سَيوصمُ التاريخ الانساني الحديث بأنه أسوأ عصر في تاريخ الانسانية منذ أن لُعِننا وعوقبنا بسبب تفاحة. سيتم تذكر تاريخنا المعاصر باشمئزاز نظرا للوحشية التي يتم ارتكابها من طرف من كانت تفترض فيهم حماية الكوكب وضمان عيشنا الآمن فيه. ظننا جميعا أن ما قامت به بعض الشخصيات التاريخية تجاه الانسانية كهولاكو مثلا، والاسكندر الأكبر او كورش (ذو القرنين حسب البعض) كان قمة في البشاعة والكراهة والهمجية، لكن ما أصبحنا نشهده منذ ما يزيد عن قرن من الزمن فاق قدرة أي عقل بشري سليم على التقبل والفهم. إن إلقاء نظرة خاطفة على الأسباب الكامنة وراء هدم حضارتنا، تكفي لفهم من يقبع وراء هذه الكارثة: رجال الدين ومن يدعون أنهم أهل الرب (الإله الخالق). قد يكون الأمر صادما للكثير من الناس، لكن أي مصيبة أصابت العالم، ما وقعت إلا بسبب هؤلاء الرجال وتحت تأثير الكيفية التي سطوا بها على العقائد الابراهيمية الثلاثة لاستغلالها في رَيِّ تعطُّشهم للسلطة وجشعهم. ما الإرهاب والتطرف العقدي سوى نتيجة محاولات رجال الدين المتواصلة لزرع وتغذية عقول الناس بما هو أقرب إلى شريعة مسمومة منه إلى ما كان يجب عليهم إبلاغه: كلام الله. الإرهاب لا يقع بتخطيط من عقل اجرامي. إطلاقا! بعض الارهابيين هم اناس على درجة كبيرة من الفهم والذكاء واستيعاب الواجب المنوط بهم، الشيء الوحيد الذي لا يدركونه هو الوسيلة التي يتم بها غسل أدمغتهم وإقناعهم للإيقاع بهم في شباك هاته العقليات الكهنوتية. سوف أركز هنا على ما ميز القرن الماضي، وبداية القرن الحالي: التعصب الإسلامي والإرهاب. من اللازم أن يكون هناك سبب بل أسباب وراء كيفية جعل ما كان يعتبر لأكثر من ألف سنة ديانة سلمية ومسالمة قرينا بإرهاب الناس ونشر الفوضى والغوغائية في العالم. لا بد أن يكون هناك سبب، شيء ما سار بطريقة خاطئة منذ عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والعصر الراهن. هناك عامل وحيد نستطيع الارتكاز عليه، هو الذي تسبب في الاضطراب الذي يعاني منه العالم، ألا وهو كون المسلمين أولوا ظهورهم لمنبع إيمانهم، وشرعوا في اتباع وتقديس من نصبوا أنفسهم (الحارس الأوحد للدين). نستطيع أن نستخرج من هذا الملايين من أسباب تدهور الإسلام والمسلمين، لكنني أحدد الخلاصة التي توصلت إليها بعد سنوات من القراءة لكتب التاريخ والدين كسبب رئيس لما يقع: المسلمون ابتعدوا عن الله، وجعلوا عوضا عن ذلك منبع تعبدهم أفرادا مثلهم، أحاطوهم إلى حد ما بقدسية مزيفة ومبالغ فيها أحيانا. المسلمون يحتاجون بشكل عاجل إلى نفض ما تراكم عليهم من الغبار إذا كانوا يعقدون العزم على استرداد أعز وأغلى ما أُخِذ وسلب منهم، إيمانهم. أن يدرك المسلمون ألا حواجز تقف بين دعواتهم وبين الله، وأنهم لا يحتاجون معروفا من أحد ليكونوا أقرب إلى الخالق، فسبحانه أقرب إليهم من حبل الوريد. انقسم المسلمون، لقرون، حول مَن مِنَ الكتب ومن الأئمة فهم وفسر كلام الله بالشكل الصحيح. لم يحصل هذا إلا بعد أن كتب رجل يسمى البخاري كتابا يتضمن تجميعا لأقوال وأفعال الرسول. إضافة إلى هذا كان هناك رجل آخر، رجل اسمه ابن تيمية، كتب كتابا آخر يفصل فيه طرحا جديدا للإسلام ويأخذ الشريعة المقدسة إلى أبعاد مغايرة. إن أكبر وأفظع خطأ ارتكبه المسلمون يكمن في الابتعاد عن كتاب الله وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد نسي المسلمون أن هناك إلها واحدا، كان وسيظل المالك الوحيد لحق محاسبة خلقه. نسي المسلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وسيظل المدافع والشفيع عن الأمة المسلمة وشفيعها الوحيد. ويبدو أن المسلمين نسوا أو تناسوا أيضا أن إيمانهم سيكون حجتهم الوحيدة يوم العرض والحساب. وعليه، ولإيجاد العلاج الشافي لما اعترى المسلمين من داء، ولتحرير العقل المسلم من الفهم الفلكلوري للدين، من المهم رصد مكامن الخلل في ممارساتهم وكيفية تصرفهم في هذا العالم. فعندما تصير إحاطة رجل دين ما بالقداسة وتنزيهه عن الانتقاد وجعله طابوها لا يمكن التطرق إليه أو حتى أسا من أسس الدين، فهذا يعني أننا نواجه مشكلا جادا وخطيرا. وهو بأي حال ليس مشكلا مع الدين بل هو مع من يدعون حراسته. من المحزن التفكير أنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن المسلمون مجبرين على اللجوء لأي سبل لفهم الشريعة المقدسة غير تلك التي شرحها وفسرها لهم الرسول خلال حياته، وأن الانهيار بدأ عندما نصب بعض رجال الدين ومن اسموا أنفسهم (المفكرين المسلمين) أنفسهم حراسا على الإسلام والعقيدة، ومنهم من جعل الطريق إلى الله يمر بزاويته أو محرابه، وصار كل شيء يقال أو يعبر عنه خارج تفسيرهم الخاص يعتبر كفرا وهرطقة. كان الإسلام وسيظل شريعة بسيطة تعكس بامتياز ما أراد الخالق تبليغه للناس. شريعة تم تناقلها من الجيل القديم من رجال الدين إلى الدعاة الحاليين. من المقلق العلم بأن انتقاد كتاب مثل كتاب البخاري أو الإمام مسلم صار من الطابوهات، كما هو الشأن بالنسبة لشجب التعاليم المتطرفة لابن تيمية. أصبح لا يملك أي شخص عادي الحق في تفسير الشعائر الاسلامية حسب فهمه للدين، غدا الإسلام ملكية خاصة لهؤلاء المتعصبين والمتطرفين، وكل من يتجرأ على ذلك ينعَتُ في الحال بالهرطقة أو الإلحاد. إن على عاتق المسلمين المعتدلين والبسطاء واجبا تجاه أنفسهم. عليهم أن يَدَعوا ويشجبوا الوكالة الوهمية لهؤلاء (الوكلاء أو الحراس) على الشريعة المقدسة. عليهم أن يفهموا ويعوا أن الوصول إلى الله ممكن بدون الحاجة إلى مرجعية بشرية دينية. عليهم أن يعوا أن تجريد القداسة عن هؤلاء الرجال ليس كفرا ولا زندقة، ولا يخرج من الملة. أما البخاري وابن تيمية، فهما مجرد رجلان؛ سيعرضان للحساب أمام الخالق مثلنا، ومن الممكن أن يكونا مخطئين كما من الممكن أن يكونا على حق. فوق ذلك، حتى الحديث عن التوافق يبقى نسبيا، إذ ينبغي على الدين التطور وفق تطور الحياة نفسها، ومن الغلط تبني بعض التفسيرات المتجاوزة للشريعة المقدسة، ففي النهاية، أي تفسير ينبغي أن يُؤخذ على أنه اجتهاد ورأي شخصي لصاحب المؤلف الذي يورده. بإمكانهم زخرفة مسميات ما ينشرون كما يشاؤون، هذا لن يلغي أن كل ما يُعَبَّر عنه فيها يقع تحت صنف الآراء الشخصية، ولن يمتلك القداسة المرجوة لغسل الأدمغة. نستطيع أن نرسل طائرات بدون طيار، نستطيع أن نُحكِم المراقبة على الحدود، نستطيع أن نسن ونطبق القوانين المشددة لمكافحة الإرهاب والتطرف الديني، لكن ما دمنا لا نعالج السبب الحقيقي للمشكل ونستأصل التطرف من جذوره، سيظل العالم في حرب مستمرة ضد أولئك أمراء الظلام وبائعي الموت. ينبغي أن نشن حربا ضد من يعتقدون بأنهم يملكون توكيلا من الخالق سبحانه لتمثيله على الأرض. من المهم والعاجل أن تتم مصادرة وإتلاف العديد من الكتب المتطرفة، فجذور الإرهاب متأصلة في الكتب الفقهية الفولكلورية وليست في المساجد، لذا وجب تحرير مجتمعاتنا من هذا الفكر الظلامي. يجب أن يعلم الناس أنه لا توجد حواجز بينهم وبين الله، فهو معهم أينما حلوا وارتحلوا، هو بداخلهم وحولهم، ولم يكن ولن يكون هناك مقر للقيادة في مكان أو مدينة ما للتواصل معه عز وجل؛ فالله في كل مكان، وسبحانه يدعونا بشدة للتدبر في العديد من آيات القرآن الكريم. من هنا أتساءل، لماذا ابتعد المسلمون عن التفكير والتدبر وإعمال العقل من أجل التمييز بين ما هو صحيح وما هو خطأ؟ لم يكن الإسلام يوما شريعة عقدية فحسب، إطلاقا، الإسلام شجع ويشجع على استعمال المنطق لاستيعاب مفهوم الخالق قبل فهم الطقوس والشعائر الدينية. كم منا اليوم يستوعب مفهوم خالقنا؟ إن عبادته سبحانه بفهم عميق أجدى وأكثر فاعلية من الاتباع الأعمى البسيط. وفوق هذا كله، هناك أمر بالغ الأهمية ألا وهو إدراك أن الدين دوما كان أمرا شخصيا، وأن الأوطان دوما تجمعنا كلنا. إنه بإمكاننا التعايش مع بعضنا البعض متى تقبلنا أن أي فرد منا يملك حق تبني ما يشاء، يعتقدَ فيما يريد، ويعبد إلاها من اختياره. إن واجبنا في الحياة ليس هو إصدار أحكام على الآخرين، أبدا. واجبنا هو مساعدة بعضنا البعض خلال المدة القصيرة التي تدومها رحلتنا على كوكب الأرض. لأننا في الأخير سنرحل، فلنرحل إذن وقد خلَّفنا في أثرنا إرثا جيدا ومحترما، إرثا يجعل أحفادنا يفخرون بنا، عوض أن نحول البسيطة إلى أنقاض وخراب وحلبة للصراع العقدي والطائفي. فهذا ما ائتمننا عليه الله سبحانه وتعالى، وكنا ظلومين وجهلاء عندما قبلنا حمل تلك الأمانة العظيمة. -محلل سياسي واستراتيجي، واشنطن.