1- من صميم الأحداث يروج، اليوم، على الساحة الثقافية المغربية نقاش إيديولوجي ذو طابع عرقي، نقاش يتخذ طابعا نفسيا، بشحنة سادية، أكثر مما يتخذ طابعا فكريا، تحليليا و نقديا، و هذا ما يجعله أقرب إلى التزييف الثقافي، الذي تحدث عنه الباحث السياسي الفرنسي ( باسكال بونيفاس) في علاقة بالنموذج الفرنسي. ما يميز هذا التزييف الثقافي، هو كونه يوظف مبادئ فكرية حديثة، من علمانية و ديمقراطية و فلسفة حقوقية، كشعارات إيديولوجية لا تسعى إلى ترسيخ القيم السياسية الحديثة بقدر ما تسعى إلى تسخيرها من أجل أهداف عرقية، لا تمت بصلة إلى المنظور الحديث للإنسان و الثقافة و الدولة ... يكتب الفاعل العرقي في موضوع العلمانية، و هو موجه من طرف أجندة عرقية هدفها تصفية التراث الحضاري العربي الإسلامي في المغرب، و يكتب في موضوع حقوق الإنسان أو يؤسس الجمعيات الحقوقية، و هو موجه من طرف نفس الأجندة العرقية، التي تسعى إلى ابتزاز الدولة و المجتمع من أجل تحقيق مصالح فئوية ضيقة لا تستهدف المجتمع المغربي، في تعدديه و اختلافه، بقدر ما تربط نضالها و كتابتها بأفراد و جماعات خاصة. إن الفاعل العرقي، و هو يقزم الكتابة و النضال عبر ربطهما بأجندة عرقية، يفقد روح البحث العلمي و يفقد كذلك الحس النضالي السليم . يخوض الفاعل العرقي حروبا افتراضية ضارية ضد ما يعتبره العدو الأبدي، في علاقة بالمكون الحضاري العربي الإسلامي، و ينسى أن الأمازيغ ساهموا بقسط وافر في بناء الحضارة العربية الإسلامية، كما ساهم الفرس و معهم الأتراك و شعوب أخرى من آسيا و إفريقيا و أوربا في بناء هذا الصرح الحضاري، هذا الصرح الذي اعتبره المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي)، في مجلداته العشرين حول تاريخ الحضارات، من بين الصروح الحضارية العظمى في التاريخ البشري. ينسى، أو يتناسى، الفاعل العرقي كل هذا و هو يخوض حروبه الإيديولوجية الهوجاء، من دون وازع علمي و أخلاقي، ضد العروبة و الإسلام. و في علاقة بتجارب الأمم، يمكن لأي عاقل أن يتساءل: هل يمكن للولايات المتحدة، مثلا، أن تقترف خطأ استراتيجيا و ترفض، من منطلق إيديولوجي، اللغة و الثقافة الإنجليزية، بادعاء أن الإنجليز حكموا يوما الولاياتالأمريكية قبل أن تتوحد ؟ و هل يمكن لدول أمريكا اللاتينية أن ترفض اللغة و الثقافة الإسبانية بادعاء أن إسبانيا مرت من هناك يوما ؟ إن الأمريكيين، اليوم، يتعاملون مع الإنجليزية، لغة و ثقافة، باعتبارها مكونا حضاريا ساهمت في تشييده أمم مختلفة و ليس مكونا عرقيا يرتبط بالإنجليز وحدهم. و لذلك، لا نجد مثقفي الولاياتالمتحدة يدعون إلى استئصال الثقافة و اللغة الإنجليزية و تعويضها بثقافة و لغة الهنود الحمر، رغم أن المنظومة الديمقراطية و الحقوقية الحديثة تفرض على الفاعل السياسي الأمريكي احترام الخصوصيات الثقافية و اللغوية، باختلاف أنواعها. لا يستحضر الفاعل العرقي كل هذه التجارب المقارنة، و هو يتحدث عن العروبة و الإسلام في المغرب، لأن العمى الإيديولوجي يحرمه من شرف الاعتراف، و من ثمة الانفتاح على مختلف الثقافات و اللغات من دون عقدة نقص. إن اللغة و الثقافة العربية في المغرب ليست مكونا دخيلا، بل إنها مكون أساسي للهوية المغربية ساهم المغاربة، بقسط وافر، في تطويرها. فقد ألف ابن آجروم ألفية في النحو العربي (الأجرومية) تضاهي ألفية ابن مالك، و قدم بذلك دروسا بليغة للمشارقة، حينما أكد لهم بأن المغاربة لا يستهلكون اللغة العربية فقط، بل إنهم قادرون على تطويرها لأنهم يعتبرونها لغتهم الثقافية التي مكنتهم من الانفتاح على العالم. و قد أكد المفكر و الأديب المغربي ( عبد الله كنون) على العبقرية، التي تميز بها المغاربة في علاقتهم بالثقافة العربية، في كتابه الرائد (النبوغ المغربي)، حيث دحض بالدليل و عبر الوثيقة المادية تلك الأسطورة التي روج لها المشارقة؛ حينما كانوا يحكمون على الثقافة المغربية باعتبارها بضاعتهم التي ردت إليهم. لا يمكن للباحث و الكاتب و المناضل، الذي يحترم نفسه، أن يمر على كل هذه الإنجازات بجرة قلم، و ينتصر لانغلاقه العرقي، هكذا، من دون أن يتحلى بقيمة الاعتراف، الاعتراف أولا بالإنجازات الحضارية التي شيدها الأمازيغ في شراكة مع إخوانهم العرب على أرض المغرب، و الاعتراف ثانيا بفضل الحضارة العربية الإسلامية، التي أخرجت شمال إفريقيا من سباتها الحضاري العميق. 2- الأمازيغية مكون أساسي للهوية المغربية من منطلق الموضوعية، التي ندافع عنها في مقاربتنا للإشكاليات الثقافية الوطنية، لا يمكن أن نلغي، بجرة قلم، الإرث الثقافي الأمازيغي، الذي يعتبر مؤثرا أساسيا في المتخيل الجمعي للمغاربة، و ينعكس على مستوى الإبداع و التفكير و أشكال التواصل ... و هذا ما يشكل خصوصية الإنسية المغربية في علاقتها بامتدادها العربي و الإسلامي. فعلى الرغم من كوننا، كمغاربة، نمثل محورا أساسيا في العالم العربي و الإسلامي الكبير، فإننا نمتلك بصمتنا الخاصة التي تميزنا عن المكونات الأخرى. و هذا ما لا يتناقض مع منطق الثقافة العربية الإسلامية، فهي ثقافة تتميز بالانفتاح و تؤمن بالتعددية و الاختلاف، و هذه القيم ثابتة في التاريخ و ليست شعارات جوفاء يتم الترويج لها. إن الثقافة العربية كما تشكلت تاريخيا-حسب الأستاذ محمد عابد الجابري- مقوم أساسي من مقومات الشخصية العربية؛ وعنصر أساسي كذلك في وحدة الأمة العربية؛ غير أن الوحدة الثقافية على صعيد الوطن العربي (..) لا تعني قط فرض نموذج ثقافي معين على الأنماط الثقافية الأخرى المتعددة و المتعايشة (..) إن التعدد الثقافي –يؤكد الأستاذ الجابري- في الوطن العربي واقعة أساسية لا يجوز القفز عليها؛ بل بالعكس لا بد من توظيفها بوعي في إغناء و إخصاب الثقافة العربية القومية وتطويرها وتوسيع مجالها الحيوي. محمد عابد الجابري - إشكاليات الفكر العربي المعاصر- مركز دراسات الوحدة العربية – ط: 1 - 1989 - ص: 42 و من منظور الإيمان بتعددية المشارب الثقافية؛ كمبدأ تم ترسيخه على امتداد التاريخ العربي الإسلامي، فإن الثقافة العربية تعايشت مع ثقافات الشعوب التي انفتحت عليها و استفادت منها من دون عقدة نقص أو تفوق. و لذلك، نجد ثقافات الشعوب الإسلامية التي انفتحت على الثقافة العربية، على امتداد قرون، ما زالت تحافظ على تماسكها و قوتها و ذلك لأن العرب الفاتحين استمدوا روح التعددية و الاختلاف من الإسلام الذي يقر صراحة، بأن الله خلق الناس شعوبا و قبائل من أجل التواصل الثقافي ( و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا- الحجرات/13) . إن هذا المبدأ، مثلا، هو الذي غاب عن الحركة الاستعمارية، خلال العصر الحديث، حيث فرض الاستعمار الفرنسي لغته و ثقافته بقوة السلاح، و عمل على استئصال كل المظاهر الثقافية التي شكلت خصوصية الشعوب المستعمرة، و الإفريقية منها على وجه الخصوص. إن هذا التصور، القائم على أساس الإيمان بالتعددية و الاختلاف، هو الذي نستحضره، اليوم، في مقاربتنا لمختلف الإشكاليات الثقافية في وطننا. و لذلك، فإن تعاملنا مع المسألة الامازيغية ليس استثناء، فنحن بقدر ما نواجه السلفية العرقية و نفكك الأساطير المؤسسة لها، بنفس القدر نتعامل مع الثقافة الأمازيغية كإرث وطني يشترك فيه جميع المغاربة، و لا حق للتيار العرقي في احتكاره لنفسه و تحويله إلى أداة في الصراع ضد باقي مكونات الثقافة الوطنية. إن الوطنيين المغاربة حينما يستحضرون الإرث الثقافي الأمازيغي، فهم يربطونه، بشكل مباشر، برموز وطنية خالدة جسدت التلاحم الوطني و ناضلت في سبيل تحقيق استمرار يته، أمثال المجاهد محمد ابن عبد الكريم الخطابي و البطل موحا أو حمو الزياني و العالم المختار السوسي ... و كلها أسماء تركت بصماتها الخاصة على الثقافة الوطنية و ساهمت في تشكيل الإنسية المغربية، من منظور حضاري يتداخل فيه ما هو عربي إسلامي بما هو أمازيغي، من دون صراع بين هذه المكونات. و لعل قراءة فاحصة لما خلفه هؤلاء، من تراث فكري و إرث نضالي، ليؤكد بالملموس على غياب أية نفحة عرقية، لان الثقافة الوطنية، التي تشربها هؤلاء و جسدوها من خلال تفكيرهم و نضالهم، لم تكن تميز في الثقافة المغربية بين ما هو عربي و ما هو أمازيغي، فكلا المكونين تمازجا و التحما، ليشكلا معا طبقة رسوبية تتعدد و تختلف مكوناتها و لكنها طبقة واحدة . و لعل منطق الدولة و كذلك منطق النخبة الثقافية و السياسية الوطنية في المغرب، ليساير، في معظمه، هذا التوجه الوطني القائم على أساس الإيمان بتعددية المشارب الثقافية و تلاحمها في الآن ذاته، مما يجعل الدعوات العرقية، بمختلف تجسيداتها، لا تعدو أن تكون صرخة في واد ! لا قدرة لها على التأثير في الواقع الاجتماعي و الثقافي و السياسي. و هذا، ما يحكم على المشاريع العرقية بالموت المبكر و يرمي بها في سلة المهملات. إننا مقتنعون بأن الفضاء الاجتماعي و الثقافي المغربي ليس صالحا، البتة، لإستنبات الطحالب الثقافية العرقية، سواء اتخذت طابعا قوميا عربيا، أو طابعا عرقيا أمازيغيا. و هذا، يفرض على الفاعل الثقافي و السياسي العرقي-القومي، الانضمام إلى الخيار الوطني، الذي يدمج المكونين الثقافيين، العربي و الأمازيغي، ضمن مشروع واحد يستهدف بناء الإنسية المغربية، من دون تفريط في أي مكون ثقافي منهما. إن هذا المنطق، الذي تشكل على امتداد قرون و بصم التجربة المغربية بطابع الخاص، هو الذي وجه التعديل الدستوري الأخير (2011) الذي يقر، بشكل صريح، بتعددية الروافد الثقافية في مجتمعنا، حيث جاء في تصديره ما يلي : ( المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء ). و رغم هذا التصريح الواضح و المباشر، الذي لا يحتمل أي تأويل، فإن النص الدستوري وضع آليات مؤسساتية بهدف تنزيل هذه الرؤية و حمايتها من العبث الإيديولوجي، و لذلك نجد، في الباب الأول من الدستور في الفصل الخامس منه، دعوة صريحة إلى إحداث مجلس وطني للغات و الثقافة المغربية: (يُحدَث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية، تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا. ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات. ويحدد قانون تنظيمي صلاحياته وتركيبَته وكيفيات سيره) . هكذا، يبدو أن دعوى تهميش الثقافة-اللغة الأمازيغية، في المغرب، لا تعدو أن تكون مزايدة رخيصة يعمل التيار العرقي على توظيفها بأهداف إقصائية واضحة، فهو يوظف المظلومية و يسوقها ليس بهدف الدفاع عن الثقافة و اللغة الأمازيغية، لأن المجتمع المغربي، و معه الدولة، على تمام الوعي بضرورة إعادة الاعتبار للمكون الأمازيغي كرافد أساسي من روافد الثقافة الوطنية، و لكن الهدف الأساسي من تسويق هذه المظلومية، المفترى عليها، هو توحيد المكونات الثقافية المغربية المتعددة في مكون واحد، من منظور عرقي أصولي، يوظف الجذور و الأصل كميتافيزيقا متعالية على معطيات التاريخ و الواقع. و لذلك، فإن باقي المكونات الثقافية، غير الأمازيغية، يجب أن تباد و تستأصل لأنها دخيلة على ثقافة و لغة الأصل و الجذور ! 3- الخطاب العرقي و أسطورة الأصل 3-1- الطابع الكولونيالي للخطاب العرقي إلى حدود دخول المغرب ضمن الحسابات الاستعمارية، كانت الثقافة الوطنية تجسد نموذجا منسجما، حيث تتلاحم الروافد الثقافية و اللغوية ضمن مشروع ثقافي و سياسي و مجتمعي موحد. و خلال هذه المرحلة، كانت اللغة و الثقافة الأمازيغية فاعلة في تجسيد هذا النموذج الوطني، و ذلك خلاف ما يروجه التيار العرقي، اليوم، من أوهام إيديولوجية. فقد ساهمت مدارس سوس العتيقة في إنتاج المعرفة و توزيعها على باقي التراب الوطني، و كانت الأمازيغية حاضرة بقوة، سواء كثقافة أو كلغة لتدوين العلوم و المعارف، و تحتفظ هذه المدارس؛ إلى حدود اليوم، بكنوز معرفية مدونة باللغة الأمازيغية المنقوشة بخط عربي، و ذلك قبل أن يفرض التيار العرقي حروف تيفيناغ الغريبة، في تحد سافر للحوار الثقافي العربي – الأمازيغي الذي استمر، لقرون، و ساهم في صياغة الخصوصية الثقافية و الاجتماعية و السياسية المغربية . لقد توقف هذا الحوار الثقافي على وقع طلقات المدافع الاستعمارية الفرنسية، التي كانت مرفوقة بجيش من السوسيولوجيين الذين كانوا يعبدون الطريق أمام الدبابات، و ذلك ضمن ما سمي بالسوسيولوجيا الكولونيالية، التي قادها باحثون-ضباط أمثال: ميشو بلير و روبير مونتاني ... هؤلاء الذين خططوا، عن مكر، للفصل بين المكونين الثقافيين و اللغويين، العربي و الأمازيغي، و ذلك كتمهيد للفصل الاجتماعي الذي كان على قائمة أولوياتهم الاستعمارية. و من أجل تحقيق هذا المشروع الاستعماري، فقد أسس الاستعمار الفرنسي تجربة المدارس الفرنسية – البربرية، هذه المدارس التي كانت امتدادا للمشروع الاستعماري الفرنسي الهادف إلى تكوين الخلف القادر على حمل رسالته، و قد كان هذا الخلف من أبناء المغاربة ذاتهم، هؤلاء الذين تم تشكليهم على المقاس الاستعماري. بعد أن اندحر الاستعمار الفرنسي على يد الحركة الوطنية المغربية، بجناحيها السياسي و العسكري، كان الخلف الاستعماري من خريجي المدارس الفرنسية-البربرية قد أدرك نضجه و أصبح قادرا على حمل المشعل الاستعماري. و قد كانت البوادر الأولى لخروج هذا النزوع الاستعماري للخلف إلى العلن مع تجربة الضباط المغاربة، الذين حاربوا ضمن الجيش الفرنسي، هؤلاء الذين استعانت بهم الدولة في تشكيل اللبنة الأولى للجيش المغربي. و قد كان عداء هؤلاء كبيرا جدا للفكرة الوطنية، في مختلف تجسيداتها سياسيا و ثقافيا ... بل و قد انخرط بعضهم في التخطيط لتصفية الكثير من الزعماء الوطنيين، بدعوى أنهم يشكلون امتدادا لحزب الاستقلال الذي يسعى إلى الهيمنة على مقاليد السلطة ! و بالإضافة إلى المجال العسكري، فقد هيمن الخلف الاستعماري على الإدارات العمومية و على المجال الاقتصادي، و شكلوا، بذلك، لوبيات مختلفة التخصصات، سمتها المشتركة المحافظة على الإرث الاستعماري الذي يستجيب لمصالحها الفئوية الضيقة. و هكذا، كانت الإيديولوجية العرقية تترعرع و تمتد جذورها في هذا الوسط الاجتماعي، مستثمرة الإرث السوسيولوجي الكولونيالي، الذي نظر، مبكرا، للفصل في المجال الاجتماعي المغربي، بين المكون الأمازيغي و بين المكون العربي. إنه لا يمكن فصل المنظومة الإيديولوجية العرقية، في المغرب، عن سياق تشكلها العام و الخاص، و هذا السياق هو الذي يمكن أن يقودنا إلى فهم أفضل للخطاب العرقي، سواء في بعده الثقافي العام أو في بعده الحقوقي أو في بعده السياسي، و ذلك لأن جميع هذه الأبعاد تشترك في نفس المنطلق، الذي يجد امتداده في المنظومة الكولونيالية، التي أقامت تصورها السوسيولوجي و القانوني (الظهير البربري) على أساس الفصل بين المكونين العربي و الأمازيغي. و هذا التصور جديد على الثقافة المغربية، لأننا لا يمكن أن نعثر على آثاره الفكرية في مئات المجلدات التي خلفها علماء المغرب باللغتين العربية و الأمازيغية . 3-2- بين الثقافي و الحقوقي اتخذت النزعة العرقية الأمازيغية، في البداية، طابعا ثقافيا؛ من خلال الجمعيات العاملة في المجال الثقافي الأمازيغي، و التي كانت تسعى إلى رد الاعتبار للأشكال الثقافية الأمازيغية باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات الثقافة و الهوية الوطنية. و هذا، كان له مبرره في وضع سياسي و ثقافي تطبعه أحادية التوجه، حيث احتكر النظام المخزني حق صناعة الثقافة الوطنية من منظوره الخاص، من دون أن يفسح المجال أمام مختلف الفعاليات الثقافية. و في ظل هذا الوضع، فإن الأمازيغة لم تكن وحدها ضحية التهميش و الإقصاء، بل عانت مكونات ثقافية أخرى من نفس التهميش، سواء تعلق الأمر بالأشكال الثقافية الحسانية أو ما ينتمي للأشكال الثقافية الخاصة بالأقاليم الشمالية (محور طنجة – تطوان خصوصا). و لذلك، نجد مجموعة من الأشكال الثقافية هي التي تحتكر مهمة التواصل الثقافي، و خصوصا ما ارتبط منها بمحور الرباط - الدارالبيضاء، هذا المحور الثقافي الذي جسد حضوره القوي من خلال الخطاب الإعلامي، الذي يعتبر حامل الرسالة الثقافية و موزعها . لذلك، يبدو أن النضال من اجل رد الاعتبار للأشكال الثقافية المهمشة هو حق مشروع، من منظور أن الثقافة الوطنية تستمد قوتها من تعدديتها، و أي احتكار للمجال الثقافي من طرف أي مكون، فهو يمثل عنفا رمزيا من الواجب مقاومته بمختلف الوسائل المشروعة. لكن، هذا الطابع الثقافي، الذي طبع الفعالية الأمازيغية، سيتحول إلى طابع حقوقي مؤدلج تم تخصيبه في مختبرات فرانكفونية-صهيونية، نظرا لتبادل المصالح الحاصل بين هذه الأجندة الخارجية و بين أجندة التيارات العرقية. و هذا ليس تزويرا للحقائق، بل هو ثابت في أرشيفات وزارة الخارجية، في فرنسا و إسرائيل، بل و تؤكده مجموعة من الوقائع، التي يمكن أن نأتي على بعضها للتمثيل : دعمت فرنسا، بشكل صريح، المطالب الانفصالية التي عبر عنها قبايليو الجزائر، و قد وصل الأمر إلى الإعلان عن حكومة يوجد مقرها على التراب الفرنسي. و في علاقة بهذا التوجه الانفصالي، فقد ارتفعت الأصوات في المغرب مطالبة بنظام حكم ذاتي ( صيغة دبلوماسية لمطلب الانفصال) في الريف و سوس. يتعامل الكيان الصهيوني مع التيارات العرقي، في المغرب العربي، باعتبارها حصان طروادة يساعده على تحقيق اختراق سياسي للسيادة الوطنية، و ذلك بادعاء دعم حقوق السكان الأصليين لشمال إفريقيا. و يرتكز الفاعل الصهيوني على أساس إيديولوجي متين، حيث يعتبر أن القضية تخدم توجهاته في المنطقة، باعتبار اشتراك الفاعل العرقي مع الفاعل الصهيوني في الارتكاز على أسطورة الأصل. و في هذا الصدد، فإن هذه الحركات العرقية تتبجح بعلاقاتها المشبوهة مع الكيان الصهيوني؛ هذه العلاقات التي يعتبرها أحدهم "إحدى وسائل الدفاع عن النفس، ضد الاستهداف الذي يتعرض له أمازيغ المنطقة المغاربية، من القوميين العرب ومن بعض المتطرفين الإسلاميين " !!! أنظر تصريح الدغرني على الرابط التالي: http://hespress.com/permalink/14662.html و هذا التداخل بين الأجندة العرقية من جهة، و الأجندة الفرانكفونية من جهة أخرى، يتخذ عادة لبوسا حقوقيا، حيث يسوق التيار العرقي لخطاب المظلومية الذي يجعل حالته شبيهة بالحالة الصهيونية، فكل من الصهاينة و الأمازيغ مستهدفون من طرف العرب ! أي تزوير للتاريخ و لحقائق الواقع هذا ؟ الأمازيغ في وطنهم مكرمون لا يعانون من أي تمييز، بل إنهم مغاربة أحرار يتمتعون بجميع حقوق المواطنة و عليهم جميع واجبات المواطنة. أما التزوير الذي يمارسه الكيان الصهيوني فتلك قصة أخرى، فهو يقتل و يشرد و يدمر ... مسلحا بأساطير دينية ترسخ في لا- شعوره الجمعي سادية لا تضاهى تجاه كل ما هو عربي، و في نفس الآن يسوق لخطاب المظلومية !!! إنه التزوير الفاحش الذي لا يترك مجالا للنقاش و التواصل الحضاري بين الشعوب و الأمم. فعن أي خطاب حقوقي وطني يمكن أن نتحدث إذن ؟ إذا كانت وظيفة النضال الحقوقي هي الدفاع عن الحقوق الإنسانية المهضومة، بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي أو المذهبي، فلماذا يربط التيار العرقي نضاله الحقوقي بأجندة خارجية معادية للمصالح الوطنية ؟ - في كشف اللبس عادة ما يستلهم التيار العرقي نظرية المؤامرة، في مواجهته للأقلام الوطنية التي تناضل من أجل هوية وطنية قائمة على الحق في التعددية و الاختلاف. و لذلك، لا يسلم من سهامهم السامة أي قلم لا يساير نزواتهم العرقية. لقد آن الأوان لنتعلم ثقافة النقد، التي لا تقدس الأفكار لأن كل شيء قابل للتحليل و المراجعة. إن من ينتقد تصوري الإيديولوجي ليس، بالضرورة، عدوا، بل هو مختلف و من حقه أن يعبر عن اختلافه، في إطار حرية التعبير التي يضمنها الدستور و القوانين الدولية. إننا و نحن نفكك الشعارات العرقية، لا نستهدف الإساءة لمكون أساسي من مكونات هويتنا الوطنية، و لكن نسعى إلى تحقيق انفتاح المكون الأمازيغي على باقي مكونات الثقافة الوطنية في إطار نقاش حضاري جاد. و هذا، لن يتحقق، بالطبع، على يد الفاعل العرقي الإقصائي، الذي ينطلق من شعار ( أنا و بعدي الطوفان)، بل يتحقق على يد المثقف و المناضل الوطني الملتزم بقضايا شعبه، هذا الشعب الذي يتعامل معه المثقف و المناضل الوطني كبنية متماسكة تتشكل من عناصر مختلفة، و لكن أهم ما يميزها هو الروابط الثقافية و الاجتماعية التي تربط بينها و تحقق تماسكها . إن هذا، ليس حلما جميلا، و لكنه واقع عايشه المغاربة، لقرون، حيث التواصل الاجتماعي يصل مداه في الأسواق الشعبية و في المساجد و في الحمامات الشعبية و في المقاهي... و يحضر الانتماء الوطني و تتلاشى النزعات العرقية. لقد ردد المغاربة في المساجد بصوت واحد دعاء اللطيف، حينما انكشفت المؤامرة الاستعمارية، و لا أحد اتهم الآخر في وطنيته. و ما علينا، كجيل جيد، سوى أن نجعل هذا الدعاء شعارنا الذي نردده جميعا و بصوت واحد : " اللهم يا لطيف، نسألك اللطف في ما جرت به المقادير، لا تفرق بيننا و بين إخواننا البرابر" . كاتب و باحث أكاديمي