حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسينا حديث نبوي إذا ما تعمقنا أكثر في المحتوى الحضاري والإنساني للثورة الحسينية، سوف نجدها بلا شك أكبر من كونها مجرد ثورة. فليس كل ثورة تمتلك استحقاق الخلود في لوح التاريخ الممدود. وحيث ما يميزها عن عموم الثورات هو خلود مضمونها الرسالي الكبير، وما كان قد كشف عنه هذا الجرح الحسيني المفتوح من دروس وعبر، فإننا نفضل أن نحترز بها عن هذا العموم بعوض لفظي أكثر تقييدا، هو " النهضة"، بكل ما تعني الكلمة من معنى. وما يجعلني أرى أن كلمة ثورة لا بشرط القيد الإحترازي المذكور لا تفي بالغرض ، هو أن لا قيمة للثورة إلا فيما تحدثه في الوجدان الجماعي من آثار توقظ العقل وتحرك الروح. كما أن الثورة هي أمر عام يمكن أن تقوم به جماعة إنسانية في ظروف مختلفة ولغايات لا يتعدى محتواها إلى الدائرة الإنسانية بالضرورة. وكم من نظير في التاريخ لثورات قامت ولم تتعد حدودها ولا استطاعت أن تتحول إلى درس تستلهم منه الأجيال مقومات نهضتها. وثورة الإمام الحسين كانت تعبيرا عن نهضة معاقة وردة فعل عن عصور أخذت طريقها نحو الانحطاط. ثم هي ثورة أحرار لا ثورة عبيد. فالحسين لم يسمح لقاتليه بالإذلال. فكان أسرع في رد طغيانهم قبل أن يمسه عار المذلة . إنها ثورة أثمرت وعيا حيا في نفوس الأجيال المتعاقبة، تشدها إلى معنى الكرامة وجمال التحرر. فهي بما ينضم إليها من إنجازات تمثل نهضة أمة، وإن كان الحسين صانع ملحمتها، بوصفه الممثل الشرعي لضمير الأمة. وهي أيضا نهضة إذا ما تأملناها في ضوء المشروع الإصلاحي الكبير الذي قاده جده و أبوه وأخوه، كما تؤشر عليه كلمته وهو يتحرك باتجاه الكوفة: "إني لم أخرج أشرا ولا بطرا...وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر". إنها ثورة هيمنت على الوجدان المسلم، فصنعت كل التحولات التي شهدتها القرون اللاحقة. وإنك تجد أن ما أعقبها من ثورات، كثورة التوابين لسليمان بن صرد الخزاعي أو المختار الثقفي، أو ثورة العلويين المتحالفين في بداية نضالهم مع الثورة العباسية ضد المشروع الأموي المقبور، والذين رفعوا شعار الرضا من آل محمد، كلها كانت تستحضر الشعار الحسيني. وسواء أنجحت في ترجمة شعاراتها أم لا، فإنها ثورات مستلهمة من هذا الروح الحسيني الذي أعاد صياغة العقل المسلم باتجاه إمكانية التغيير للأفضل. في هذا الإطار يمكننا القول بأن النهضة الحسينية كانت في صلب المسألة الإسلامية. فلسنا نحن من يحتاج أن يقرب النهضة الحسينية إلى صلب قضايانا الراهنة، ومسائل الفكر الإسلامي، بل لا قيمة لهذا الفكر إذا لم يستحضر تجارب الأمة في النهضة والإصلاح. والنهضة الحسينية هي طليعة هذه التجارب. وهل قضايا الفكر الإسلامي وقضايا الأمة الراهنة، إلا الحرية والكرامة والإحساس بالمسؤولية والضمير الأخلاقي الذي شكل مقاصد النهضة الحسينية؟! فهي نهضة حية لا تموت من خلال القيم التي كانت تنطق من داخل الميدان وترسم للأمة نهجا في التحرر وعدم القبول بالذل. فكل كلمة نطق بها أبو الشهداء، عبرت عن منتهى ما يطلبه الأحرار. إن النهضة الحسينية، كانت أولى النهضات التي شهدها التاريخ ، جعلت لها مطلبا للتحرر والكرامة. لم تكن ثورة من أجل الخبز، على شرف ثورات الخبز، ولا ثورة ضد التمييز العنصري على شرف الثورات التي قامت ضد التمييز... فلقد كان بنو هاشم كرام القوم لا يملك أحد إذلالهم إلا وذل وذاق من كأس الهوان؛ لكنها كانت ثورة من أجل الكرامة ومن أجل الحرية ومن أجل الإنسان. والذين صمموا على إذلاله يدركون أن مغامرتهم تلك جاءت بعد أن حسم الحسين في موقفه من يزيد وتموقعه في صفوف المظلومين. فكان إذلال يزيد للحسين، إذلالا لرمز يمثل ضمير هذه الفئة المستضعفة والمستباحة كرامتها. فسير الأحداث يؤكد على أن الحسين أبى إلا أن يكون درعا واقية لهؤلاء، ومعبرا شجاعا عما لا يقوى التعبير عنه أمة هوى بها التردد والخذلان مهوى خطيرا. فلقد قدم الحسين أكبر دليل على خدعة الإسلام الأموي. ولولا قتل الحسين بتلك الطريقة الهمجية، لما سمعنا يزيد يكشف عن نوايا التيار الأموي من خلال تمثله للأبيات الشهيرة لابن الزبعرى مع زيادة أشدّ كفرا منه ، التي جاء فيها: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل فلقد أظهر الحسين أنه ليس طالب ملك، بل طالب كرامة.. وليس طالب غلب بل طالب تحرر.. وليس طالب دنيا بل طالب آخرة.. وليس طالب ثأر بل طالب عدالة. في تصوري أن قضايا الأمة الراهنة هي من سنخ قضايا النهضة الحسينية. ذلك لأنها قضايا إنسانية تكررت على امتداد هذا الزمن المهدور على إيقاع فظاعات الإنسان في كل ربع من هذه البسيطة. وما دامت القيم النبيلة التي استشهد من أجلها الحسين لم تتحقق، فحتما سيظل كل زمان عاشوراء وكل مكان كربلاء. على أنه يجب فهم العبارة في عمق محتواها وفلسفة تجادل القيم مع الواقع، حيث كل بحسبه. فالتاريخ يعيد نفسه لكن بصورة أكثر تعقيدا وتركبا. وإذا كانت الثورة الحسينية النهضوية هي أول ثورة في تاريخ النوع جعلت عنوانها التحرر والكرامة، فإنها أول ثورة من داخل التجربة الإسلامية ضد استغلال الدين للاستبداد السياسي وإذلال الخلق. وقبل حركات التنوير والإصلاح الديني الذي شهدته أوربا الحديثة، يطلب الإصلاح في الوعي الديني. ولعله أول من جعل الكرامة والإحساس بالحرية عنوانا لا بشرط لنهضة الأمة. أين يكمن الإشكال؟ يبدو أن ثمة خللا تواصليا بشأن نهضة الحسين. لا أحد يدرك إن كان الإشكال في المخاطب(بكسر الطاء) أو في المخاطب(بفتح الطاء). ثمة خلل بلا شك، وهو خلل على تفاوته يظل مشتركا بين الإثنين. خلل في الخطاب وخلل في ذهنية المتلقي للخطاب. وأعتقد أن مقتضى النهضة الحسينية ومحتوى حركتها الرسالية، هو الإنصاف والعدالة والاعتراف. لذا يتعين الحديث عن خلل يصيب الجهتين معا. حيث أن ثمة أمرا آخر يشكل مقصدا مؤطرا وموجها لكل قراءتنا، وهو المقصد نفسه الذي فجر النهضة الحسينية؛ أعني وحدة الأمة وإحساس أبنائها بأن أمرا كبيرا شغل وجدان رموزها وهو الوحدة التي تتعالى على الخلاف ولا تصل إلى حدود القطيعة. ونعتقد أن آثار القطيعة التاريخية لا زالت رابضة على العقول والقلوب. ومن هنا فإن الحديث عن المسؤولية المشتركة، على التفاوت في النيات والمقاصد، هو أمر ضروري. ونحن نعتقد أننا مطالبون أكثر من غيرنا بالتنازل في العوارض لما يخفف من وطأة هذا الشرخ الذي جعل الأمة في أرذل عمرها تبدو كالرجل المريض. ونعتقد أن منطق الأبوة للأمة الذي وسم معالم النهضة الحسينية بميسمه الخاص، يفرض على شيعته مواقف مسؤولة وصبرا أكبر وتشبثا بمصلحة الأمة لا يحركه الاستفزاز، وطلبا لرأب الصدع لا يخفف من باعثيته إزعاج. وذلك في نظري نابع من حالة الجهل وغياب معطيات كثيرة على من يتلقى الخطاب في زحمة التهريج والحصار التاريخي الذي جعل كل ما يقال عن شيعة أبي عبد الله الحسين، هو ما تنسجه حولهم أيادي خصومهم ؛ تارة بجهل بسيط وتارة بجهل مركب. أعتقد أن معالجة الخلل ينبغي أن يتم خارج هذا التراكم التاريخي المهول من المسبقات والخلفيات التي حكمت العقول والأذهان واستمرت ترفد العقل المسلم اليوم بكل فظاعاتها. وأعتقد أن العصر بما يشهده من نضج حضاري ومن إمكانيات هائلة للبحث عن جذور الأزمة ومعوقات العقل الإسلامي، يمكننا من تدبير أمثل لخلافنا. لقد عاش المجتمع الإسلامي عبر تاريخه على إيقاع ثقافة الاستئصال. وقد لحق أتباع مدرسة أهل البيت (ع) من الظلم ما لم يلحق مدرسة من المدارس الأخرى. ولا أدري كيف أن كل المدارس التي كان على رأسها فقهاء وعلماء من عموم الأمة نالت من الاحترام والتقدير ما لم تناله مدرسة كان رموزها هم أكبر رموز الأمة بلا منازع. إنها لمفارقة حقا! وحتما إننا في المجتمع المغلق، المحكوم بفوبيا الاستئصال، سيتشكل لديه إحساس خاص بمعتقداته. وحيث أن المجتمع المغلق بخلاف المجتمع المفتوح، يطور لنفسه تجربة طقسية تستمد تعبيراتها من الراموز الشعبي والظواهر والأذواق السوسيو ثقافية. وهذا ما يجعل هوية المجتمع المغلق تزداد ابتعادا عن الآخر وتتضخم مظاهر غربة المجتمع المغلق عن الآخر. إن ما نجده من مظاهر طقوسية عاشورائية هو نتيجة هذه العزلة التاريخية والحصار الذي فرضته السياسة الاستئصالية. إن الموقف الاستغرابي من الظاهرة الشيعية في طقوسياتها العاشورائية، مسألة طبيعية بالنسبة للآخر المسلم الذي يكتفي بالفرجة ولا يشارك إخوانه الاحتفال بالذكرى. وهو إلى حد ما معذور تاريخيا لأنه لم يتمثل عمق المحنة وعمق الجرح الحسيني المفتوح. وتلك هي المشكلة. تفريس الشيعة ولو كانوا عربا وتعجيم عاشوراء إن مقاصد النهضة الحسينية أوسع من المدى الذي تردت إليه بفعل الاختزال الطائفي لها. وهو وضع يستدعي وقفة تأمل قصوى. والحالة الطائفية الاختزالية ليست صناعة شيعية محض، بل هي نتاج أزمة قطيعة داخل الأمة تعدت إلى مستوى الاختلاف في اعتبار الرموز وكيفية استحضارها في الوجدان المسلم. فالحسين وقضيته يحضران في الوجدانية الشيعية على خلاف ما يحضران في الوجدانية العامة. وطبيعي أن مجتمع العامة لم تتوفر له الشروط الكافية ولا عاش الظروف الموضوعية لتطوير ثقافة حسينية، لأسباب تاريخية مشهودة. وهذا لا يعني أنهم قتلة الحسين. ففي اعتقادي لا وجود لقتلة الحسين بيننا. إن الحسين أكبر من أن يكون رمزا لطائفة أو لقومية ما. وأما خطاب التفريس والتعجيم لكل مظاهر التشيع فهو يقوم على مغالطة كبرى، تحجب حقيقة أن المظاهر الحسينية انتقلت إلى فارس من البلاد العربية ، وإن تلبست بمظاهر التجربة الذوقية الصفوية وقبلها البويهية. فتلك ثمرة التثاقف الطبيعي وسنة تكامل التجارب والأذواق ، يجب أن لا نبالغ في ذلك ونساير فيه لغة التجديف التي تستند إلى تغيير جوهر النقاش أو تركز على الظواهر العرضية والمظاهر الثقافية. والذين درسوا تاريخ الدولة الصفوية يدركون بأن التشيع الإيراني ساهم فيه أعلام من العراق والأحساء وجبل عامل؛ هذا من الناحية التوثيقية. وأما في تصوري، فإن الدعوة المذكورة تحمل في ثناياها سخف القول وضحالة التصور. فالدارسون للثقافات يدركون كم هي خاضعة لقانون التبادل والانسياح و التثاقف. فإيران تؤثر بقدر ما تتأثر. قارن بين الفارسية القديمة والفارسية الحديثة كي تدرك أن حظّ تأثر فارس والفارسية بالثقافية العربية جعلها تنقلب رأسا على عقب. إنّ استقباح الثقافات لمجرد كونها غير عربية غير مفهوم من الناحية العلمية ولا مقبول من الناحية الأخلاقية. هذه النزعة البالية التي تحاول تصوير فارس كما لو أنها شر حضاري، نزعة جاهلية مردودة بقول صاحب الدعوة في: "لو كان الإسلام في الثريا لناله رجال من فارس". هذا فضلا عن أنها مردودة تاريخيا، لجهة كون الحضارة الإسلامية مدينة في كل فنونها وصنائعها للعقل الفارسي المسلم. لقد ساهمت فارس في تأصيل المذهب السني بينما يعود الفضل للعرب في تأصيل المذهب الشيعي. لا نريد أن نذكر بأن كتّاب المجاميع الكبرى الستة لأهل السنة كالبخاري ومسلم النيشابوري والترمذي وابن باجة وغيرهم هم من فارس ، كما لا نريد أن نذكر بأن أبا حامد الغزالي مؤصل الأصول الأشعرية ومنظمها كما مؤصل الأصول الفقهية ومنضمها كان خراسانيا فارسيا ، كما هو حال أئمة الصوفية كالجيلاني والجنيد هم من أصول فارسية. وناهيك عن الطبري صاحب التاريخ والتفسير والزمخشري المعتزلي والجرجاني والقائمة لا تعد ولا تحصى. وحينما تنازع الصحابة يوم الخندق حول من يفز بفضل نسب سلمان الفارسي، حيث قال المهاجرون سلمان منا، وقال الأنصار سلمان منا، حسم صاحب الدعوة (ص) النزاع قائلا: " سلمان منا أهل البيت". فكان سلمان الفارسي هو سلمان المحمدي. وكل فارسي أسلم واتقى يكون من سنخ سلمان، أي بقدر سلمانيته يكون أقرب إلى أهل بيت النبوة. وكما أنقد سلمان الفارسي المسلمين يوم الأحزاب حين بلغت القلوب الحناجر، بفكرة الخندق، فإن فارس تستحق اليوم احتراما لقاء ممانعتها ولقاء نصرتها، فلا ينطق بلغة التفريس والتمييز العنصري البغيض في المعتقد الإسلامي إلا مغالط. لا يجوز الحكم على أمة من خلال مواقف نشاز وانفعالية تنطلق من هنا أو هناك. فنحن العرب لدينا من ينزع مثل هذا النزوع إلى حد الفحش. لكنه يظل نزوعا غريبا على فكر الأمة ووجدانها. وكان الأحرى لو شئنا توسيع هذه النزعة أن نحكم بتفريس كل الحضارة الإسلامية، عندما ما ندرك بأن المدرسة السنية فقها وأصولا وحديثا هي من نتاج قوم من الفرس. فالبخاري و مسلم وبن حنبل والترمذي وبن باجة والدارقطني والطبري والغزالي و...و... هؤلاء كلهم أعاجم وجلهم من فارس فأين يذهبون؟ ولقد كانت إيران قبل تشيعها على اعتقاد الأمويين في سب علي بن أبي طالب على المنابر. وكانت مناطق منها، آخر من قبل بالتراجع عن هذه البدعة في زمن عمر بن عبد العزيز. وأما الحديث عن كيفية عولمة الخطاب الحسيني، فأنا أعتقد أن المسألة تتعلق بالمخاطب قبل المتلقي. فالخطاب الحسيني رهين بنضج وثقافة الحامل للخطاب. فيمكن أن يرقى الخطاب برقي حامله، ويمكن أن يتقزم الخطاب فيأخذ شكل حامله حيثما أضفى على الخطاب رؤيته المحصورة أو دثره بخصوصيته الضيقة. فالخطاب الحسيني قد يصبح عالميا كونيا إذا توفر الحامل الكوني والإنساني. أي أن يرقى الخطاب ليلامس وعي العالم ونضج العالم. ومن هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار، الذوق العالمي والثقافة العالمية في تقديم رسالة الحسين واستنطاق ملحمة الحسين وتأويلها. ما هي فائدة الأطروحة الحسينية ؟ ليست المشكلة في التوجه التكفيري، ما دام لم يخل تاريخنا من نظائر لا يزال يحتفظ بها التاريخ الإسلامي. ولا يجب أن نعطي أهمية معرفية وتاريخية لهذا الخطاب، ما دام أنه بلغ الأمر بهذه الأمة يوما، أنها كانت تلعن في المنابر وأعقاب الصلوات، أمير المؤمنين والصديق الأول والفاروق الأكبر علي بن ألبي طالب (ع)، لمدة قرن من الزمان. ولقد كان الإمام علي بن أبي طالب أول ضحايا النهج التكفيري. وحيث نذكر كيف عقّب الخوارجي على جواب الإمام بالقول: "كافر ما أفقهه"!؟ وإذا كان ملهم نهج البلاغة وقف مشدوها أمام جهل التكفيريين، حيث قال عن أمثالهم: "ما حاججت جاهلا إلا غلبني"، فأي حجة نستطيع امتلاكها في وجه المكابر التكفيري؟! ولكنني أعتقد أن عصر التكفير يتراجع تدريجيا وأحيانا بالجملة أمام نضج البشرية واتساع رقعة الخطاب العقلاني. فالتكفيريون لا تزدهر صناعتهم ولا ينمو فنّهم إلا في عصور الانحطاط وشيوع الظلامية وتمكنها من الأذهان. واليوم فإن التوجه التكفيري يعيش صدمته الكبرى ولم يعد يملك من حجة سوى التحريض على التشويه و قتل النفس المحترمة. على هذه المحاولات التقريبية والحوارية أن تتواصل. ولا ينبغي أن ييأس الوحدوييون والتقريبيون أمام خطاب التيئيس الذي ينهجه أعداء وحدة الأمة. وعلى الطرحات الحسينية أن تكون حاضنا حقيقيا لخطاب الوحدة والتقارب بين المسلمين. فالحسين هو للأمة جميعا، وعلينا أن نحاسب إخواننا المخالفين على ذلك، باعتبار، أن الحسين لهم أيضا. وليس لنا فحسب. الخطاب الحسيني لجميع أبناء الأمة لا أجد في الاختلاف الفروعي ولا حتى الأصولي ما يمنع من الاشتغال اليقيني بواجب الوحدة. فالمسألة في اعتقادي ليست نافلة، بل هي واجب تكليفي عيني، يجب أن يوجه كل سلوك ومواقف المسلم المعاصر. إن احتفاظ أتباع المذاهب بقناعاتهم لا يرفع واجب الحرص على الوحدة. فالقناعات تابعة لأدلتها. ولا نطلب من المخالف أن يحيد عن أدلته التي انبنى عليها قطعه بالمرادات. ولا نطلب من أحد أن تكون قناعته عن تقليد أو دون دليل معتبر. ومثل هذه الرياضة المناظراتية يمكن أن تستمر بين المسلمين في أجواء محكومة بفقه للخلاف يستحضر أخلاقيات الحوار وعقلانية المناظرة. لكن الخلاف ما دام في نظري لا يمس الأسس التي بها يكون المسلم مسلما، ولا يجرف الحد الأدنى الذي جعل الأئمة أنفسهم يعايشون المخالف لنهجهم ويعتبرونه مسلما، فلا حاجة للاسترخاء في طلب الوحدة والتقارب بين المسلمين. ومن هنا يتعين تقديم الخطاب الحسيني باعتباره طلبا لإصلاح الأمة جميعا كما يظهر من كلمة الإمام الحسين (ع). علينا أن نعيد قراءة المشهد بعيون فوق طائفية. وأن نقرأ الحسين كمصلح كبير للأمة، كل الأمة، وليس متحيزا في حركته الرسالية لطائفة ما. بل قد يصبح توسيع الخطاب الحسيني وجعله عنوانا لوحدة الأمة أمرا ضروريا بهذا اللحاظ. وذلك كله يتطلب وقفة تأمل قصوى كما قلنا سابقا. إن الخطاب الحسيني خطاب إسلامي وإنساني مفتوح. والإمام الحسين طلب من محاصريه أن يسمحوا له بأن يتجه إلى ثغر من ثغور المسلمين ليدافع عن الأمة حتى يلقى الله. كما أن ابنه زين العابدين رغم مواجع الاستضعاف الأموي وجرح ما شاهده من إبادة لأهل بيته، يقدم نموذجا للهم الوحدوي من خلال دعاء أهل الثغور الذي يلامس فيه قضية الأمة الكبرى والقلق على بيضة الإسلام بما يفوق الاعتبارات الشخصية والحسابات السياسية الضيقة. البعد التبليغي العصري لعاشوراء كما تحدثت عن توسيع دائرة المتلقي للخطاب الحسيني ليشمل الأمة جمعاء، ويعانق تطلعات أبنائها، فإنني أدعو إلى مزيد من توسيع دائرة المتلقي لتشمل البعد الإنساني الكوني لهذا الخطاب. ولعل الناظر في مفردات الخطاب الحسيني سيكتشف أن أكثر المسائل التي أثارها هي بلا شرط، تتجه نحو الإنسانية وتخاطب الضمير الإنساني من حيث هو إنسان. ولقد افترض الحسين أن خصومه لا سيما المستمتعين بقتله، أنهم كانوا لا يؤمنون بالمعاد ولا يخافون الله، لذا تقدم خطوة ليخاطب ما يلزمهم برسم الضمير الإنساني:" فكونوا أحرارا في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون". فهو يتحدث عن الإنسان وعن الفتى وعن النفس المحترمة وعن الحق والكرامة... فكل ما نطق به هو مدرج في الملف المطلبي لكل حركات التحرر والتحرير. ويستطيع أن يفهمه الإنسان بوصفه إنسانا في كل عصر وفي كل جيل. ولا يخفى كيف التقط غاندي وهو رمز من رموز حركة التحرر الوطني هذا الخطاب يوم قال وهو غير المسلم: "تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر". لكنني لا زلت أرى الحسين وقضيته غير مقروءة ولا مستوفاة بالقراءة على المدى الكوني. ولا يزال الخطاب الحسيني بوصفه جوهر الخطاب الإسلامي مشخصا خير تشخيص في الميدان لينقلنا إلى وجه آخر من فهم الإسلام. فالحسين هو أكبر ضحية للإرهاب والإقصاء والاستئصال. وفي الخطاب الحسيني نستطيع الوقوف على فكر احترام الآخر واحترام الحياة، حيث ليس موت الحسين إلا فضحا لذلك النهج القائم على قتل النفس المحترمة. وفي هذا الإطار نعتقد أن أتباع مدرسة أهل البيت تتاح لهم اليوم فرصة لم تتاح لهم منذ قرون. وليس ذلك إلا بتوفيق من الله تعالى، ومصداق قوله تعالى:( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الأئمة ونجعلهم الوارثين ). لكنني اعتقد أن ذلك يضاعف المسؤولية. وهو أن علينا واجب استشعار المسؤولية فيه والتزود بصبر أكبر واحترام الآخر.عليك أن تقدم تصورك ورأيك بعدل وإحسان بعيدا عما يخدش كرامة ومقدسات الآخرين. ما أقوله وهو أن الفضائيات اليوم عليها أن تطور من أسلوبها، حتى لا تتحول إلى حسينيات فضائية ومفتوحة. عليها أن تستحضر ذوق الآخر وعقل الآخر، وتطور خطابها الحسيني بمستوى أنضج وأعمق وأكبر. الملحمة الحسينية والمطلوب من خطباء المنبر الحسيني أحيانا، تكون المسألة أبعد من مجرد وجود إفراط أو تفريط في الأسلوب الذي يقدمه أتباع أهل البيت بخصوص الخطاب الحسيني. المسألة في تصوري تتعلق باختلاف في الأذواق واختلاف في الأنماط. وهذا ليس من حق أي قارئ للظاهرة من الخارج أن يستشكل عليها من ناحية الإفراط والتفريط، على أساس أحكام القيمة. وحده علم اجتماع الثقافة يمكنه أن يقف على المعقول الثاوي في صلب اللامعقول في كل ممارسة طقسية ذات بعد سوسيو ثقافي. وأنا شخصيا أستمتع بالفرجة في كل أسلوب له مرجعيته في الثقافة الرمزية لشعب من الشعوب ما لم يخرج عن الذوق المقبول. أحيانا أستحسن بعض الأنماط الاحتفالية وأحيانا أستقبحها، لكنني أتفهمها. وأما ما يسمونه الحماقة، فهي أحكام معيارية تدل على جهل حقيقي بنسبية الطقوس والثقافة الاحتفالية من وجهة نظر اجتماعية وانتروبولوجية. لكن ما أريد التنبيه إليه بهذا الخصوص، هو أن ضرورات توسيع مدى المتلقي المفترض للخطاب الحسيني وضرورات عالميته تفرض نوعا من التخفيف من وطأة التضخم في النمط الخاص، لأننا نرى أن الطقس الحسيني في خصوصيته الاحتفالية المحلية أحيانا يسبق المعطيات الموضوعية الملهمة والفلسفة التي تختفي وراء حرارة الطقس. وبالتالي، أحيانا ولا أقول دائما، هناك، تأثير سلبي، يجعل الوعي بالفلسفة الحسينية متأخر عن التأثر اللاواعي بطقوسيتها. بل أخشى أن تتحول الرسالة الحسينية في فلسفتها الإنسانية الكلية إلى ظاهرة سوسيو ثقافية محض، تغطي على بعدها الأيديولوجي والتاريخي الموضوعي ومحتواها النهضوي والرسالي، الذي يلامس الوعي والعقل بقدر ما يلامس الوجدان واللاوعي. إن جانبا جوهريا في هذا الحدث له علاقة بما هو ديني وبمنطقة الوعي التام بالقضية الحسينية. وشيء من الجنون ما لم يخفي المساحة المقعقولة والواعية بالقضية من شأنه أن يضرّ بها. لكن هل يمكننا الحديث عن وقف كل التعبيرات الشعبية والطقوسية العاشورائية؟! في تصوري المطلوب هو التوازن. أعني إعطاء الوعي حقه مقدار ما نعطي للاوعي. أي أن يوجد نوع من التوازن يؤدي إلى تعدد في الخطاب. المشكلة هي إذن، في اختلال التوازن في زمن تربص المعادي والمسيئ. نحن نعلم أن المتلقي المفترض يشكل القاعدة الاجتماعية الشعبية الأوسع. لكن هذا لا يعني إغفال الشريحة الواسعة التي تتطلع إلى تشكيل حالة ارتكازية في منطقة الوعي بالقضية الحسينية. من ناحية أخرى أعتقد أن الطقس الحسيني والقالب الذي يقدم به الخطاب، ليس هو المشكلة الجوهرية حتى مع وجود ما يبدو منفرا منه في ثقافات أخرى. وهذا أمر جاري الحديث فيه قصد الإصلاح والتطوير ؛ فهذا أمر طبيعي. إننا نفهم الطقس الحسيني في تعبيره الشعبي والثقافي الرمزي، حكاية عن انجنان مفرط بمحبة الحسين، يترجم أقصى الولاء. والمحبة للحسين ولعموم أهل البيت هي أمر بسيط يشتد ويضعف، فلا حدود له. بل كل يحب بطريقته والكل يتنافس، (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، لقوله (ص): "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا". فهناك من يحب كثيرا وهناك من يحب قليلا، ومن الحب ما قتل! ويبدو لي أن ما لا يفهمه الآخر في الأسلوب الذي تقدم به القضية الحسينية، هو أن هناك قيمة في الوجدان الشيعي تقوم على اعتبار الانجنان بحب الحسين: "حب الحسين قد جنني" . فالمظاهر التي تشاهد في المناسبات، دالة على أن المطلوب هو إظهار الإنجنان بحب الحسين، وليس المقام مقام معالجة برهانية أو جمالية. وإذا كان هناك من ينعت الشيعة بأنهم مجانين من خلال طقوسيات عاشوراء، فله الحق أن يقول ذلك ما دام هو خارج دائرة تأثير الوجدانية الشيعية الحسينية. وذلك في اعتقادي دليل على أن الشيعة نجحوا في تقديم المراد؛ بأن حب الحسين قد جنهم. أعتقد أن المطلوب هو التوازن في الخطاب وفي الطقس للكشف عن الوجه الكوني للخطاب. على أن الحديث عن الوجه الكوني للخطاب لا يعني القضاء على الجانب الشاعري والطقسي للخطاب، فللكونية طقوسها المقبولة أيضا. الملحمة الحسينية هي إنسانية متعددة الأبعاد. وتضخم الحالة الوجدانية واختزالها في الطقس الاحتفالي راجع إلى سعة القاعدة السوسيولوجية الشعبية للمجتمع الذي يتعاطى هذه الاحتفالية مقابل محدودية النخبة وثقافتها. لكن هذا التنوع في الأبعاد العاشورائية لا يظهر منه إلا الجانب الطقسي. وعلينا أن نوسع من الجانب التحليلي والقرائي الذي يدرس الملحمة الحسينية من خلال أبعادها وزواياها الأخرى. إن من يسهام في صولة هذا الانجنان هو نقمة الخصم الذي كلما بالغ في التجديف ساعد على مزيد من الانجنان في الطرف الآخر. أعتقد أنه متى خفّ الظلم في قراءة الآخرة النظر إليه كلما خفّ صورة هذا الانجنان الذي هو في النهاية تعبير عن استياء من الظلم المعاصر الذي يجد في مناسبة عاشوراء كل دواعي التفجر في شكل طقوس لا تعرف حدودا في التعبير. لكن يظل ثمة جذوة يجب أن تستمر ، لأن التعبير قد يتغير لكن الجوهر يظل حارا في انتظار التعبير الأفضل. هذا في الإطار العام. أما من ناحية المبلغين وخطباء المنبر الحسيني، فعليهم أن يتحلوا بثقافة عالمية، تمكنهم من استحضار الوعي العالمي والذوق العالمي، ويكونوا أكثر توازنا. والخطباء في هذا المقام مطالبون أكثر من غيرهم بتحصيل حد أدنى من الثقافة العالمية والاجتهاد في مراعاة الذوق المشترك وعدم الاستسلام للسبات الانفعالي والعاطفي الذي يقوم عادة على حساب منطق المحتوى الرسالي للمادة الحسينية. إن القدرة على السيطرة على ناصية الوجدان الشعبي في العرض العاشورائي أثناء سرد الأطوار الموحية في نعي الحسين، لا ينبغي أن تسرق وعي الخطيب وتجعله يزهد فيما أسميناه المحتوى المنطقي و الموضوعي لرسالة الحسين. هناك ما يعرف بالغوريز عند خطباء المنبر الحسيني، والكلمة فارسية، يعنون بها الهروب. وهي تقنية خطابية تنقل ذهن المتلقي بنكتة ينخرم فيها السياق بصورة خفية إلى المصيبة من دون سابق إنذار، ولكن بذكاء خطابي. ويحتاج الإنسان أن يكون متمثلا للوجدانية الحسينية حتى يسامح هذه الانعطافة الخطابية، حيث البعض يبالغ في التسامح أحيانا إلى حد غير معقول.على الخطيب أن لا يمارس الغوريز المنطقي فضلا عن الخطابي، لأن ذلك غير مقبول من المتلقي العالمي الذي لا زالت تنقصه المعطيات. إن الثقافة الحسينية كما تمارس في المجتمع الشيعي، تجعل المتلقي المفترض لا يرى في الأطوار الذي يكاد يحفظها عن ظهر قلب، سوى لحظة سماع لاستحضار مصيبة لا تغيب عنه تفاصيلها. ولكن المتلقي خارج دائرة تأثير الوجدانية الشيعية تنقصه المعطيات. إن التضخم من الحالة الوجدانية ليس هو المشكل، بل المشكل يكمن في غياب حد أدنى من فكرنة الملحمة الحسينية وحد أدنى يوازي ذلك من الدراسة الواعية لمضمونها النهضوي. هناك خطاب حسيني منبري نشأ وتطور وتراكم في مجال سوسيو ثقافي معين، كما يفترض متلقيا محددا سلفا. لكن المنبر الحسيني لم يطور خطابا مفتوحا، ولم يفترض متلقيا مختلفا، قد تنقصه المعطيات المتعلقة بالمحتوى التاريخي والمنطقي للمصيبة، أو قد لا يتمتع بالحاسة السوسيو ثقافية لالتقاط اللغة الرمزية والذوقية لهذا العرض البكائي الممسرح. من ناحية أخرى يجب التأكيد على المحتوى الحضاري الكبير، والبعد المشروعي لملحمة الحسين. إن الخطباء يركزون بالتفصيل على المقتل، وعلى إبراز اللحظات الدراماتيكية للجريمة. فلا ينسون جزئية من جزئيات المقتل. وهذا أمر مهم نجح فيه المنبر الحسيني إلى أبعد الحدود. لكن قضية الحسين ليست مجرد وصف لمقتل، بل هي وصف لقتل استتبع أشكالا من القتل لمشروع أمة ومشروع نهضة. أي البعد الشأني للإمام الحسين وموقعيته الرسالية داخل الأمة.إن نضج الخطيب الحسيني وثقافته تنعكس بصورة تلقائية على المحتوى، فتكبر القضية بمستوى ثقافة الخطيب وعلمه. وفي هذا السياق يمكننا الحديث عن نماذج تركت بصماتها على المنبر الحسيني من أمثال الشيخ الوائلي رحمه الله، الذي استطاع أن يطور نمطا خاصا في الخطابة الحسينية، استدمج فيها العلم والتحقيق بفن الخطابة وما يقتضيه من نكات بيانية، فكان نموذجا للخطيب الذي يفقه عصره ويفقه موقعية الخطيب الحسيني ومسؤوليته. وهناك نماذج كثيرة، حيث أفضل أن لا أتحدث عن الأحياء، استطاعوا أن يطوروا أسلوبهم الخاص ويثروا تجربتهم الثقافية ويعصرنوا خطابهم الحسيني المسؤول ويكيفوه ضمن جغرافيا الحساسيات المختلفة. وأعتقد أن المنبر الحسيني يجب أن يتحول إلى شعبة تخصصية، وأن الخطابة الحسينية يجب أن تصبح تخصصا، ومادة للدراسة يتعلم فيها الخطيب فنون الخطابة و التزود بالمعارف والعلوم الضرورية للخطيب. فحيثما أبرزنا المشروع الحضاري والنهضوي الذي قضى في سبيله أبو الأحرار، كبرت الملحمة الحسينية وأصبحت أكثر عقلانية وبالتالي أصبحت الوجدانية نفسها مقبولة بهذا اللحاظ. إن الحسين قد فتح صفحة بيضاء، علينا أن نعرف كيف نكتب عليها أعظم جملة للتعبير عن ملحمة، لا زلنا نرى أنها قادرة على أن تلهمنا بالشئ الكثير. ملحمة عاشوراء و التحديات الإستكبارية علينا أن نراجع الموقف من الآخر بوصفه معاديا لبني هاشم. فإذا كان تاريخنا شهد بعضا من هذه النماذج، فإننا اليوم نشهد تراجعا، وإن عوض بعض من النقمة على أتباعهم اليوم. لكن هذا لا يهم ولا يجب أن ينسينا مطلب الوحدة والتقارب.والملحمة العاشورائية تتيح فهما أكبر بما يجب على طليعة الأمة النهوض به. والخطاب الحسيني هو في جوهره خطابا للتحرر والتحرير. ولغته في هذا المجال أوضح من كل خطاب آخر. إن الحسين الذي أخبر بأنه لم يخرج أشرا ولا بطرا ولا مستكبرا، قد عبر على أن رسالته هي ضد الظلم والاستكبار بكل أطيافه. والحسين لما التمس من خصومه أن يسمحوا له بالاتجاه إلى إحدى الثغور لحماية الحدود، كان يطلب منهم أن يكون حسينيا ضد العدو الأكبر للأمة قبل أن يكون حسينيا ضد الطغمة الظالمة في الداخل. والذي يملك أن يثور في وجه الظلم الصغير فهو بالفحوى يملك أن يثور في وجه الظلم الأكبر. من هنا يتعين أن نعيد بناء الحدث الحسيني ليستجيب للمطالب العادلة لأمتنا اليوم؛ أي علينا أن نستلهم من قيم الملحمة الحسينية ما يجعلنا حسينيين في مقاومة التخلف والجهل والاستبداد والاستعمار والظلامية. فعاشوراء هي عنوان ثورة أمة ضد معوقات نهوضها. ضد الحقد والإرهاب والطغيان. معاداة الرسالة المحمدية دهاة الماضي عرفناهم كما عرفهم الجميع. ومن لم يعرفهم فلقد استيقنتها نفسه. لكن دهاة اليوم لهم دبيب مثل دبيب النمل. فهم في كل مكان وينحدرون من كل حدب وصوب. وأهدافهم في تقويض الرسالة المحمدية بينة واضحة. ومحاولتهم النيل والتجديف ضد مدرسة أهل البيت أبين و أوضح. وما أستطيع قوله هنا، أن مدرسة أهل البيت هي من التجذر والمتانة والعمق، بحيث لا خوف عليها من خصومها. إنما المطلوب والتحدي القائم اليوم كيف نعرف الآخر بالقيم النبيلة التي تنطوي عليها هذه المدرسة. وبأن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة لأن تقاد بنهج هذه المدرسة، إن كانت تريد النجاة. ولا أجد ما يمنع من ذلك سوى المكابرة. فقيم الحسين وأفكار الحسين هي التشخيص العملي لجوهر الخطاب الإسلامي. فرسالة الحسين هي خير للأمة كلها. المصالحة مع قيم الحسين والعمل على إخراج الملحمة الحسينية من الخصوصية الطائفية إلى رحابة المحتوى الإسلامي المفتوح، خير ضامن لنجاح هذه المهمة. إننا لا نرى أن من حق المدرسة السنية أن تفرض على الشيعة أن يتنازلوا ليتحركوا في اتجاهها، ولا أن يفرض الشيعة على السنة أن يسقطوا بالجملة في نمطهم، ولكن المطلوب والممكن، أن يتحرك الجميع ليلتقيا معا في تقاطع الوعي بواجب التقارب والوحدة ومصلحة الأمة. فالأمة اختلفت حول أمور كثيرة ؛ بينما يفترض أن لا خلاف حول أهل البيت. فلماذا لا نجعل من أهل البيت مفصلا أساسيا في التقريب والوحدة . يسألون عن الثابت والمتغير في نهضة الحسين لا يوجد عندي ثابت غير خاضع لضرب من الحركة، بالمعنى الذي تفيده الحركة الجوهرية. فكل شيء يبدو لك ثابتا فهو يتحرك على نحو من الحركة، بها يتكامل الثابت وبها تتشكك أبعاده فيكسب تعابير شتى تدين لذلك الجوهر. ولذا فإنني لا أتحدث عن ثابت في قبال متحول، بل أتحدث عن ثابت متحول برفع واو العطف، لأؤكد على أن ثمة أحد أحد فقط، لا يخضع للحركة ولا للثبات، وإن كان هو كل يوم في شأن. فهو يتعالى عن الثابت والمتحول في آن واحد. من هنا أرى أن كل ما في نهضة الحسين هو ثابت متحرك. حيث القيم الإنسانية العليا تعبر عن نفسها بمستويات مختلفة وتتحرك في مديات النفوس والاجتماع بمراتب شتى. فالقيم كالأفكار تسبح في أنساق اجتماعية وشروط موضوعية هي ما يمنحها الشكل الأكثر قابلية للتطبيق والتشخص. وأعتقد أن القيم التي صدرت عنها مواقف وشعارات النهضة الحسينية، تشكل تعاليم قابلة للتكيف بأشكال مختلفة مع الأنساق الاجتماعية والمنظومات القيمية التي دان بها الإنسان في أوج نضجه الحضاري. نعم، إذا كان ولا بد أن نتحدث عن ثوابت، ولو بالمعنى العام، فإنني أعتقد أن رعونة يزيد لم تعد مقبولة في هذا العصر. وأعتقد أن آخر أرعن كان يملك وقاحة يزيد، هو "صدام" المخلوع، الذي كان يقتل العلماء والفضلاء من مواطنيه صبرا ومن دون أي مبرر. وأعتقد أن هذه الرعونة التي فرضت التحدي على الحسين وأهله، لم يعد لها وجود اليوم. وحتى لو ظلت مظاهر الظلم سارية فإنها لم تعد قادرة على ممارسة الطغيان العاري. وفي مثل هذه الحالة، فإن أسلوب التعبير عن المطالب العادلة للشعوب أمسى ممكنا دون هذه التراجيديا السوداء التي خلدتها ذكرى شهادة أبي الأحرار. أنا لا أخاف من المستقبل على صفاء القضية الحسينية كما لا أخاف على الإسلام من المستقبل ، لثقتي في عظمة المحتوى وممانعة القضية العادلة، في وجه طوفان التزييف. بين عاشوراء الحزن والعزاء وعاشوراء العيد والفرح عاشوراء التي أصبحت مناسبة للتذكير بمقتل أبي الأحرار وأهله، وبمصابهم الجلل، لا يمكنها إلا أن تكون عاشوراء الحزن. يتساءل كثيرون عن سبب هذه الازدواجية في الموقف. اعتقد البعض أن عاشوراء حزينة في المشرق لكنها فرحة في المغارب. والصحيح عندي أن عاشوراء ليست حزينة عند كل المشارقة، كما أنها ليست عيد الفرح عند كل المغاربة. ففي المغرب هناك ثقافة متعددة وطقوس متعددة تعبر عن نفسها في عاشوراء بأساليب متعددة. وأنا شخصيا لا أعرف من فلسفة حقيقية وتبرير معقول للحالة العيدية لعاشوراء في بعض الطقوس الغرائبية في المغرب الإسلامي. إن للحسين وعموم البيت العلوي في الوجدان المغاربي مكانة خاصة هي نفسها التي جعلت منا حسينيين لم تزدنا تجربتنا المعرفية الأخرى سوى بصيرة في هذا الإحساس. وأنا شخصيا لم أكسب وجدانيتي الحسينية سوى من فطرتي المغربية وليس من جهة أخرى؛ ثق تماما! فالذين يحتفلون ويضربون الدفوف في بعض مناطق المغرب مثلا، لا يتصورون الموضوع. ولا تحضر عندهم مصيبة الحسين كما تحضر عند أغيارهم. ولا هم يحتفلون بمقتل الحسين، حاشا أحدا يفعل ذلك في مغاربنا المعروفة بحبها لآل البيت الأطهار. بل هم يجهلون عاشوراء ولا يعرفون مصدر هذه الاحتفالية العيدية ولا موضوعها. وحتى لو عرفوا أن في هذا اليوم قتل الإمام الحسين، فلا يستطيعون الربط. فالمسألة ليست منطقية أو معرفية بل هي سوسيولوجية وثقافية، ومن هنا مفارقتها. إن عاشور عند هؤلاء هي مجرد عيد يتعلق بمكانة "اليوم" المذكور في ذاته، كيوم له قدسيته. ولهذا الجهل والغفلة بعاشوراء بمدلولها الكربلائي، سبب تاريخي، لا أخفي أن تكون آثاره يزيدية. وبما أن المغاربة لا يمكنهم أن يقبلوا بالاحتفال والشماتة بمقتل الحسين، فإن سياسة التجهيل التي استبعدت الموضوع الحقيقي للاحتفال، وأبقت عليه تاريخيا كطقس غامض يمارس بلا وعي، كانت تدرك بأن محاولة إقناع المغاربة بجعل يوم مقتل الحسين عيدا للفرح والأهازيج دونه خرط القتاد. لكن هناك تعبيرات أخرى وإن لم تكن في حرارة الطقس الأول، إلا أنها تستحضر الوعي بالموضوع العاشورائي، والحزن على مقتل ابن النبي. وهذه الشرائح الواسعة لا تظهر لأنها تكون في حالة انزواء وحزن ولا تخرج إلى الشارع ولا تشعل نارا ولا تصب ماءا. من من أبناء الشرفاء العلويين والأدارسة من أقام الأفراح في مثل هذا اليوم؟! المهم المسألة هي مجرد طقس ثقافي يمارس هنا من دون استحضار لموضوعه التاريخي. إنها مسألة وعي مرة أخرى. وهي المفارقة التي تجدها في تعبير آخر، حيث تتقاطر شرائح واسعة في المولد النبوي على إحدى الأضرحة، وبدل أن يكون يوما للفرح والأهازيج يتحول إلى يوم ضرب الرؤوس بالسكاكين واستقبال القدور بالهامات وأكل الشوك وافتراس الماشية وما شابه من ألوان الطقوس. فهل يقال أنها حالة دموية لاستقبال ذكرى المولد النبوي؟! لقد قلت سابقا أنها طقوس اجتماعية تستقي رمزيتها من الوجدان الشعبي والثقافي، وفي هذا الإطار، يغلب اللاوعي على الوعي وتستبد المفارقة. إنني أعتقد أن المخرج من اللامعنى في الطقس الاجتماعي، هو بتكثيف الوعي بمضمونه وفلسفته. وهذا في ظني أمر ممكن اليوم. والشعوب العربية سوف تتعلم الكثير عن عاشوراء، وستخرج من سبات اللاوعي واللامعنى في ممارستها وطقوسها الشعبية. وهذا أمر ممكن. لا أنصح أحدا بأن يفرح في هذا اليوم، لأن المناسبة فيه حزينة وليس للفرح فيه موضوع؛ ألا هل بلّغت؟! أيّ لون لعاشوراء؟ إن ثورة الإمام الحسين، متعددة الأبعاد. وإذا ما رأى فيها البعض أنها إيحاء باللون الأحمر بديلا عن اللون الأسود، فإنني لا أقبل بهذه القراءة الإستبدالية التي تختزل ثورة الإمام الحسين في اللون الواحد. إنها بالأحرى تختزل كل هذا التعبير الممتد امتداد المعنى، والمتعدد باللون الأسود والأحمر، بل أضيف هنا اللون الأبيض؛ لون السلام الذي عبر عنه الإمام الحسين من خلال الكلمة والموقف. إنها ثورة من أجل الكرامة والحرية، حيث لا استقرار للإنسان إلا في مجتمع كريم وحر يتمتع بكامل حقوقه. وهي الدعوة التي عبر عنها الإمام زين العابدين، وهو يلخص كل رسالة عاشوراء التي شهدها وهو على فراش المرض:" اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة". إن المشهد الحسيني بكل تعابيره صرخة حية من أجل السلام والعيش الكريم. فهو الذي خطب في الناس أنه لم يخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرج طلبا لإصلاح أمة جده يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ثورة الحسين لم تكن في غايتها القصوى سوى ما تطلعت إليه أفئدة الأحرار. ولهذا جاء نداءه إنسانيا. لقد قدم الإمام الحسين كل ما في وسعه ليتجنب المعركة. وقد التمس في مفاوضاته مع محاصريه أن يخلوا سبيله وأن يسمحوا له بأن يذهب ويرابط في ثغر من ثغور المسلمين، فيصوب سيفه ذودا عن حمى الإسلام وحدود الدولة الإسلامية كواحد من جنود الإسلام، فلم يقبلوا منه إلا أن يقبل بالذلة، فقال لهم حينئذ: " هيهات منا الذلة". ومع أنهم أكثر الناس معرفة بجدية وصدق الحسين، فلا هو من أهل الغدر ولا من منبته؛ غير أن القوم رأوا أن يصفوا القضية الحسينية في العراء، ويطووا صفحة هذا التحدي الحسيني. وبدل أن يمضوا في المفاوضات إلى الحد الذي يحولوا فيه جريمة قتل بقايا آل محمد، إلى ما يجعلهم يفيدون من الحسين في إصلاح الأمة، جعلوا من الحسين العدو الأول. ويكفي أن الجيش الذي قاتلوا به الحسين هو جيش أعد لمواجهة الديلم؛ أربعة ألف جندي معد لمحاربة بقايا الأمبراطورية الرومانية، يوجه للفتك بسبعة عشر ممن تبقى مع الحسين. فقاتلي الحسين هم من حاد عن المشروع الكبير من مواجهة تحدي خارجي إلى إبادة الحسين ومن معه.إنها هزيمة أمة، وهي تفوق كل البدع التي ابتدعها بنو أمية في تاريخهم الأسود. بدعة أن تقاتل حفنة من المعارضين بجيش نظامي جرار. وكان دون ذلك مندوحة لو شاءوا. الحسين قاتل بعد أن لم يتركوا له خيارا آخر. ولو وجد خيارا لكان موقفه كأخيه الحسن. ولو أن أخاه الحسن انقطعت به الأسباب ولم يجد في الصلح مخرجا لكانت كربلاء الحسن قبل كربلاء الحسين. كذب من يعتقد أننا نفرق بين الحسين والحسن. الحسين لم يخرج على نظام بل خرج على منطق الإذلال. ومن هنا أعتقد أنه آن الأوان لتطوير فهم أعمق بمحتوى رسالة الحسين. الحسين كان يطلب الإصلاح في أمة جده، وكان كما أخيه قد يقبل بالحد الأدنى، كما يخبر دعاء ابنه زين العابدين:"اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة". لكنهم لم يسمحوا حتى بالحد الأدنى وغلقوا الأبواب في وجه كل الخيارات الممكنة. ومن هنا يجب أن ننطلق في قراءتنا لنهضة الحسين واستيعابنا لفلسفة عاشوراء، على أساس فقه الأولويات والأهم والمهم وتأويل الحدث والسمو برمزيته إلى ما يخدم نهضة الأمة وتقدمها ووحدتها. [email protected]