شهادات واراء نخبة من الكتاب المغاربة حول علاقتهم بالكتاب وتطلعاتهم لمستقبله الكتاب سقم وشفاء بقلم: الروائي البشير الدامون كنت بقامة أغصان الذرة الحمراء التي لم تثمر بعد وأنا أرافق أمي يوميا إلى بستان بيتنا الصغير في القرية. عند كل زيارة كانت تطلب مني أن أقف بمحاذاة نبتات الذرة، حيث تقوم بمقارنة طولي بطول أغصانها وتتأسف لأن قامتها لم تتجاوز قامتي. بعد ذلك بأيام لم تعد أمي التي أصبحت طريحة الفراش ترافقني إلى البستان. صارت تطلب مني بصوت خفيض أن أتوجه إلى الحديقة وأقف بمحاذاة النبتات لأرى إن كان طولها قد تعدى طول جسدي. ازداد مرض أمي حتى أنها لم تعد تطلب مني أن أعاين نمو نباتات الذرة ونضج سنابلها. تفاقم سقمها فلم تعد تنطق سوى أنين من ألم ينخر جسدها. قررت جدتي أن تستقدم لها فقيها معالجا. حضر الفقيه المعالج فأوصتني جدتي بأن أظل جالسا بالقرب منه وهو يكتب تميمة لأمي. قالت لي إن وجود امرأة ورجل لوحدهما قد يجعل الشيطان ثالثهما. فتح الرجل جرابا من سعف النخيل، أخرج كتابا بلون أصفر حائل ودواة. صار يفتح الكتاب، يتفحص صفحاته قبل أن يخط على ورقة أشكالا وحروفا وهو يتمتم. في دهشة كنت أحدق في يد الرجل وفي الورقة الشاحب لونها باحثا عن سرها و قدسيتها الكفيلين بشفاء أمي من مرضها الشديد. حين أكمل الرجل طقس الكتابة وضع تلك الورقة في غلاف جلدي و قدمها لأمي قائلا: - هذا الحجاب سيشفيك ويحميك من كل مرض ومكروه. رغم أن أمي لم تشف إلا بعد عدة أيام إلا أنني ظللت أعتبر أن شفاءها كان الفضل يرجع فيه للكتاب، وما نقل الفقيه منه وخطه على التميمة التي علقتها أمي حول جيدها. صرت أنظر بالكثير من التقديس إلى تلك الخربشات بالحبر الأسود على الورق التي كان يخطها المعالج والتي عرفت من جدتي أنها تسمى الكتابة. من الأكيد أن تلك كانت علاقتي الأولى بالكتاب، و من يومها بصم الاهتمام بالكتاب نفسي ولم ينمح ولو بعد هجرتنا إلى المدينة. هناك وأنا طفل صغير، مندهش من الحياة الجديدة. كنت أحاول أن أتأقلم مع صدمة الانتقال من قرية صغيرة تعمها الطمأنينة إلى حي شعبي بالمدينة يعمه عنف مجاني وعلاقات اجتماعية سقيمة. أما م هذه الطمأنينة التي تولدت لدي لم أجد من ملجأ سوى الكتاب. هروبا من قلقي وجدت في القراءة السلوى وصرت أقرأ أي كتاب "سقط في يدي" وأطالع حتى محتوى الأوراق التي يلف بها بائع بذور عباد الشمس سلعته. ربما قد يكون ما راكمته من قراءات، ومن معايشة فواجع الفقر في حينا وما نتج عنه من إحساس بألم نفسي، خلف دوافعي للكتابة. فمن دون أن أعلم أنني كنت أبحث عن الشفاء، وجدتني أجمع وأخط بعض فواجع حينا لأولفها في رواية سرير الأسرار. وبعدما قمت بإرسالها إلى وزارة الثقافة لنشرها في إطار دعم الكتاب الأول وانتظرت شهورا و لم أتوصل بأي جواب، اضطررت إلى بعثها إلى ثلاث دور بالمشرق و كان أن جاءني الرد بالموافقة بالنشر من كل تلك الدور، فاخترت دار الآداب. ولقد تأكد لي دور الكتاب في محاولة الشفاء من سقمي، ومن سقمنا- سواء على المستوى الفردي أو الجماعي- حين التقيت لأول مرة بمديرة دار الآداب و بادرتني بسؤال فاجأني ساعتها: - هل شفيت مما تحمل بعد كتابة سرير الأسرار؟ وبعد أن طارت دهشتي من السؤال واقتنعت أن السيدة لم تكن تقصد شفائي من مرض جسدي ألم بي ، قلت لها: - لا لم أشف بعد. وهو نفس "عدم الشفاء" الذي أحسسته بعدما انتهيت من روايتي الثانية أرض المدامع التي صدرت عن المركز الثقافي العربي، ومن رواية هديل سيدة حرة التي ستصدر قريبا، و من نص آخر، أنا بصدد وضع اللمسات الأخيرة عليه والذي يحكي طفولتي الأولى في البادية و كدح أمي. وعن نشر الكتاب، أظن أنه في عالمنا العربي كل كتاب يمكن أن تُكتَبَ له قصة عن ظروف نشره، وكل رواية يمكن أن تصاغ لها رواية حول شؤون وشجون نشرها. على العموم، حال إخراج كتاب إلى النور سواء في المغرب أم في باقي الدول العربية مؤسف. وكلنا نعرف أن دور النشر تقتصر عادة على طبع مؤلفات لكتاب مكرسين، أما من هو في بداية الطريق فعليه أن يؤدي ثمن طبع كتابه للناشر أو في أحسن الأحوال التنازل عن حقوقه. لا مناص من أن نشر الثقافة هو استثمار على المدى البعيد، وأن على كل دولة، خاصة البلدان المتخلفة ومنها البلدان العربية، أن تنظر من هذا المنظور إلى الثقافة إن كانت حكوماتها ترغب في الخروج من هوة التخلف المزمن، وفي إعداد إنسان قادر على الحياة ومواجهة تحدياتها، وإلا فإن" أمْسَنَا أَمْسٌ و يومنا أمْسٌ وغدنا أمْسٌ " وسقمنا عسير والشفاء مستحيل. ******* الأصل والفرع في علاقتي بالكتاب يقلم: الأديب مصطفى لغتيري أستطيع أن أقول بكثير من النسبية طبعا بأن علاقتي بالكتاب علاقة مزدوجة، علاقة أصل وفرع، الأصل هو القراءة التي راودتني عن نفسي من الصغر، فاستجبت لها ولم امتنع، فقدت-نتيجة لذلك- قميصي من قبل، لهذا كنت ولا أزال أمنحها موقع الصدارة في كل اهتماماتي، أقرأ وأقرأ، ولا أتوقف عن القراءة إلا إذا كنت أعد العدة لقراءة كتاب جديد، وقد تعمق هذا الفعل لدي وازداد ترسخا وعنفوانا حين اخترت أن أمتلك الوجه الثاني لعملة للكتاب، أقصد الكتابة، فما إن تورطت في هذا "الفعل" حتى أصبح بالنسبة لي محرضا ومحفزا على المزيد من الخوض عميقا في هذا العالم الجميل النرجسي، أقصد عالم القراءة، الذي يجعلك تكتفي بمتعته دون باقي المتع، فبفضله تحاور أدباء ومفكرين وفلاسفة لم يتح لك القدر مقابلتهم، أو التطلع إلى سحناتهم الناضحة بحب المعرفة والتوق إليها، بل تستطيع كذلك أن تتماهى مع عوالمهم المتخيلة فتحيا في كنفها لردح من الزمن، قد ينسيك العالم بأكمله بهمومه ومشاغله التي لا تنتهي. ولجت عالم الكتابة بعد زمن من احتراف القراءة، فزاد عشقي للكتاب، حتى أنني لم أعد أرى لي طيب عيش بدونه أو بعيدا عن دفتيه، وبعد أن كحلت بصري بكتابي الأول انفتح لي أفق جديد، أفق جعلني أخرج من دائرة استهلاك الكتاب فقط، لأنتقل إلى إنتاجه كذلك. كانت بدايتي مع نشر كتاب في حضن وزارة الثقافة التي أصدرت كتابي الأول" هواجس امرأة" وهو عبارة عن مجموعة قصصية، صدرت لي عام 2001 ، وقد رأت قصصها النور تباعا على صفحات منابر ثقافية وطنية وعربية، شجعتني لجمعها بين دفتي كتاب، وتوالت بعد ذلك الإصدارات ملامسة بإصرار جنس القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا والرواية والنقد الأدبي والبحث التربوي وفن الرحلة، وأعد العدة لأدلو بدلوي في جنس الشعر كذلك لأن لي ديوانا جاهزا، أنتظر فقط الوقت المناسب لإخراجه إلى النور، وبعد كتابي الأول الصادر عن وزارة الثقافة المغربية نشرت لي دار نشر مغربية وهي" أفريقيا الشرق" بعض رواياتي، ومنها رواية "رجال وكلاب"، ثم انفتحت على المشرق العربي، فاحتضنت كتاباتي دار النايا السورية، التي نشرت لي أكثر من عشرة كتب، من بينها رواية "ابن السماء" ورواية"امرأة تخشى الحب" ثم جاء الدور على "دار الآداب" البيروتية العريقة التي احتضنت روايتي الأخيرة " الأطلسي التائه"، دون أن أنسى "دار الوطن " المغربية التي ازدانت بعض إصداراتي بعلامتها الجميلة، وخاصة رواية"أسلاك شائكة" التي أصدرت طبعتها الأولى وكتاب "تأملات في حرفة الأدب" ومؤخرا الكتاب التربوي "الأدب في خدمة التربية". هكذا إذن أجدني قد أولغت في عالم الكتابة بأكثر من عشرين كتابا، تتوزع على مجموعة من فنون القول والكتابة، لكن هوسي بالقراءة لم يتوقف أبدا، وما زلت إلى يومنا هذا أشعر بكثير من الانتشاء حين أحصل على كتاب جديد وأقضي معه وقتا ثمينا وممتعا، يقتلعني من عالمي الآني ليطوح بي في عوالم عدة متخيلة، تزيد المرء حسنا كلما ازداد لها قراءة.. وفي عرفي المتواضع أن قراءة كتاب دون الكتابة عنه تعد قراءة ناقصة بل هي والعدم سواء، لذا كلما أتيحت لي الفرصة لقراءة كتاب ما أجدني منجذبا لتحبير بعض العبارات عنه، محاولا بذلك التعمق أكثر في سراديبه الخفية، لعلي أقبض على بعض من بهائه ورونقه، فأظفر بمقالات منها ما يحوز شرف النشر ورقيا أو إلكترونيا، ومنها ما أحتفظ به لنفسي، أعود إليه بين الفينة والأخرى لأنعش ذاكرتي بخصوص كتاب أو كاتبه. في علاقتي بالكتاب هناك بعد ثالث ترسخ في دربي، الذي أخوض فيه منذ أن اخترت الكتابة سبيلا أمضي في شعبه المتداخلة، ويتعلق الأمر بتقديمات الكتب، فلقد تشرفت بكتابة كثير من تقديمات لكتب عدة جاد بها مؤلفون مغاربة وعرب، فأتاح لي ذلك توطيد علاقة أمتن بالكتاب والكتاب، وفي حصيلة اليوم تقديماتي الآن لأكثر من عشرين كتاب من المغرب وفلسطين وتونس والعراق وليبيا، وقد يسر لي هذا الأمر الاطلاع بعمق على تجارب إبداعية، إما مكرسة أو في بداياتها الأولى، مما يجعل الكتاب أكثر حضورا في حياتي بأشكال متنوعة ومختلفة. كما أن انخراطي في العمل الجمعوي الثقافي فتح لي دربا جديدا في عام الكتاب، أقصد النشر، إذ أنني أشرفت مع زملائي المبدعين في"الصالون الأدب" بداية، وفي "غاليري الأدب" بعد ذلك، على إصدار مجموعة من الكتب الفردية والجماعية، من أهمها كتاب" أنطولوجيا غاليري للقصة القصيرة جدا.. جيل جديد". ******* الكتاب يعاني من تراجع نسبة المقروئية بقلم: القاصة فاطمة الزهراء المرابط هي علاقة روحية، يصعب تسجيلها بين طيات الورق، علاقة تجعلني أتساءل دوما عن طعم الحياة بدون كتاب، بدون صديق وفيّ يبدد قسوة الزمن، ورفيق يقصر المسافات أثناء السفر عبر القطارات، ويكسر روتين الانتظار. أعترف في الآن نفسه، عن دوره الكبير في مجيئي إلى عالم الكتابة، فهو الدافع الخفي الذي حفزني على حمل القلم في سن مبكرة، لتسجيل خواطر عابرة، طورتُها بالقراءة المستمرة إلى نصوص أدبية ومقالات اجتماعية وحوارات، كثيرا ما تجد طريقها نحو القارئ المغربي والعربي عبر منابر ورقية وإلكترونية. ومنذ أن لامست أناملي غلاف كتاب لا أتذكر عنوانه في سن الخامسة، عندما كنت أتعلم الحروف الأولى على يدي والدي، والكتاب يرافقني كظل أينما حللت ورحلت. هذه العلاقة الروحية التي تربطني به، توطدت وصارت أكثر قدسية عندما اطلعت على المراحل الصعبة والمعقدة التي يمر منها، قبل أن يصل في طبعة أنيقة إلى يد القارئ، بدءً من مخاض الكتابة وما يرافقها من معاناة، مرورا بالطبع والنشر وتعقيداته، وصولا إلى الترويج الإعلامي والتوزيع، الذي يعتبر الهاجس الأكبر الذي يعاني منه الكتاب الورقي. هذا الكتاب الذي تمكن من الصمود لحد الساعة في وجه التطور التكنولوجي، وما رافقه من تعدد في القنوات الفضائية واكتساح الشبكة العنكبوتية لمختلف المنازل المغربية. لكن للأسف، على الرغم من وجود نسبة لا بأس بها من المهتمين بالكتاب الورقي، والمجهودات التي تبذلها بعض الإطارات الثقافية - رغم قلتها وافتقارها للدعم الرسمي- والمبادرات الفردية الساعية لإعادة الاعتبار للكتاب المغربي، إلا أنه يعاني من تراجع المقروئية والعزوف عن اقتنائه. وإن اعتبرنا التقدم التكنولوجي مساهما في تراجع مكانة الكتاب وتداوله بين مختلف الفئات الاجتماعية، إلا أنني أود توجيه الانتباه إلى نقطة أخرى، قد تكون حسب اعتقادي عاملا آخر لعزوف القارئ عن الكتاب، وهي غياب الجودة في بعض الكتب واستسهال بعض المحسوبين على الكتابة لهذا المجال، فساهموا في إغراق السوق الأدبية بإنتاجات لا ترقى إلى تطلع القارئ/ الناقد، الشغوف بالقراءة الجادة والهادفة، خاصة مع غياب أو تغييب لجان القراءة من بعض دور النشر حتى لا أعمم رأيي على الجميع، ما يؤثر على جودة الكتاب وإمكانية الإقبال عليه من طرف القراء. وأجد أن الكتاب المغربي، ما زال يتخبط في إشكالية النشر نظرا لغياب مؤسسات رسمية داعمة لمراحل إنتاجه، عكس ما يحدث في الدول الغربية وبعض الدول العربية، حيث تخصص المؤسسات المعنية ميزانية كبيرة لتشجيع الكتاب والقراءة، في حين أن الكتاب المغربي يفتقر لهذا الاهتمام، باستثناء الدعم المتواضع الذي تقدمه وزارة الثقافة لبعض الكُتاب أو دور النشر، لذلك يضطر الكاتب إلى طبع ونشر إنتاجه العلمي أو الأدبي على نفقته، وهي معضلة حقيقية يعاني منها الكتاب الورقي، عايشتها من خلال الاحتكاك بالمبدع المغربي الذي لا يكف عن الشكوى من هذا الواقع، موجها الاتهام لدور النشر وتكاليفها الباهظة وكذا عزوفها عن احتضان الكتب ودعمها، في حين أن هذه الأخيرة تشكو من افتقارها للدعم، وكونها مؤسسة تجارية تثقل المصاريف الكثيرة كأهلها، هذا العامل وجه اهتمام العديد من الكُتاب نحو المطبعة غير المتخصصة لنشر كتبهم بأقل تكلفة ممكنة - دون الاهتمام بطبعة الكتاب وجودتها - ثم يبدأ مشوار التوزيع الهاجس الأكبر الذي يؤرق الكاتب المغربي، في غياب مؤسسات رسمية تتكلف بالتوزيع وحماية الكاتب من ابتزاز الشركات الخاصة، الأمر الذي يفرض على الكاتب اللجوء إلى التوزيع الذاتي والتنقل بإنتاجه بين المكتبات المغربية، ما يحصر الكتاب في زاوية صغيرة ومناطق معينة، أو التوزيع المجاني على الأصدقاء خلال الملتقيات والمهرجانات الأدبية، وكذا في غياب حملة إعلامية لتقديم الكتب الجديدة بوسائل الإعلام الرسمية، وتشجيع القارئ على الإقبال عليها - لقطات إشهارية على سبيل المثال - وغياب برامج ثقافية مهتمة بالكتاب باستثناء برنامجي "مشارف" بالقناة الأولى و"الناقد" بالقناة الثانية، وهي برامج غالبا ما تفتح أبوابها في وجه فئة معينة من الأقلام (الأسماء الوازنة/المستهلكة)، في حين تغلق في وجه الأقلام الناشئة والمغمورة، وبرنامجي "حبر وقلم" بالإذاعة الوطنية و"في ضيافة كتاب" بإذاعة طنجة، ومبادرات أخرى خجولة غالبا ما تتوقف بعد مدة، وأمام هذه الوضعية يتحول الكاتب إلى منتج وناشر ومروج إعلامي وموزع لكتابه. هذه الإشكالية التي يعاني منها الكتاب المغربي، جعلتني أتردد كثيرا في خوض غمار النشر، مكتفية بنشر نصوصي ومقالاتي ببعض المنابر الورقية والإلكترونية كحافز على الاستمرار في المجال الإبداعي، هذا الواقع القاسي الذي يطال الكتاب المغربي ومكانته في المجتمع، دفعنا - نحن ثلة من المبدعين المغاربة المهتمين بالرسالة الإبداعية وبأهمية الكتاب والقراءة كوسيلة لرقي المجتمعات - إلى تأسيس إطار وطني يعنى بالقراءة والنشر والتوزيع: "الراصد الوطني للنشر والقراءة"، محاولا دراسة هذه الإشكالية والمساهمة في إيجاد الحلول وإعادة الاعتبار للكتاب الورقي، من خلال تشجيع الناشئة على فعل القراءة، والاحتفاء بالكتاب المغربي إعلاميا ونقديا وتقريبه من القارئ حسب إمكانياته المتواضعة، عبر مجموعة من الأنشطة المرتبطة بالكتاب على المستوى الوطني. هذا الإطار على الرغم من حداثة تأسيسه شكل إضافة نوعية للمشهد الثقافي المغربي، وقد كان الحافز الذي شجعني على خوض غمار النشر بعد تردد دام لسنوات، بدءً من الملاحظات التي تلقيتها من الإخوة أعضاء لجنة القراءة، مرورا بالطبعة الأنيقة وما رافق إصداري الأول: "ماذا تحكي أيها البحر...؟" (قصص) من ترويج إعلامي في المنابر البصرية والسمعية والورقية والإلكترونية، وحفلات توقيع في سياق تقريب الكتاب من القارئ، وكذا عرضه بالمعارض الجهوية والوطنية والدولية للكتاب، دون أن أنسى مسألة توزيع المجموعة في مختلف المدن المغربية، وما رافقه من حملة إعلامية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وأعترف بأن وصول مجموعتي القصصية إلى يد القارئ/ الناقد، يشجعني على خوض غمار النشر مرة أخرى، ويزيد من حميمية ارتباطي بالكتاب الورقي. وختاما، أود الإشارة إلى ضرورة التحرك الجماعي بشكل مسؤول وأخص بالذكر القطاعات ذات الصلة كالثقافة والتعليم والاتصال، وجميع المؤسسات والجمعيات المدنية، المعنية بمجالي القراءة والنشر، من أجل إيجاد حلول وبدائل لإشكالية الكتاب، والتي تزداد حدة مع مرور السنوات (ضعف نسبة الإنتاج، معيقات التوزيع والترويج الإعلامي، تراجع مستوى القراءة)، وصياغة مشروع متكامل يعكس رؤية جميع الفعاليات والأطراف المسؤولة عن إنتاج الكتاب وإيصاله إلى القارئ، وذلك في أفق التطلع إلى إنتاج كتاب مغربي يستجيب لكل معايير الجودة من حيث مضامينه وصناعته وكذا توزيعه، والتفكير في وسائل جديدة لتشجيع النشر والقراءة بالمغرب. ****** مفارقات الكتاب وغرائبه بقلم: الشاعرعبد الغني فوزي يغلب ظني، أن الحديث عن علاقتي بالكتاب الذي أكتبه أو أطالعه، لا ينفصل عن وضعية عامة، محكومة بأنساق وسياقات المجتمع والمرحلة. لهذا أفضل وضع بعض التشخيصات لوضع الكتابة والقراءة في المغرب، في تركيز على الكتاب الإبداعي، باعتباري على صلة وثيقة به: أثار وضع القراءة بالمغرب مؤخرا نقاشا مستفيضا، ضمن تظاهرات ثقافية مفتوحة وأيضا على صفحات الإعلام المكتوب والمرئي. ومن الملاحظ أن سقف النقاش بدأ يعلو قليلا، نظرا لجلوس الأطراف المختلفة التي لها علاقة بالكتاب إلى مائدة واحدة؛ والتفكير بصوت مرتفع. أما التفعيل فمسألة أخرى. الكل، يقر الآن بأزمة القراءة وما تنطوي عليه من اختلالات في سلسلة إنتاج الكتاب، بدءا من دعمه ونشره إلى حين وصوله عبر توزيع نصفي. وهي عملية ترافقها بحدة، أسئلة متعددة حول حلقاتها: سؤال النشر ومعيقاته، سؤال المؤسسة، سؤال التلقي أو قل سؤال مجتمع وسؤال الكينونة. فكثير هو الكلام المكرور بتوصيف بارد حول هذه الظاهرة؛ ففي غياب بنية تحتية مستوعبة، وتركيز الكتاب في خلف المؤسسات التربوية دون ساحاتها التي تحولت إلى رحبة سوقية بامتياز. كما أن أخلاقنا وعلاقتنا بالكتاب نظرا لتمثلات سارية في المخيال الجمعي حول " القراي "؛ تجعل الكتاب مفارقا وغريبا. هو نقاش وسجال مرغوب فيه الآن وهنا، لتحميل المسؤوليات. لكن في غياب النيات الحسنة للتفعيل، يبقى الأمر كطحين دائرة نؤزم به مرة ثانية أزمة الكتاب الباحثة عن نوافذ البلد؛ للتأسيس لذاكرة وكينونة ضمن التباسات العصر. ما أثارني أكثر في هذا النقاش الدائر اليوم، هو موقع المبدع ضمن ذلك؛ فالكتاب الإبداعي آخر ما يقرأ، وينشر بالكاد نظرا لصد السوق. بل أكثر من ذلك، يعيش المبدع مفردا بين القبائل والمؤسسة التي تؤسس لنفسها بارتجالية مفضوحة ضمن مشهد لا يريد أن يتمأسس، خوفا على التركة وحراسها الأفاضل. المبدع الذي اختار نصه وقده، يطبع على نفقته؛ ويوزع بكامل كتفه المستعصية على الالتهام. وحين يترك خلفا هو وكتابه، يختار النص ثانية، ليعاود حمل الصخرة ضمن الدائرة نفسها. هناك حقائق، يصنعها الإعلام أحيانا وقفزات القول وعلو المنصات: كيف لا يقرأ الكتاب الإبداعي وهو أصل النقد، وأن المبدع فاعل إلى جانب الكتاب بالتقديم والمساهمة بالفعل والتفاعل. هل فعلنا وفعلنا ما يكفي، لنقول إن الإبداع في أزمة تلقي. ما مكانة الإبداع المغربي بالمقررات الدراسية: بالمؤسسة التربوية، بالأسرة... وفي تقديري، لا ينبغي لمؤسسات ثقافية وعموم الكتاب أن ينساقوا وراء أحكام تجعل المبدع دائما في قفص الاتهام، وفي موضع المهزوم أمام الناشر التجاري وأمام جمهور لا يأبه؛ لأننا لم نقم بترويضه وتدريبه بالتدرج، ابتداء من الأسرة إلى المدرسة، تليها المؤسسة. الإبداع هو المحفز الأساس للمخيال وللكينونة لكي تكون في الحياة أو الافتراض، قصد تشكيل رحابة إنسانية ثرية المشاعر وعميقة الوجدان. وبالتالي، فعملية الفكر معقدة التكوين؛ نظرا للتعالقات بين الإبداع والنقد والأفكار على اختلاف مرجعياتها. في هذا السياق، ينبغي إعادة النظر في الطبع على النفقة الخاصة، قصد إعادة النظر أيضا في هذا النشر الذي يتاجر بأغلفتنا؛ بل وبجماجمنا دون أن ندري. الأمر يقتضي نشرا ثقافيا، وإعلاما حاضنا؛ هذا فضلا عن مؤسسات ثقافية تطرح ملفات للمعالجة عوض الانسياق وراء الكلام المكرور. في هذا السياق، على الجهة الوصية أن تكون ذات منظورات مفعلة دون تصلب للرأي ضمن تصور شامل للثقافي كملكية جماعية قد تضر بمجتمع أو ترفع من شأنه ثقافيا طبعا. المبدع في تقديري يطرح سؤاله الجماعي: لمن أكتب؟ وحين ينتهي من كتابه؛ يصبح هذا الأخير ملك ثقافة ومجتمع. ولا ينبغي علاج الأزمة بالأكمام ترقيعا. وقد نسمع من البعض، أن الناشر يحترم ملكية الكاتب وحقوقه بتوقيع عقود واتفاق حول شروط النشر والتوزيع. وفي المقابل، فخلف كل كتاب يصدر كتاب آخر، ليته يفتح للحد من لغو الناشرين وتنطعهم. وبالتالي فإشكالية الكتاب في التلقي ليست إشكالية مبدع على الرغم من حيف وغياب قناة التصريف. فالمشكلة لا تقتضي الشعور بها فقط لحلها، بل وضعها في إطارها العام: فبدون إنهاء معضلة الأمية، وولوج الكتاب لمؤسسات التنشئة والتكوين وتفعيل خانات الثقافي المعطلة بمؤسسات التسيير العام ( الجماعات المنتخبة، الوزارة، الأحزاب ..). أقول بدون ذلك، سنبقى نجتر الأزمة ونقلبها قلبا. فرهان "مجتمع قارئ" يقتضي إعادة الثقة ومصالحة القارئ المواطن مع الكتاب. وهو ما يقتضي إعادة النظر في الحصيلة وتطوير أساليب الأداء والرفع من سقف الحوار. فحين يسعى الإنسان في هذا البلد إلى الحوار كرافعة إنسانية ومدنية، آنذاك ستلجأ الخلفية الجائعة إلى مقروء متعدد الأشكال، لتهذيبها وتغذيتها. هل وظيفة المجتمع المدني هو التنبيه والطرح لهذا المكتوب بقوة السؤال، المتروك في الثلاجة وفي زحمة الانتظارات؟ أم تحويل ذلك إلى مطالب وجدولة؛ ينبغي التنسيق والعمل على تحقيقها. كيف يمكن لجمعيات ثقافية أن تطرح بيانات ومواقف حول قضايا وإشكاليات؛ ولا تضيف لتصورها أفقا مطلبيا؛ لأن هذا الثقافي لا سند له ماعدا جلود الكتاب ومحافظهم طبعا التي تحفظ للكتب وجودهها. ****** الكتاب..ذلك الشبيه الذي أدخل معه في حوار بقلم: الناقد شكير نصرالدين متى وجدتُ في نفسي ميلا إلى الكتب؟ أبعد ما تسعفني الذاكرة، أراني أختلس الفرصة لتقليب صفحات كتبِ كانت تحظى بتقدير حد التبجيل من الوالد أطال الله عمره، لماذا الحرص على تلك الأشياء التي زيِّنت بخطوط غريبة وجميلة؟ ربما هي الحرمة التي كانت تحيط بها ما جعلها مشتهاة. وجاءت المدرسة لتخفي إلى حين تلك الظلال والرموز العجيبة. المدرسة التي كانت مقترنة بالإكراه والتقييد أكثر من أي شيء آخر، لكنها رغم ذلك رسَخت الطابع القدسي للكتب، حيث كان أشد العقاب ينزل بمن سولت له نفسه البريئة العبث بالأوراق، ثنيا أو خدشا أو تمزيقا، لتظل الكتب طوال المدرسة الابتدائية مرادفا للتعلم المتعدد القيود، إلى أن كان لرواية صغيرة باللغة الفرنسية، من إهداء أستاذ اللغة الفرنسية بالسنة الأولى إعدادي، مفعول السحر، السحر الذي يحرر ذلك الفتى من مقررات مدرسية قاحلة، رصينة حد الاختناق، ولا عجب، فالرواية طبعت بميسمها أجيالا متعاقبة، إنها رواية الكاتب الجزائري الرفيع مولود فرعون،»ابن الفقير». لعل ذلك اللقاء كان أكثر من قراءة عابرة، حيث منذ ذاك الحين وعلى امتداد عقد من الزمان، لم أعد أترك رواية مكتوبة بالفرنسية من الأدب المغاربي إلا لأعانق أخرى، حتى صار لي يقين راسخ بأن ذلك هو الأدب الوحيد الجدير بأن نخصص له أكثر من أوقات الفراغ، وصارت الكتب من خارج المقررات الوزارية هي القاعدة التي لا أشط عنها إلا لضرورات واجبات مدرسية أو اختبارات إشهادية. موازاة مع عالم الحياة، قامت بشكل متلازم، حياة داخل عالم الكتب، هذه التي صارت امتدادا حيويا للذات. الكتاب وطد العلاقة بالفن والجمال والناس على الأخص، أصدقاء إلى اليوم كان الكتاب هو وسيلة التواصل المستمرة بينهم، نتبادل الروايات مثلما يفعل فتيان وفتيات اليوم بالرسائل القصيرة العابرة للهواتف والشبكات. روايات وكتب مخصوصة كان لها أثر العاصفة، وأخرى كانت تحط على الجراح الداخلية مثل البلسم. كتبٌ نقرؤها ونعيد بلهفة. كتبٌ طَبعت الشخصية الاعتبارية للفرد وسط زمرة الكائنات الهشة التي لها أسماء شعراء و روائيين وفلاسفة ونقاد. وبالجملة، فإن الكتاب بات وكأنه شبيه أدخل معه في حوار، سواء تم ذلك قراءة، أو نقدا أو ترجمة. أما عن علاقتي بالنشر، فقد جاءت متأخرة في صيغة الكتاب، مع أني دأبت على الكتابة والنشر في الصحف والمجلات بالمغرب وخارجه منذ أكثر من ثلاثة عقود. وإن كنتُ قد دخلت النشر من باب دُور عربية، أول الأمر، فإني بصفة المتتبع أرى أنه ما يزال هناك الكثير من العمل حتى ترتقي دور النشر المغربية إلى ما يصبو إليه الكتاب المغاربة، في جميع الأصناف الإبداعية والنقدية والفلسفية. ليتأمل الناشرون المغاربة هجرة الكتاب المغاربة إلى دور مشرقية، لماذا يترك الناشرون المحليون كل تلك المداخيل الخرافية التي يحققها أبناء حرفتهم المشارقة، «على ظهر المبدعين» المغاربة؟ بكل بساطة،عليهم فحسب النظر إلى الأمر من زاوية الربح للطرفين، والأكيد أن كل كاتب مغربي يفضل أن يحقق نجاحا عربيا بفضل دار نشر مغربية، وهذا هو التحدي الحقيقي. مع أنه في جميع الأحوال،على الناشر المغربي أن يساير ما أصبحت تفرضه العولمة. الآن، وسائل الاتصال والتواصل والطبع في تطور مطرد، إما أن يركب القطار، أو يتخلف عن الركب، الركب الثقافي الجاد والفاعل، أما الاقتصار على الكتاب المدرسي، فذلك لا يصنع ثقافة، ولا يبني الإنسان. **** الكتاب هو النور الماورائى بقلم: القاص أحمد شكر موغلة في الحلم القدري هذه العلاقة المُلتبسة مع الكتاب باعتباره لُقية طريق، اكتشاف خرافي بالنسبة لي، صُحبة ابتدأت لتستمر، نُتف من آثار ذكريات هائمة في الضباب الطولي لمسير متعثر، شأن شخصي محض لطفل يبحث عن منطق للأشياء، وعن سند وصداقات وقصص وكتب تفتح أمامه بوابة الحلم. لا أتذكر بالضبط أول كتاب قرأته أو اقتنيته، لأن ذلك موغل في طيات وطبقات رسوبية عميقة، لكن مُتأكد أنها علاقة عشق وتناغم وصحبة أبدية ابتدأت لتستمر، صحيح أنها استمرت وحماها اشتدت. انبثقت هذه الرفقة لترتب لي فوضى العالم وتٌحدد لي أولوياتى وتؤثث حديقتي الداخلية. بالنسبة لي الكتاب أكثر من كونه أوراقا ومدادا وحيوات مُتقاطعة، هو النور الماورائى، هو قاهر الأبدية، هو اللذائذ المخفية في الحدائق السرية. ابتدأت العلاقة بكونها عشق لمقروء، لتتطور وتتبلور في شكل إنتاجية خاصة بي، تحمل عنوانا لمجموعة قصصية مضمخة بسؤال البدايات ودهشة الاكتشاف، تُطبع لتعقبها مجموعة ثانية وكتاب ثالث يهتم بالشأن الثقافى، تجربة بسيطة لها ما لها وعليها ما عليها، أعتز بها كثيرا. كما باقي زمرة جيلي وجدت صعوبة وعناء في إخراج هذه الأعمال إلى حيز الوجود، لكن أكبر عائق هو التوزيع، فظروف النشر للأسف متخلفة ومتعثرة وتكاد تكون بدائية تعكس بالواضح ترتيبنا في سُلم القراءة الكوني، فتخلف النشر ما هو إلا نِتاج طبيعي لمسار طويل من التخلف. تطلعى المستقبلي هو تطلع كل حالم مؤمن بحلمه، بهذه القدرية المُشتهاة لبلد يعتز بإنتاجه الفكري ويعمل على تيسير طبع وتوزيع الكتاب وبناء المكتبات في كل الأحياء، ودعم فعل القراءة باعتباره صمام الأمان وجسر المستقبل، لكن هل هي ضلالات؟ الآن وبالكيفية التي يُدبر بها الشأن الثقافي، ستبقى ضلالات وستتطور لتصبح كوابيس مؤرقة.