حكى لي أحد المفتشين في التعليم ، أن زوجته مباشرة بعد عقد القران بها، أرغمته على تحويل مكتبته التي رافقته سنين عديدة والمشتملة على شتى أصناف الكتب المتعلقة بالفكر والفن و الثقافة إلى رفوف للصحون: (الزلايف والطباسل والغطران والكيسان ) ،تتوسط صدرها تلفزة ،فالموضة كانت تقتضي ذلك أي تزيين مدخل البيت بهذا النوع من الأثات كديكور .لكنه لإيمانه بقيمة الكتاب رفض .ومع الأيام بدأ الصراع يشتد بينهما .حاول إقناع زوجته عدة مرات بأهمية وجود مكتبة داخل البيت ، خاصة بالنسبة للأطفال لكنها لم تقتنع . وحفاظا منه على استقرار الأسرة استجاب لرغبتها وأنشأ مكتبة أخرى صغيرة معلقة على جدران غرفة النوم نظرا لضيق مساحة البيت . وضع فيها بعض الكتب الأساسية التي يحتاج إليها والبعض الآخر جمعه في علب كارطونية وركنه في البالكون .هذه الواقعة البئيسة تحيلنا مباشرة إلى علاقة أفراد الأسرة المغربية بالكتاب ،وتجعلنا نطرح التساؤلات التالية :لماذا بيوتات أغلب المغاربة فارغة من الكتب والمكتبات ومكدسة بالديكورات وكأنها متاجر ومتاحف؟ لماذا لم تترسخ لدى غالبية الناس عادة احترام الكتاب وجعله ضمن أقدس المقتنيات في البيت ؟ لماذا أغلب نسوتنا منهن القارئات المتعلمات لازلن يتعلقن في حياتهن بالأشياء الشكلية التي تخطف الأبصار من حلي وتفصيلات وطلاميط وملابس وحقائب يدوية مملوءة بكل ما لذ وطاب من أحمر الشفاه والعطور والهواتف النقالة الغالية الثمن ويهملن ما يشحذ الأذهان وينشط الأفكار ويطيل الأعمار؟ لماذا لا يهرول أغلب المغاربة نحو محلات ومعارض الكتب لاقتناء بعضها عن عشق واقتناع ،هرولتهم نحو ملاعب كرة القدم والسهرات الفنية البايخة ، و أسواق البالي و الخردة و الأسواق الممتازةالتي تغزو ترابنا الوطني كما يغزو السرطان الأجسام هذه الأعوام ، يشترون الأطعمة والأشربة والألبسة والأشياء الفارغة منها بكميات كثيرة وكبيرة وكأن المجاعة والخصاص في السلع على الأبواب ولا يخصصون ولو قسطا ضئيلا من ميزانية الأسرة لشراء الكتب؟ من حق الناس أن يشتروا ما يشاؤون،وهذا مظهر من مظاهر الحرية الإقتصادية التي تنتجها الليبرالية المتوحشة وتعول عليها ،لكن ما يصنع الحضارة من الداخل وينير طريق الشعوب ويخرجها من عبوديتها ويبهج روحها هي الأفكار والأبحاث والإبداعات المذخرة في بطون الكتب ، وليس في عجين الخبز الذي يملأون به البطون. الخبز قد يضمن لك بعد الله قوة الإستمرار في العيش ،لكن لا يستطيع هذا الخبز ولو أكلت منه الفدادين والقناطير ،أن يرفع عنك الأمية ويغسل عنك عارها و يساعدك على وضع رجلك في أدنى درج من درجات سلم التحضر. وصدق من قال ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان. فالموقف الذي اتخذه الزوج في الحكاية السابقة بإصراره على بقاء المكتبة كائنا حيا صامدا داخل البيت حتى وهي معلقة في الهواء مثلها مثل حدائق بابل ،لم يكن اختيارا عشوائيا بل كان انحيازا حضاريا وموقفا احتجاجيا على تهميش الكتاب واعتباره فُضلةََ وشيئا زائدا داخل البيت.ولاشك أن العديد من الأزواج والزوجات الذين لديهم اهتمامات ثقافية وانشغالات فنية :قصاصون فنانون صحفيون أساتذة من الجنسين معا ، عانوا ويعانون كثيرا من مثل هذه المواقف داخل بيوتاتهم وبين عائلاتهم وأصهارهم ،خاصة في بداية الزواج حيث يتطلب التأقلم مع طباع وأذواق بعضهم مع بعض، اجتماعيا ونفسيا وفكريا وثقافيا صعوبات وتضحيات وتنازلات.ثم لا يكفي أن تكون عندنا مكتبة في البيت أو مكان العمل كالمدارس والجماعات المحلية نكدس رفوفها بالكتب و نغسل أيدينا ونقول انتهى الأمر. أمر القراءة والكتاب لا ينتهي من المهد إلى اللحد .المكتبة حياة ،حديقة تكبر وتينع مع الزمن تحتاج إلى قيمين ومنشطين أكفاء إن أهملناها ذبلت غصونها وتجعدت أوراقها، وإن اعتنينا بها انبسطت أمامنا حدائق بسعة الأحلام والأساطير.كثيرون أنشؤوا مكتبات فاخرة :موسوعات ،مجلدات ،مصنفات،لكنها للزينة والتباهي والديكور يتباهى بها أصحابها أمام زوارهم وضيوفهم،تجدهم يستفيضون في الحديث عنها وهم لم يتصفحوا ولو كتابا واحدا منها. لا يعرفون منها إلا عناوينها(بعض رجال الأعمال والسياسةكمثال).كثيرون أنشؤوا مكتبات كذلك ولكن اثتوها بكتب الأفاعي و الغيلان و عذاب القبور ومن اهتم بغيرها فاهتمامه في نظر مؤلفيها وعشاقها من قبيل العناية بالقشور. ثم بماذا يشعرك منظر مكتبة بكتبها المتلاصقة ببعضها البعض متجاورة أمامك كالبنيان المرصوص صامتة وأنت واقف مثل صنم مشلول الحركة لا تمتد يدك نحو كتاب منها ، اليس هذا المنظر أو الموقف هو اليتم بعينه ،تشكو الفراغ والخواء وأمامك الإمتلاء، تشكو الأعداء وأمامك الأصدقاء.؟؟! هذه الكتب المتعطشة إلى ضمة عاشق وهي تنظر إليك بعيون وعقول أصحابها مسكونة بالدهشة والسؤال ،الا تبعث في نفسك الأسى والحسرة حين تُشعرك بفراغك المعرفي ؟ فلماذا تتخلى عن هذه الكتب ؟ هل خجلا ؟ هل خوفا؟ هل ترفعا ؟هل احتقارا ؟ تستسلم بعدها لغرائزك وبهيميتك وكأنك لست من أمة إقرأ التي أبانت كل الدلائل والأبحاث في أنها أمة فعلا الأرض لا تقرأ. في بلاد بالزاك وموليير وفولتير وسارتر وكامو ومالرو، بلاد أهل الكتاب بالمفهوم الديني ، لا تجد وقت الفرنسين الذين استعمروا بلادنا زهاء خمسين سنة، يضيع هباء منثورا،فالكل في باريس يقرأ.فعل القراءة تفشى في مختلف الطبقات الإجتماعية الفرنسية في كل مكان، ومع مطلع كل دخول ثقافي جديد يرتفع عدد الإصدارات حيث لم يستطع الأنترنت أكبر منافس للكتاب في عصرنا- كما نختبئ نحن وراءه ونعلق على مشجبه فشلنا - أن يقضي على اقتناء الكتب و القراءة في فرنسا .فما أبعدنا عن هذا النهم الثقافي و الحس المعرفي الراقي حتى وأصحابه على أرضنا (مراكز البعثة الفرنسية (، لا نملك نحن إزاءه إلا أن نحزم حقائبنا ونسيح في أرض الله، او نظل هنا نتحسر نقضم أظافرنا وأصابعنا ندما على الأوقات التي يضيعها شعبنا شبابنا في المقاهي يدارون الفراغ بالنكات و المخذرات والكحول والسجائر واللغو والنميمة !!! .نعرف جيدا أن الوجه الواحد المتعدد للبحث عن لقمة العيش في بلدنا بسبب الفقر و الأمية والحاجة ،أضحى الشغل اليومي الشاغل للمواطن المقهور لم يجد سبيلا إلى الفكاك منه ليتفرغ للقراءة وكيف يقرأ من لازال في حاجةإلى دروس تكوينية في كيفية السير على الطرقات ،مثله مثل محلول ومخذر كرة القدم التي تجاوزت عدد مقابلتها في السنة محليا وقاريا وعالميا حدود المعقول. ثم كيف للكتاب ورقيا أو إلكترونيا -تساوت حالة النفور هنا- أن يأخذ من قلوب الجماهير والشباب الغفل مكانة البارصا والريال و..و..و.. ؟ . الفراغ ضرب أطنابه و المقاهي تناسلت كالعناكب على امتداد الوطن في شكلها وخدماتها عداء صريح لكل ما ثقافي ،يكتفي صاحب الشكارة فيها أن يقتني بضعة جرائد كطعم السنارة يرمي بها للزبائن يتناوبون على ازدراد أخبارها وملء شبكات كلماتها المتقاطعة ، أما الباقي فمقابلات رياضية في أجواء أقل ما يقال عنها أنها حصص يومية مجنونة ومسعورة وصاخبة مدفوعة الأجر لإحداث المتعة بشكل يعادل المخذرات المحدثة للإنتشاء .لقد تنوعت الرؤى والتجارب لتحبيب القراءة وتقريب الكتاب من الناس خاصة الناشئة منهم من طرف وزارة الثقافة ووزارة الشبية والرياضة أيام السيد لكحص(قافلة الكتاب)معارض الكتاب الوطنية والجهوية والمحليةوالآن ، جمعيات أخذت على عاتقها هذا الهم الكبير ،نذكر منها الآن مثلا جمعية شبكة القراءة الفتية بالمغرب التي لا تخرج عن هذا السياق التي ترأسها (ذة) رشيدة رقي والكاتب العام (ذ) عبد الرحمان الغندور ،جمعية تستجمع طاقات تربوية وثقافية ونضالية تنتصر للحياة والمعرفة وتتطلع إلى المستقبل بأكثر من أمل .فحين تجد الشاعر(ة) والزجال(ة) والمناضل (ة)والأستاذ (ة)وطائفة من الشباب المتنور ذكورا وإناثا يقتطعون من برنامجهم اليومي والأسبوعي أوقاتا غالية و يصرون على تقديم خدمة مجانية لصالح مستقبل ناشئة بلدهم في الحواضر والبوادي والمناطق المهمشة ،فلا تملك إلا أن تنضم إليهم ولو بكلمتي شكر وتحفيز .فهذا التصحر المدمر الذي تمتد رماله الجافة إلى عقول الناشئة وأفئدتهم يوميا من وسائل الإعلام والمحيط الإجتماعي يثير الفزع في النفوس الشيء الذي يستدعي الإنخراط السريع للمثقفين المتنورين في هذا النوع من المبادرات، فالوضع لا يقبل التأجيل والإنتظار، أو النقد الهدام الذي ابتلي به بعض المتثاقفين الذين يتخمونك بالنظريات والإقتراحات ..ينبغي ..وينبغي .. و سنعمل .. و سنكون جمعية... س..س..س...يبنون أمامك أهرامات وجبالا من الأماني والأحلام وعندما تصل بهم الظروف والمواقف إلى الواقع الحي أي ميدان التطبيق الذي يتطلب التضحيات يسقونك من المواعيد العرقوبية وديانا و من الإلتزامات الخاوية كؤوسا من الحنظل. هكذا هو حال بعض مثقفينا ، يعتبرون الثقافة مِلكية خاصة، لا حق لأبناء شعبهم فيها. لكن ما أن يكون وراء نشاط ثقافي استدعوا إليه ) شي تمخميخة مزيانة في فندق خمسة نجوم ( حتى يَنفَضّوا عنك ويَنْفُضوا غبار الكسل ويبدوا في كامل اللياقة والإستعداد. لذلك يبدو واضحا انطلاقا من حكاية صديقنا المفتش مع زوجته التي انطلقنا منها في هذا الموضوع، أن إعادة الإعتبار لمكانة الكتاب داخل البيت المغربي ،الذي سلبته- كما ندعي- وسائل الإعلام والتواصل الحديثة ومد العولمة المتوحش بعض سكينته وأدواره وخصوصياته ، مهمة ليست بالسهلة. فلا يكفي أن ننشئ مكتبة داخل البيت أو على تراب الجماعة نرغم النشء من خلالها على القراءة ،)القراية بزز (فهذا الأسلوب تجووز ،والكتاب لم يعد وحده مصدر المعرفة ، والمدرسة مشغولة بالمقررات الطويلة المحشوة بالكثير من الزوائد، لا وقت لها لفتح أبواب المكتبات المدرسية وجعلها قطب الرحى لكل تنشيط تربوي أو ثقافي. وسائل الإعلام خطاب القيمين على الكتاب فيها نخبوي في وقت نحن في أمس الحاجة إلى تقريب الكتاب والثقافة من الصغار وذوي الإحتياجات المعرفية البسيطة ،برنامج )حبر وقلم( للإذاعية المتألقة اسمهان عمور و (برنامج مشارف ( للشاعر ياسين عدنان في الاولى و برنامج (الناقد) لأحمد زايد في الثانية.كل هذه البرامج على قلتها تخاطب النخبة المثقفة التي نجا جلها من وباء الكوليرا :الأمية . الكتاب الوحيد الذي يتصدر الآن مشهد القراءة بامتياز في المغرب ويسد الباب أمام كل أنواع الكتب الأخرى وجعلها بائرة تتشمس وتتغبر على أرصفة الطرقات في الأكشاك والمكتبات طيلة السنة الكتاب المدرسي، الذي شكل دائما في نظرنا غولا سنويا إن لم نقل ذبَّاحََا يلتهم جيوب المغاربة ، ينشر مخالبه على الضعفاء والمعوزين بكل اللغات والتخصصات ،مازال الكثير ممن يتواطؤون مع جزاريه و يساهمون في ريعه واحتكاره وغلاء بعص أنواعه (الكتب الفرنكفونية المستوردة ) من جهات تربوية مركزية وجهوية ودور نشر ومدارس حرة جشعة لم يشبعوا من إكراميات مرعاه الخصيب .فعلى امتداد عقود زمنية وأمام التراجع الرهيب لمقروئية الكتاب الإبداعي وتداوليته ، وجد سماسرة سوق هذا الكتاب (/الذي كان له وجه واحد فأصبح ذاوجوه كثيرة( باسم الإختلاف والتنوع المجال فارغا للتفرغ لوليمتهم متحكمين في دورة السوق اللعينة عند بداية كل دخول مدرسي. ألا تراهم الآن يحذرون وزارة التربية الوطنية من مغبة التأخر في طبع الكتب المدرسية للعام المقبل!!؟ تصحيح:إعادة طبع ما سبق طبعه واستنساخه وتوزيع غنائمه .أليس هذه هي قصة المنشار المغربي الذي يأكل طالعا وهابطا من لحم هذا الخشب البارد والصامت على امتداد المواسم!!؟ إننا نتطلع نتطلع إلى كتاب مدرسي تتوافر فيه كل مقاييس الجودة ، موسوم بتلوينات محلية وعالمية تساهم فيه كل الأطراف المعنية من معلمين وأساتذة ومفتشين وازنين ،كتاب يفك الخناق عن الهوامش ،يخاطب العقل والوجدان ،أخذا بعين الإعتبار صيانة الهوية من خراب الحداثة وشظايا التطرف ،يختزل الزمن المغربي بعزائمه ورهاناته يكون ضمن المفاتيح السحرية الأخرى المقترحة والبديلة التي قد تساعد على إعادة صولة الكتاب الورقي ومكانته وهدوئه ورزانته كأصدق صديق وأنبل جليس يحترمه الجميع .. ../