كم كان استعمال لفظ "بوصلة"، الوارد في عنوان مقال الأستاذ بنسالم حميش، أستاذ جامعي للفلسفة ووزير سابق للثقافة، المنشور بالجريدة الإلكترونية "هسبريس" (انظر الرابط: http://www.hespress.com/orbites/261294.html ) يوم 19 أبريل 2015 بعنوان "حميش يخاطب أوريد: حين يفقد مثقف البوصلة"، (كم كان) صائبا وموفّقا وملائما. ف"البوصلة" هي الكلمة الأنسب للفصل والتمييز بين موقفي كل من الأستاذين حسن أوريد وبنسالم حميش من قضايا اللغة والهوية بالمغرب. تُعرّف "البوصلة" على أنها أداة مجهّزة بعقرب ساعة ممغنط، وهو ما يجعله يتحرك دائما في اتجاه القطبين المغنطيسيين للأرض. وكذلك "البوصلة" الهوياتية للأستاذ حميش، ولأنها ممغنطة، وبشكل غير طبيعي، بمادة العروبة العرقية ذات الأصل المشرقي، فإنها تتحرك دائما، ليس في اتجاه المغرب الأمازيغي الإفريقي، بل في اتجاه المشرق العربي الأسيوي، كقطب مغناطيسي يجتذب إليه السيد حميش وأمثاله من المثقفين المغاربة المتحولين جنسيا، أي قوميا وهوياتيا، حسب المعنى الأصلي لكلمة "جنس" في العربية. وعندما يستعمل أحد المثقفين المغاربة الأسوياء (هوياتيا) بوصلته الهوياتية الطبيعية، أي التي لم تُطْلَ بمادة مغناطيسية خارجية وأجنبية عن مغناطيسها الداخلي الطبيعي، كما عند الأستاذ أوريد، ويرفض تزييف هذه البوصلة بإضافة مغنطيس العروبة العرقية إليها كما يفعل الأستاذ حميش، حتى لا تتحرك عقاربها في اتجاه المغرب الأمازيغي الإفريقي، فإن السيد حميش يتصدى له ويتهمه بالغلو، وبموالاة إسرائيل، وبتطبيق دورية "ليوطي" لسنة 1921، وإنكار حقيقة "الانصهار" بين العرب والأمازيغ... هذا ما جاء في رد السيد حميش على الأستاذ أوريد. وهو الرد الذي سنناقشه في هذا المقال بشيء من التفصيل. وتجدر الإشارة أن هذه المناقشة لمقال الأستاذ حميس ليست دفاعا عن الأستاذ أوريد، الذي لا يحتاج إلى من يدافع عنه لأن أفكاره تقوم بهذه المهمة أكثر مما فيه الكفاية، وإنما وجدت في رد الأستاذ حميش مناسبة سانحة لتفكيك الخطاب التعريبي الأمازيغوفوبي لدى مجموعة من المفكرين المغاربة. يقول الأستاذ حميش بأنه كان ينتظر من الأستاذ أوريد أن يكون «المؤهل مع قلة قليلة لإعادة التفكير في المسألة الأمازيغية بما يلزم من حكمة واعتدال وقدرة على إنقاذها من الغلاة المسيئين إليها». ماذا يقصد ب"الاعتدال" و"الغلاة"؟ لقد ظلت الأمازيغية مقصاة، إقصاء تاما ومطلقا، لأزيد من نصف قرن، حتى أنها كادت أن تموت كما راهنت على ذلك دولة الاستقلال شيئا فشيئا، كلغة وثقافة وهوية، وأصحابها المغاربة يتفرجون على ذلك ولا من يحرك ساكنا. هذا ما يقصده السيد حميش ب"الاعتدال"، أي أن تقبل بإقصاء الأمازيغية وقتلها التدريجي، ولا تطالب برفع هذا الإقصاء ووقف هذا القتل. أما لما بدأ مجموعة من المغاربة يطالبون بالحقوق الأمازيغية، ويناضلون من أجل رد الاعبار للأمازيغية، لغة وثقافة وهوية وتاريخا، فهؤلاء هم "الغلاة" حسب الأستاذ حميش. وهذا الحكم قد يبدو طبيعيا بعد نصف قرن من إقصاء الأمازيغية، الذي أصبح، بسبب طول مدته، شيئا عاديا وطبيعيا. وبالتالي فإنه من الطبيعي، بل من البديهي، أن يُنظر إلى المطالبة برفع هذا الإقصاء، بعد أن دام أزيد من نصف قرن، على أنها "غلو" و"تطرف"، كأن الإقصاء حق مكتسب ثابت، لا تجب مراجعته ولا إعادة النظر فيه. وهذا يذكرّنا بموقف المسؤولين الإسرائليين من المطالب الفلسطينية منذ إنشاء الدولة العبرية في 1948: عندما كان هناك غياب لحركات فلسطينية منظمة للدفاع عن الحق الفلسطيني، كانت إسرائيل تعتبر ذلك الغياب "اعتدالا". أما لما تأسست حركة فتح في 1967 للدفاع عن هذا الحق الفلسطيني، اعتبرت إسرائيل مناضلي هذه الحركة "إرهابيين" و"غلاة" متطرفين. منطقيا وواقعيا، من هم "الغلاة" الحقيقيون: هل هم الذين يطالبون بأمازيغيتهم (كلغة وثقافة وهوية وتاريخ) المقصاة، التي حرموا منها، أم الذين أقصوا هذه الأمازيغية وحرموا أصحابها منها؟ في الحقيقة، إن أحد أخطاء الأمازيغيين هو أنه لم يسبق لهم، طوال تاريخهم، أن كانوا "غلاة" لمواجهة غلو الآخرين. وهذا ما يفسر أنهم كانوا دائما ضحية الغلو الذي مارسته عليهم الأقوام الأخرى. إلا أن أشد "الغلاة" المعادين للأمازيغية والأمازيغيين هم التعريبيون المعاصرون، المتحولون جنسيا (قوميا وهوياتيا)، والذين يعتبر الأستاذ حميش أحد كبارهم وأقطابهم. وحتى يشيطن المطالب الأمازيغبة، لا يتورع الأستاذ حميش من اتهام المدافعين عن هذه المطالب ب«اتخاذهم إسرائيل محجا وقبلة». لا أستغرب لماذا لا يقول عن المغاربة الذين يقيمون مبادلات تجارية رسمية (أقول رسمية لأن البضائع الإسرائيلية تدخل عبر الحدود المغربية ولا تنزل من السماء خلسة وفي جنح الظلام) مع إسرائيل، ولا عن المسؤولين المغاربة الذين يستدعون المسؤولين الإسرائيلينن بصفة رسمية إلى المغرب، ولا عن آلاف المغاربة الذين يزورون إسرائييل، ولا عن البرلمانيين المغاربة الذين رفضوا مشروع قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل، (لا أستغرب لماذا لا يقول) بأنهم جميعا «اتخذوا إسرائيل محجا وقبلة»، ويقول ذلك عن بضعة نشطاء أمازيغيين زاروا إسرائيل في إطار علاقات جمعوية خاصة وليست رسمية تؤطرها الدولة... لا أستغرب ذلك، وإنما أستغرب كيف أن "فيلسوفا" يلوّح بفزاعة إسرائيل للتحريض على الأمازيغية وإرهاب الأمازيغيين، علما أن ربط الأمازيغية بإسرائيل هو الصيغة الجديدة لأكذوبة "الظهير البربري"، الذي افتضح أمره بعد أن وعى الجميع أن هذا "الظهير البربري" لا وجود له في التاريخ، فاضطر مستعملو هذه الأسطورة إلى خلق أسطورة بديلة، وهي علاقة النشطاء الأمازيغيين بإسرائيل، أي علاقتهم بالصهيونية. والهدف هو نفسه الهدف الذي كانت ترمي إليه أسطورة "الظهير البربري"، ألا وهو شيطة الأمازيغية والتأليب عليها والتنفير منها. فكيف ل"فيلسوف" أن يعتمد في حجاجه على الشائعات والأراجيف والأباطيل، وهو يعرف أن الفلسفة لم تظهر إلا لتخليص الفكر والعقل من هذه الظواهر؟ ويؤاخذ الأستاذ حميش على الأستاذ أوريد قوله (والمصدر هو الأستاذ حميش الذي ينقل لنا كلام الأستاذ أوريد) بأن الأمازيغيين «انتُزع منهم كل شيء، لغتهم، ثقافتهم، روحهم، أراضيهم، ماؤهم، تاريخهم، وحتى أحلامهم». فيرد أن «الحقيقة غير ذلك إذ أنهم في ماضي هذا التاريخ كانوا باسم الإسلام بناة دول وأمبراطوريات ومسهمين أيما إسهام في ثقافة المغرب وعلومه [...]، كما أنهم في زماننا هذا يُعدون من بين الأوفر حضورا وحظوة في كل دوائر السياسة والإقتصاد ومراكز النفوذ والقرار». نعم كانوا «بناة دول وأمبراطوريات» «باسم الإسلام»، كما تقول، وليس باسم العروبة العرقية والانتماء العرقي العربي، الذي فرضته على المغاربة سياسة التعريب الإجرامية والعنصرية والجاهلية، التي ترمي إلى تحويل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي. فهذا التحويل الجنسي (القومي والهوياتي) للمغاربة، الذي مارسته عليهم سياسة التعريب المقيتة، أدى بالفعل إلى انتزاع روحهم الأمازيغية، التي تمثلها هويتهم الشمال إفريقية، وانتزاع ما يصاحب هذه الهوية من لغة وثقافة. أما أرضهم فقد انتزعت بالفعل منهم عندما أصبحت تسمى "مغربا عربيا"، أي أصبحت أرضا عربية، أي أرض العرب وليس أرض الأمازيغيين. هذا دون الكلام عن ظهير 27 أبريل 1919 الذي منع القبائل الأمازيغية من التصرف في ملايين الهكتارات من أراضيها، والذي لا زال ساري المفعول بعد الاستقلال، ما دام أن تلك الأراضي لم تُرجع إلى مالكيها الأصليين الحقيقيين. أما التاريخ فهو أول ما انتزعته سياسة التحويل الجنسي، التي يسمونها التعريب، عندما حرّفته وزوّرته وفرضت مكانه تاريخا زائفا وكاذبا، يخدم العروبة العرقية، وينتقص من الأمازيغيين ويسيء إليهم، كما يتجلى ذلك في أسطورة "الظهير البربري" التي تلقن في المدارس كتاريخ حقيقي. أما اليوم، فإذا كان الأمازيغيون «يُعدون من بين الأوفر حضورا وحظوة في كل دوائر السياسة والإقتصاد ومراكز النفوذ والقرار»، فحتى على افتراض أن هذا صحيح، فلا يغير ذلك من واقع كونهم مسلوبين من هويتهم الأمازيغية الجماعية، ما دام هؤلاء الأمازيغيون، الذين يشغلون مراكز النفوذ والقرار، إنما يمثلون دولة عربية بالمغرب، وليس دولة أمازيغية ذات هوية جماعية أمازيغية، انسجاما مع الأرض الأمازيغية للمغرب بحكم انتمائه الترابي إلى شمال إفريقيا، وليس إلى العرق العربي. فما دام أن الدولة تتصرف كدولة عربية، ذات انتماء عربي، بالمعنى العرقي، فمهما كان سمو المناصب التي يشغلها الأمازيغيون داخل هذه الدولة، فإن ذالك لا يزيد إلا تأكيدا لسلب وإقصاء هويتهم، وتزكية للهوية العرقية العربية لهذه الدولة. نلاحظ أن "فيلسوفنا" يكرر، عندما يستدل بالأمازيغيين أصحاب المراكز النافذة، حجاج العامّة من الأمازيغوفوبيين عندما يقولون بأن من بين الأمازيغيين وزراء وموظفين سامين، ثم يتساءلون: "فأين هو إقصاء الأمازيغية؟" مع أن الإقصاء لا يتعلق بالحرمان من هذا المنصب أو ذاك، وإنما باسم أي انتماء تمارس هذه الدولة سلطتها السياسية، هل باسم الانتماء الأمازيغي كدولة أمازيغية، بالمفهوم الترابي، أي الدولة التي تنتمي إلى موطنها الموجود بشمال إفريقيا، أم باسم الانتماء إلى العروبة العرقية، أي كدولة عربية بالمفهوم العرقي وليس الترابي، لأن الأرض العربية توجد في أسيا وليس في شمال إفريقيا. أما الطامة الكبرى فهي الفهم القاصر جدا، لدى "فيلسوفنا"، لمفهوم "اللغة الأم"، الذي يعطيه مضمونا "بيولوجيا" لربطه حصرا بالأم المنجبة. ولهذا يقول بأن حجة "لغة الأم" تمحوها «لغة الأب والأبوية المفردة ( monoparentaleفي حالة وفاة الأم أو غيابها)، وكذلك لغةَ الأزواج المختلطين (الأم الأجنبية) ولغة الأمهات المغربيات اللائي يكلمن ذريتهن بالفرنسية حصريا». مع أن مفهوم "اللغة الأم" يعني اللغة الأولى التي يكتسبها الطفل، سواء عن طريق الأم أو الأب، أو من أشخاص لا تربطهم علاقة أمومة ولا أبوة بالطفل، كالمواليد المتخلى عنهم، أو الذين تبنتهم أسر أخرى قد تكون أجنبية. ف"اللغة الأم" الأمازيغية هي إذن تلك اللغة الأولى التي يكتسبها الطفل في بيئة لغوية أمازيغية، حتى لو كان هذا الطفل من أصول فرنسية أو عربية أو ألمانية. لهذا يسمي الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري هذه اللغة الأولى ب"اللغة الفطرية"، أي اللغة الأولى التي يكتسبها الشخص في سنّ مبكّرة، ودون تعليم ولا إكراه. وبما أن المقدمة الخاصة ب"اللغة الأم" خاطئة، فأن كل ما استنتجه الأستاذ حميش من هذه المقدمة هو خاطئ بالضرورة. وهكذا يمضي في إنتاج واستنتاج الأخطاء عندما يقول بأن "اللغة الأم" «لا تهيئ الطفل حقا للكلام الصوري والمفاهيمي الذي لا يحصل اكتسابه إلا في سن التمدرس». أولا، كل ما يتحصل عليه الطفل عن طريق المدرسة هو تعلم وليس اكتسابا. والفرق كبير بين التعلم، الذي هو عمل مدبر ومنظم، قسري ومقصود وذو أهداف محددة، وبين الاكتساب الذي هو "تعلم" ذاتي وتلقائي وطبيعي لا إكراه فيه ولا قسر، مثل اكتساب "اللغة الأم" التي "يتعلمها" الطفل دون أن يشعر أنه "يتعلم" شيئا. ثانيا، هذا الكلام لا يقوله إلا من لا يدرك حقيقة علاقة التعلم المدرسي باللغة بصفة عامة، وب"اللغة الأم" بصفة خاصة. فإذا كانت هذه الأخيرة لا تسمح للطفل بممارسة الكلام الصوري والمفاهيمي، فذلك شيء طبيعي جدا، لأن الطفل لا يملك بعدُ القدرة على التجريد الذي يتطلب استخدام اللغة المفاهيمية. لكن بقدر ما يتعلم أفكارا جديدة في المدرسة، بقدر ما يتعلم، موازاة لذلك، ألفاظا جديدة تعبر عن تلك الأفكار. والنتيجة أن مع توسّع معارفه يتعلم استعمال مفاهيم جديدة، ويوسّع في نفس الوقت معجمه اللغوي. والأهم في هذه العملية التعلمية، التي يتعلم فيها الطفل في نفس الوقت الأفكار والمفاهيم واللغة، هو أنه لا يشعر أنه يتعلم لغة جديدة مختلفة عن لغته الفطرية، لأن كل ما يتعلمه من مفاهيم جديدة تعبر عنها ألفاظ جديدة، يجري داخل نفس النسق اللغوي الذي سبق أن اكتسبه، وهو "اللغة الأم". الشيء الذي يسهّل العملية التربوية ويساهم إلى حد كبير في نجاح التلميذ في دراسته. وهذا ما يفسر أن أحد الأسباب الرئيسية إن لم يكن السبب الوحيد لفشل النظام التعليمي بالمغرب، هو الانفصال التام بين لغة المدرسة ولغة البيت، أي "اللغة الأم". وهو ما ينتج عنه أن التلميذ المغربي، بدل أن يتعلم المعارف والعلوم والمهارات، يقضي كل حياته المدرسية في تعلم اللغة العربية أولا، حتى يتعلم بها المعارف والعلوم والمهارات. ومن هنا تبرز أهمية التدريس ب"اللغة الأم"، مثل الأمازيغية، شريطة تهيئتها تهيئة مناسبة لتقوم بوظيفتها كلغة مدرسية. ويكرر الأستاذ حميش الفكرة العامّية التي تفسر الهوية المغربية بظاهرة "التزاوج" و"الانصهار" بين الأمازيغيين والعرب المفترضين، قائلا: «كيف لنا أن نقفز على ظاهرة كلية تتمثل في تاريخ الهجرات والمصاهرات والانصهارات الكثيفِ المديد، وما تمخض عنه من تقلبات جينيالوجية ولسانية مست عالميا مناطق ومجموعات بشرية كاملة؟». القافزون عليها هم، أولا، الذين يسمون وطننا ب"المغرب العربي"، أي مغرب العرب، معتبرين هويته عربية خالصة، نافين بتلك التسمية أي "انصهار" بين مكوناته السكانية ذات الأصول المختلفة. والقافزون عليها، ثانيا، هم التعريبيون الذين فرضوا لغة واحدة، هي اللغة العربية، مقصين ما تمخض عن "الانصهار" «من تقلبات جينيالوجية ولسانية». والقافزون عليها، ثالثا، هم منتحلو "النسب الشريف"، كانتماء عرقي عنصري يقوم على مفهوم الصفاء العرقي، الذي لا يعترف بأي انصهار ولا اختلاط للأعراق والدماء. من جهة أخرى، استدعاء مفهوم "الانصهار" هو تصور عامّي، كما أسلفت، وعرقي للهوية لأنه يربطها بالعرق، في الوقت الذي تستمد فيه الشعوب هويتها الجماعية من مواطنها الجغرافية، وليس من الأعراق المختلفة لسكانها. وهنا نطرح على الأستاذ حميش السؤال التالي: لماذا لم يؤد "الانصهار" عند الشعوب الأخرى إلى تعدد و"انصهار" في هويتها تبعا لتعدد و"انصهار" أعراقها وأنساب سكانها؟ لماذا فقط المغرب هو الذي لا يجب أن يكون أمازيغيا تبعا لموطنه الأمازيغي، لأن هناك "انصهارا" بين الأمازيغيين وبعض العرب؟ لماذا لم يغير "الانصهار" الهوية الترابية للشعوب ويغيرها فقط في شمال إفريقيا؟ مع أن القاعدة التي تحكم "الانصهار" إذا جاز أن نستعمل هذا المصطلح هو أن العنصر الوافد هو الذي "ينصهر" في العنصر الأصلي، دون أن يغير ذلك شيئا من هوية السكان الأصليين، إلا في حالة الاستيلاء النهائي وليس المؤقت على أرض هؤلاء السكان الأصليين (انظر التفاصيل بموضوع « في دحض خرافة "الانصهار" بين العرب والأمازيغ» على رابط "هسبريس": http://www.hespress.com/writers/252305.html ) . يقول الأستاذ حميش إن الأستاذ أوريد لم يتردد، بخصوص غزو المغرب، في تفضيل "ليوطي" على موسى بن نصير. ومن الذي سيتردد في ذلك؟ فموسى بن نصير مارس النهب والسبي والاستغلام (تحويل الأطفال إلى غلمان وموالٍ)، وخرّب ولم يبن، وأتلف ولم يصنع، واجتث ولم يزرع، وأفسد ولم يصلح... أما "ليوطي"، فرغم أنه جاء غازيا مثل موسى بن نصير، فهو على الأقل بنى وصنع وأصلح وزرع...، بل خلق دولة جديدة بالمغرب، بكامل ما يحمله المفهوم من معنى. ولا ننسى أن الفرق الآخر بينهما، هو أن "ليوطي" جاء إلى المغرب بناء على معاهدة موقّعة بينه وبين النخبة المخزنية العربية، التي طلبت منه حمايتها (من هنا جاء مفهوم الحماية). أما موسى بن نصير فجاء إلى المغرب دون أن يطلب منه أحد ذلك. وارتباطا ب"ليوطي"، يذكّرنا الأستاذ حميش أن سياسة هذا الأخير هي التي أعطت في النهاية «"الظهير البربري" الشهير، الذي يحرم على البربر تعلم اللغة العربية». وهنا أجزم أن الأستاذ حميش لم يقرأ بتاتا نص ما يسميه "الظهير البربري"، لأن هذا الأخير لا يتضمن أي فصل أو بند يخص تدريس أو عدم تدريس أية لغة، لأن موضوعه هو تنظيم المحاكم العرفية، وليس الإفتاء في مجال اللغات وتدريسها. فكيف يتحدث الأستاذ حميش عن ظهير لا يعرف لا عنوانه ولا مضمونه الحقيقيين؟ وأحيله على كتاب "الظهير البربري: حقيقة أم أسطورة؟"، المتوفر على الرابط (http://tawiza.x10.mx/dahir.pdf)، حتى يكتشف حقيقة ما يسميه "الظهير البربري". وبلهجة تهكمية، وفي غير محلها المناسب، يقول بأن الأستاذ أوريد لا يكتب إلا بالعربية، وهذا ما يتناقض مع دفاعه عن الأمازيغية. ولتجاوز هذا التناقض هناك من ينصحه «بمحاولة وضع اليد في عجين تيفناغ لكي يحرر، كرائد، الدراسات والروايات وربما يخلق أتباعا ومستأنفين». إنها دائما نفس النظرة القاصرة والعامّية إلى اللغة، كما رأينا في مسألة "اللغة الأم". بماذا يكتب الأستاذ أوريد والأستاذ حميش؟ يكتبان بالعربية والفرنسية. لماذا يكتبان بهاتين اللغتين؟ لأنهما عندما التحقا بالمدرسة فرض عليهما تعلم العربية والفرنسية، فأصبحا يجيدانهما ويكتبان بهما. فلو دُرّست لهما الأمازيغية، مثل العربية والفرنسية، لأصبحا يجيدانها ويكتبان بها هي كذلك. فإذا كانت أية لغة حية، مثل الإنجليزية والفرنسية والأمازيغية والدارجة...، يمكن اكتساب استعمالها الشفوي في البيت أو الشارع أو المعمل، فإن معرفة الكتابة بها يشترط تعلمها في المدرسة أو ما يقوم مقامها. الأستاذ حميش يستعمل نفس المنطق العامّي الشائع عند بعض الأمازيغوفوبيين الجهلة، الذين يردون على مستعملي العربية للدفاع عن الأمازيغية كما يلي:"لو كانت الأمازيغية لغة حقيقية لكتبتم مقالاتكم بها ولاستعملتموها بدل استعمالكم للعربية". هذا التوجه الأمازيغوفوبي الجلي عند الأستاذ حميش، هو نتيجية منطقية لانحراف "بوصلته" في اتجاه العروبة العرقية، بسبب احتوائها على مغنطيس هذه العروبة العرقية، كما سبق أن شرحت. وبسبب ذلك أصبحت هذه "البوصلة" تجره جرا وتجذبه جذبا نحو هذه العروبة العرقية، وهو ما جعله يبذل جهدا عملاقا، من خلال تبريرات واهية ومقدمات خاطئة واستدلالات مغلوطة، لإقناعنا أن المغرب ليس بلدا أمازيغيا في هويته الجماعية. يجب عليه إذن أن يقطع مع الوعي الهوياتي الزائف، ويسترد الوعي الهوياتي السليم، ويقوم بإصلاح أعطاب "بوصلته" حتى ترشده إلى هويته الأمازيغية الإفريقية الحقيقية، وحتى لا تضلله بالإبحار به نحو هوية عربية أسيوية، هي نفسها لا تعترف به كعربي الهوية والانتماء.