسية رسمية، يتساءل عن مصير ثروات البلاد، وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها كانت من نصيب فئات محدودة فقط ؟ وهل كانت اختيارات السياسات العمومية القائمة صائبة أم لا ؟ وما هي الأوراش الوطنية التي كان من الممكن إطلاقها أو الإسراع بها أو تصحيحها إلخ ؟ وإذا كان فقهاء اللغة يتحدثون عن مضمون المصطلح الذي يسبق عادة وضع المصطلح، فإن مضمون اختصاصات وتنظيم المجلس الأعلى للحسابات الذي خصّه دستور 2011 ببابه العاشر، كان أقوى وأكثر عمقا ودلالة من تسميته المدنية الجارية، سواء بالمقارنة مع وثيقة دستور 1996، أو مع ما كان يفهم، في عالم المال والأعمال، من مدلول الحسابات ومراقبة المال العام، حيث تحوّل مصطلح الحسابات، الأضعف تسمية من المضمون الدستوري الأخير، إلى : مراقبة المالية العمومية بالمملكة، وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية، ومساعدة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في مراقبة المال العام، وإحاطة رئيس الدولة ورئيس الحكومة والبرلمان والرأي العام بمضمون ونتائج الأعمال ؛ وهذه المهام من حيث الطبيعة والعدد الكمي والأثر النوعي تزيد عما كان مناطا بنفس المجلس قبل سنة 2011، حيث، من الناحية الشكلية أولا، أصبح المجلس الأعلى للحسابات متموقعا قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ومؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية المستدامة والديمقراطية التشاركية، وبعد الجهات والجماعات والمحكمة الدستورية والسلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية، في حين أن ترتيبه في وثيقة دستور 1996 كان بعد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والمحكمة العليا والقضاء والمجلس الدستوري، وقبل الجماعات المحلية ؛ والترتيب في الوثيقة الدستورية، رغم شكليتها وأثرها المحدود، تبقى لها رمزيتها ودلالتها الدستورية والوظيفية لدى المشرّع والمتلقّي في آن، كما أن "استحواذ" مؤسسة هذا المجلس لغويا على نسبة 2.39 % من العدد الإجمالي للكلمات التي يتشكل منها نص دستور 2011 (240 كلمة من مجموع 10016 كلمة)، والتي تبتعد كثيرا عن نسبة 2.37 % لحصة نفس المؤسسة من العدد الإجمالي لكلمات نص دستور 1996 (107 كلمة من أصل 4500 كلمة)، تشير إلى أن نسبة الفرق المائوي، وهي 0.02 في المائة، ونسبة فرق الكلمات المحددة في 133 كلمة، في وثيقة دستورية متوافق عليها سياسيا، ومعتمدة بعد زوبعة الربيع العربي ويافطات إسقاط الفساد، لها إشاراتها ووظائفها الجديدة في تدقيق المفاهيم، وتحديد وتوسيع الاختصاصات، وملء كافة الفراغات القانونية والدستورية التي سمحت بالانتقال الحتمي من وظائف التحقق من سلامة الحسابات بأجهزة الدولة والجماعات المحلية وهيئاتها، ومساعدة البرلمان والحكومة في مراقبة المال العام، حسب منطوق دستور 1996، إلى مأسسة آليات الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية للمملكة، وتدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، كما جاء التنصيص عليها بوضوح غير قابل للتأويل في المواد الأربعة (147-150) للباب العاشر من دستور 2011، وبعض إشارات المادة الأولى والمواد 146، 154 و156 من نفس الدستور ؛ وهذا الانتقال الاختياري والاضطراري في نفس الآن اقتضاه السياق التاريخي، والمحيط الدولي، والظرفية الوطنية التي عرفت، بالموازاة مع ذلك، تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية سريعة الانتشار والتطور والتغيّر والتناقض، استدعت من جهة، ضرورة تكامل مهام المؤسسات الدستورية في صناعة سياسة عمومية ناجعة ذات أثر ملموس على حياة المواطنين، ومن جهة ثانية انتقال المؤسسة المعنية بالحسابات والرقابة المالية، سواء من خلال القانون المنظم للمجلس الأعلى للحسابات موضوع القانون رقم 62-99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية، أو مقتضيات الباب العاشر من دستور 2011، إلى أبعد من الرقابة على كيفية صرف المال العام، والتخصّص الدستوري في تقييم الأثر النوعي، إلى جانب الأثر الكمي، في الصرف والتدبير وبلوغ الأهداف الاستراتيجية. ولعلّ الرجوع إلى بعض تقارير المجلس الأعلى للحسابات - ومنها تقارير المجالس الجهوية - العامة أو الموضوعاتية، إلى جانب تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وخاصة تقارير تنفيذ القوانين المالية، وتسيير الجماعات المحلية، والمؤسسات العمومية، ومراقبة التدبير ببعض الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والجامعات، ومؤسسات التكوين المهني، والمستشفيات الجامعية، إلى جانب الدراسات التقييمية لمنظومات التقاعد والمقاصة والتدبير المفوّض لبعض المرافق العامة المحلية إلخ، يلخّص طبيعة الرقابة الجديدة التي تتجاوز الحسابات والصفقات وسندات الطلب إلى معرفة ظروف وشروط تحقيق الاستهداف، وتشخيص وتحليل حصيلة النتائج المرتبطة بالأهداف، وتقييم بلوغ الأثر الاقتصادي والاجتماعي، ولو أن الأمر لا يتعدّى، بشكل منصف وشامل ونهائي، هذه الحدود الرقابية في الواقع، فلا تجد في المجلس الأعلى للحسابات أو المحاسبة، ولا في مؤسسات الحكامة الدستورية وأجهزة السلطة التشريعية الموكول لها أمر المراقبة، ولا حتى في أنظمة الحماية والتأمين والتعويض عن الضرر، النفسي والاجتماعي قبل المادي، من "ينتزع" حقوق الأجيال ضحية الاختيارات الاستراتيجية الفاشلة في التربية والتعليم والتكوين والتطبيب والتشغيل والإسكان والحماية الاجتماعية إلخ، رغم أن المحاسبة في مفهومها الأخلاقي العام، كما تقتضيها الأنظمة الديمقراطية الراسخة، هي بهذا المعنى الرقابي الذي يحاسب الفعل العمومي على الأثر القطاعي ثم العام، جرّاء سقوط أطراف اسمنتية من سقف حجرة دراسية مثلا على رؤوس تلاميذ بمنطقة قروية، لا تتوفر حتى على مواد الإسعافات الأولية، ولا نقول المستوصف الصحي، لمواجهة هذا الضرر، الذي قد يزيد من عدم ثقة الآباء في مسؤوليهم الإداريين والتربويين، ويتسبّب في شكل من أشكال التسرّب أو الهذر المدرسي، وينشر بذور الخوف "المجاني" لدى التلاميذ الأبرياء، ولو أن الأمر كان يقتضي في البداية فقط، استيفاء شروط البناء والضمان، والتسليم المؤقت أو النهائي للأشغال، وعدم دفع المقاول المعتمد لتوفير بعض دراهم الإسمنت والحديد أو الزفت من مواد البناء المتفق على كمياتها ومواصفاتها، لتغطية محتوى أظرفة الإكراميات المخصصة لفائدة تراتبية كل من بيده أمر توقيع محاضر المطابقة، أو تحويل مستحقاته المالية الواجبة إلى حسابه البنكي. فالمحاسبة بهذا الشكل تنتقل من النظر المحدود في جزئيات الغش في البناء بمنطقة نائية لا تظهر حتى في خريطة التقسيم الترابي، إلى البحث المعمّق في تبعات مسؤولية إلحاق الضرر بالتعليم القروي، والمساهمة المباشرة أو غير المباشرة في عرقلة التنمية المحلية، ومن بعدها التنمية الوطنية وتطور حاضر ومستقبل البلاد. ولهذا كان لا بد لنا من بلورة مقترح مشروع مؤسساتي بديل أو تكميلي لأجهزة الرقابة التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية، يكون داعما لهذه الأجهزة الدستورية، كما في التجربة الأمريكية حيث أن هذا النوع من المجالس أو الوكالات (Government Accountability office) ملحق بالكونجرس الأمريكي، ومنصب مراقبه العام مهني وليس سياسي، مكلف بالإفتحاص ومراقبة المال العام والميزانية الفيدرالية وتقييم السياسات العمومية، أو كما في التجربة الكندية حيث يتمتع فيها المراقب العامAuditor General of Canada باستقلالية تامة في مراجعة الشواهد، وسلامة الحالات المالية، ومطابقة التنظيمات والاختصاصات مع القوانين الجارية، وتقييم نجاحات الأعمال المنجزة وفق مرجعية كل إقليم. وهذا لا يتأتى إلا من خلال التنازل الفوري على المفهوم اللغوي المحدود للحسابات من أجل تبني مفهوم مهني وأخلاقي شامل يجمع بين الرقابة والمحاسبة، دون أن يعني ذلك تدخلا مباشرا في شؤون السلطات الدستورية القائمة، وخاصة السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ومؤسسات الحكامة، أو انتقاصا من اختصاصاتها وأدوارها، بل المراد هو تحقيق التكامل بين هذه الأجزاء وفق ضمانات الحكامة الدستورية والمصلحة العامة. ويتلخص مقترح هذا المشروع المؤسساتي البديل أو التكميلي، الذي يجب أن يأخذ هو الآخر الصفة الدستورية على هيئة مجلس أعلى، ويستمد منطلقاته من مرتكزات ومكاسب دستور 2011، وروح القيمة الإجمالية للمغرب والرأسمال غير المادي والتنمية البشرية المستدامة، وبعض نماذج التجارب الدولية الناجحة، من خمس وظائف أساسية يتميز بها مشروع هذا المجلس الأعلى، ويتناغم فيها مع مهام واختصاصات باقي مكونات المؤسسات الدستورية الأخرى، وهي : 1/ مراقبة المال العام التي يجب أن تطال الوزارات والأجهزة الحكومية، والهيئات والمؤسسات العامة وشبه العامة، والجهات والجماعات الترابية الأخرى وهيئاتها، والمقاولات والشركات التي تساهم فيها الدولة بحصة 51 % على الأقل، والشركات والمؤسسات والمقاولات الإعلامية والأحزاب والنقابات والغرف المهنية والجمعيات والمنظمات التي تقدم لها الدولة إعانات أو منح أو تستفيد من الإحسان العمومي، والشركات المرخص لها من قبل الدولة باستغلال أو إدارة مرفق عام أو أحد موارد الثروة الطبيعية، وكافة الجهات الأخرى التي يتلقّى في شأنها هذا المجلس من رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو البرلمان بغرفتيه، وفق نص قانوني، تكليفا خاص بمراجعة حساباتها وتقييم أدائها ونتائجها. ومراقبة المال العام لا تكتفي بالأثر المالي والاقتصادي للفعل موضوع المراقبة أو المراجعة، بل هي سؤال في المصدر، وطريقة التحويل، ووثيقة التفويض، وأدوات العمل، ومرجعية القوانين والمساطر، وكيفية الصرف والتدبير، وهامش الربح أو الخسارة، وأثر النتائج في الأهداف، وبراءة الذمة المادية والاجتماعية والأخلاقية ؛ بمعنى آخر، أنها المحاسبة بجدلية الأسباب والنتائج، وفق مقاربة حقوقية تربط عضويا بين شروط المسؤولية وضمانات المحاسبة، بمعايير مهنية ورقابية وأخلاقية تنشد حسن إدارة المال العام، عبر تعزيز آليات المساءلة والشفافية، ومراقبة التسيير المرتكز على تقييم النتائج، والتوظيف الأمثل للخدمة العمومية. 2/ المساهمة في تقييم السياسات العمومية القائمة، على اعتبار أن الدولة في حاجة حتمية إلى المساعدة والمواكبة لتوفير كل شروط التنمية المستدامة، وهي، إلى جانب دعم المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومجالس مؤسسات الحكامة المنصوص عليها في الدستور، في حاجة ماسة إلى خبرة المجلس الأعلى للحسابات أو المحاسبة التي راكمها عبر دراساته التشخيصية والتحليلية لملفات القضايا العامة والموضوعاتية، والتي خرج فيها بنتائج وتوصيات وبدائل ومقترحات عملية، كما هو الحال عقب دراسته وتحليله لمنظومتي التقاعد والمقاصة اللتين دخلتا اليوم مرحلة العد العكسي للإصلاح والموازنة. ولعل في اعتماد مرسوم 20 مارس 2013 الخاص بإصلاح منظومة الصفقات العمومية، شكلا من أشكال الاستفادة من تراكم التحليلات والملاحظات والتوصيات لهذا المجلس، ورصدا للتجاوزات والاختلالات والفراغات القانونية التي كان يعرفها إنجاز المشاريع العمومية، ومنهجية ديمقراطية ومؤسساتية في صناعة سياسة عمومية تشاركية، تهدف في هذا الباب على الأقل، إلى إرساء قواعد جديدة لتدبير الصفقات العمومية، بالارتكاز على مبادئ الحكامة الجيدة والشفافية والمنافسة وتحسين مناخ الأعمال. 3/ وضع وتحيين شروط المسؤولية وضمانات المحاسبة وفق المقاربة الحقوقية، إذ رغم أن محتوى الفقرة الأخيرة من المادة الأولى لدستور 2011 تحدث بوضوح عن ربط المسؤولية بالمحاسبة، ورغم تكرار مفاهيم وقيم الحكامة والمراقبة والمحاسبة والمساءلة على امتداد المواد المائة والثمانين من نفس الدستور، إلا أن شروط المسؤولية وضمانات المحاسبة لم تجد من يقم بتحديدها وجردها وتقنينها وتحيينها، إلا ما تم العثور عليه مشتتا في بعض شذرات القوانين والمساطر والدلائل المنتشرة هنا وهناك ؛ ولعل المجلس الأعلى للحسابات أو المحاسبة هو الأقدر إداريا وتنظيميا ومؤسساتيا على وضع مشروع مدونة أو ميثاق في الموضوع، بكل استقلالية وتجرّد وحياد وموضوعية، بعيدا عن أي مساومة سياسية أو حزبية، كما كان الشأن بالنسبة لقانون التعيين في المناصب العليا الذي التفّت عليه أحزاب الأغلبية، واستفاد من ريعه السياسي بعض وزرائها الذي قاموا - وما زالوا- بتثبيت الموالين لهم أو لأحزابهم، وفق شروط ومعايير ولجن انتقاء يضعها الوزير، ويصادق عليها رئيس الحكومة، ويعلن عن نتائجها المعروفة الناطق الرسمي باسم الحكومة مساء كل خميس. وبالرجوع إلى مقال سابق يحمل نفس العنوان بهذا الموقع، سيتم الإطلاع بتفصيل عن المقصود بشروط المسؤولية وضمانات المحاسبة التي يمكن اعتبارها مدخلا نظريا للوظيفة الثالثة المقترحة لمشروع المجلس الأعلى للرقابة والمحاسبة. 4/ عضوية ومساعدة بعض الأجهزة الإدارية، فكثيرة هي المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية وغير الاستراتيجية، حسب تسمية القانون التنظيمي رقم 12.02 الخاص بالتعيين في المناصب العليا، التي تحتاج إلى العضوية الاستشارية للمجلس الأعلى للحسابات أو المحاسبة، بل إن حتى هذا القانون التنظيمي، إذا تحقّق المستحيل وتم تعديله، أو تم الرجوع إلى الصيغة الديمقراطية الأولى التي كانت تقتضي تعيين لجنة علمية عليا من الوظيفة العمومية والمالية ورئاسة الحكومة والوزارة المعنية التي يعهد إليها النظر في ترشيحات المناصب العليا الموكول التداول في شان التعيين فيها إلى مجلس الحكومة، فسيكون من الأولى دعوة هذا المجلس للانضمام إلى تركيبة هذه اللجنة، خاصة وأن من بين وظائفه الأساسية، وضع شروط المسؤولية والحكامة الجيدة. وإلى جانب شرعية الإبقاء على مقتضيات الفصل 148 من دستور 2011 في شأن تقديم هذا المجلس مساعداته للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية حسب اختصاصه، فيستحسن كذلك طلب مساعدته، إلى جانب عضويته الاستشارية طبعا، من طرف كافة مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحكامة الجيدة والتنمية البشرية المستدامة والديمقراطية التشاركية المنصوص عليها في الفصول من 161 إلى 170 من دستور 2011، إلى جانب مؤسسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي التي أفرد لها الدستور المذكور الباب الحادي عشر من تركيبته. 5/ رفع التقارير السنوية إلى الجهات المعنية مع مقتضيات وآليات التفعيل والمتابعة، حيث لا يمكن للتقارير السنوية أن تبقى اليوم بهيكلتها الكلاسيكية المعتادة، ولغتها الخشبية الإنشائية الجامدة، وأن تظل حبيسة منطق التوثيق والأرشيف، وفي أسوأ الأحوال محضر تبرير أوامر المهام المؤدى عنها من المال العام، بل يجب أن تتحوّل إلى وثيقة عصرية ناطقة وذكية وتفاعلية، تفتح شهية المواكبة والمتابعة والتقييم من خلال بنائها الشكلي أولا، ومرجعياتها، وحصيلة تشخيصها، وأرقامها ومؤشراتها، وانعكاسات النتائج على الأهداف، وأثرها المادي والاجتماعي، وتوصياتها وبدائلها، وخطة عملها المستقبلية، وآنذاك يمكن رفع التقرير السنوي هذا بمهنية واحترافية، وعند كل دخول إداري وسياسي وقضائي، إلى ملك البلاد وإلى رئيس الحكومة وإلى البرلمان بغرفتيه، كما يمكن في مرحلة لاحقة نشره بالجريدة الرسمية، وإيداع مقتطفات جوهرية منه بوسائل الإعلام العمومية، السمعية والبصرية والمكتوبة والالكترونية، ومن خلاله إلى الرأي العام الوطني الذي يجب مكاشفته بانتظام بمختلف القضايا الوطنية والقطاعية التي تهمّ حياته ومستقبله وبلاده.