تنتشر بالمغرب كثير من الآراء العامّية الخاطئة حول الأمازيغية والأمازيغيين، تجد مصدرها في أحكام مسبقة، وقناعات جاهزة، وشائعات متداولة حول الموضوع. إلا أن الطامة الكبرى أن هذه الآراء العامّية الخاطئة، غالبا ما تتحول إلى حقائق "علمية" يتبناها ويدافع عنها مفكرون ومثقفون من مستوى عالٍ، كما فعل الأستاذ عبد الله حمودي في المحاضرة التي ألقاها يوم فاتح أبريل 2015 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن امسيك، الدارالبيضاء، تحت عنوان "الهوية الأمازيغية والهوية العروبية في إطار نظري موسّع". لم أتمكن من الاستماع أو قراءة المحاضرة التي لم تنشر، حسب علمي، وإلى اليوم (8 أبريل)، حتى تكون مناقشة موقف الأستاذ حمودي شاملة تتعرض لكل ما أثاره من أسئلة وما قدمه من أجوبة. وفي غياب المحاضرة كاملة، سأضطر إلى الاعتماد على ملخص تركيبي لنفس المحاضرة، نشرته يومية "أخبار اليوم" في عددها بتاريخ 3 أبريل 2015. من بين المفاهيم المتواترة في محاضرة الأستاذ حمودي مفهوم "التمازج" بين الأمازيغيين والعرب، الشيء الذي أعطى للهوية المغربية طابعها الخاص. "التمازج"، المفهوم الرئيسي المفتاح في مداخلة الأستاذ حمودي، هو في الحقيقة فكرة عامّية تنبني على ما يلاحظ من تزاوج وتصاهر بين الأمازيغيين وعناصر أخرى يعتقد أنها عربية. ولهذا فنفس المفهوم (التمازج) يُعبّر عنه أيضا ب"الانصهار" و"الاختلاط" و"التلاقح" و"الهوية المركبة"... ولأنها فكرة عامّية وليست علمية، فهي لا تضيف شيئا إلى ما يتداوله العامّة حول مسألة الهوية في المغرب، ولا تقدم بالتالي تفسيرا ولا حلولا لإشكاليتها. بل إن هذا المفهوم يطرح أسئلة تجعل منه فكرة متجاوزة وغير ملائمة لفهم ظاهرة الهوية، من بين هذه الأسئلة: مادام أن "التمازج" ناتج عن الاختلاط و"الانصهار" بين الأمازيغيين والعناصر الأجنبية التي تنتمي إلى أقوام أخرى، فبأي منطق يقتصر هذا "التمازج" على الأمازيغيين والعرب، ولا يشمل العناصر الأجنبية الأخرى، مثل الرومان والفينيقيين والبزنطيين والأفارقة السينيغاليين والماليين...، والذين سبق لهم جميعا أن اختلطوا بالأمازيغيين بسبب الهجرة أو الاستعمار؟ وفي هذه الحالة يقتضي منطق "التمازج" أن تكون هوية المغاربة عربية وأمازيغية ورومانية وفينيقية وبيزنطية ويهودية وسينيغالية ومالية... هذا هو المأزق الذي يؤدي إليه منطق "التمازج". هل أراد واختار الأمازيغيون هذا "التمازج" بينهم وبين العرب طواعية؟ هل طلبوا من العرب القدوم إلى بلادهم قصد "التمازج" معهم؟ فإذا لم يكن اختياريا، فمعنى هذا أن الهوية العربية الناتجة عن هذا "التمازج"، هي هوية مفروضة كما يفعل الاستعمار الذي يفرض هوية المحتل بالقوة والغلبة (انظر موضوعنا «في دحض خرافة "الانصهار" بين العرب والأمازيغ» على رابط "هسبريس" http://www.hespress.com/writers/252305.html). وهذا مأزق آخر يؤدي إليه مفهوم ّالتمازج. وإذا كان الأصل في هوية المغاربة هو "التمازج"، كما يشرح الأستاذ حمودي، فلماذا يسمى المغرب "عربيا"؟ ولماذا هو عضو بجامعة الدول العربية؟ ولماذا سياسة التعريب التي ترمي إلى فرض هوية واحدة لا "تمازج" فيها وهي الهوية العربية؟ فلو كان هناك "تمازج" بين الهوية العربية والهوية الأمازيغية، لما كان هناك تعريب للمغاربة، أو لكان هناك تعريب وتمزيغ في نفس الوقت تطبيقا لمفهوم "التمازج". إذا كان هناك "تمازج" بين الأمازيغيين وبين العرب، فكيف يعرف مجموعة من العرب أنهم ذوو "نسب شريف" وعربي قحّ، بعد قرون من "التمازج" والتزاوج بين العرق الأمازيغي والعرق العربي؟ إنه مأزق آخر لمنطق "التمازج". ثم لماذا أدّى "التمازج" إلى وجود هويتين، أمازيغية وعربية كما جاء في عنوان محاضرة الأستاذ حمودي، فقط ببلدان شمال إفريقيا وحدها، وعلى رأسها المغرب؟ لماذا لم يؤدّ مثل هذا "التمازج"، الموجود في كل بلدان العالم تقريبا، إلى ظهور هويتين أو أكثر؟ لماذا توجد بالمشرق العربي هوية واحدة هي الهوية العربية، مع أن هذه المنطقة عرفت "تمازجا" بين العرب والأتراك العثمانيين دام عدة قرون؟ لماذا لا تعرف فرنسا إلا هوية واحدة هي الهوية الفرنسية، رغم "التمازج" الذي حصل بهذا البلد بين الفرنسيين الأصليين ومجموعات بشرية تنتمي إلى أقوام أخرى، هاجرت إلى فرنسا واستقرت بها و"امتزجت" بسكانها بمناسبة احتلال فرنسا لبلدانها؟ لماذا لا تعرف إيران إلا هوية واحدة هي الهوية الفارسية، رغم أن أقواما أخرى "تمازجت" مع الفرس مثل الأفغانيين والأكراد والعرب؟ لقد أجاب الأستاذ حمودي عن هذه الأسئلة بشكل ضمني عندما أوضح أن هذا "التمازج"، الذي يميّز المغرب، لم يحصل آبدا في أية منطقة أخرى من قبل، وهو غير موجود لا في أمريكا ولا في أوروبا. وإذا كان هذا "التمازج" أعطى نتائجه الهوياتية بالمغرب فقط من دون باقي البلدان التي تعرف هي أيضا مثل هذا "التمازج"، الناتج عن الهجرة أو الاستعمار، فلن يكون تفسير الوضع الهوياتي بالمغرب، استنادا إلى مفهوم "التمازج"، تفسيرا علميا، بل هو مجرد تبرير انطباعي وعامّي. لماذا؟ لأن التفسير العلمي يأخذ صيغة قاعدة عامة (ما يعرف بالقانون في العلم) تفسر كل الظواهر المتشابهة في خصائصها بحكم انتمائها إلى صنف واحد. فلو كان "التمازج" تفسيرا علميا للهوية، لسرى إذن نفس التفسير على كل هويات الشعوب الأخرى، وليس بالنسبة لحالة المغرب فقط. أما القاعدة العلمية التي تفسر ظاهرة الهوية بصفة عامة وليس هوية المغاربة فحسب، فهي القاعدة التي تقول بأن الهوية يحددها الموطن الجغرافي للشعوب، وليس "التمازج" الظرفي والطارئ. وهي قاعدة استقرائية تتوفر، بالتالي، على شروط القانون العلمي الذي ينبني على الاستقراء. ولهذا فعندما يؤكد السيد حمودي بأن كل ما يقال، حول الهوية، خارج نطاق نظرية "التمازج" هو كلام إيديولوجي وانفعالي لا بسنده العلم والمعرفة الموضوعية، فإنه تأكيد يصدق على نظريته "التمازجية" التي لا تتوفر على العمومية (أي تكون عامة تسري على كل حالات الهوية) والموضوعية اللتين هما من شروط الحقيقة العلمية. ولهذا فهذه النظرية هي مجرد تبرير انطباعي وعامّي ومزاجي لإعطاء المشروعية للعروبة العرقية بالمغرب. لكن إذا كان تفسير الهوية بنظرية "التمازج" لا يقوم على أي أساس علمي، فهذا لا يعني أن ظاهرة "التمازج" العرقي غير موجودة. بل هي شائعة وعامة لا يخلو منها أي شعب ولا أي مجتمع. لكن لا علاقة لها بالهوية عكس ما يذهب إليه الأستاذ حمودي، الذي لم يطرح السؤال التالي: من "يتمازج" مع من هوياتيا وليس عرقيا؟ القاعدة أن الوافد الذي يستقر ببلد ما بصفة دائمة وقارة، هو الذي "يتمازج" مع السكان الأصليين ليصبح المنحدرون منه، بعد بضعة أجيال، جزءا من هؤلاء السكان الأصليين، ينتمون إلى نفس الهوية لأنهم أصبحوا منتمين إلى نفس الموطن الذي ينتمي إليه هؤلاء السكان الأصليون، والذي يمنح للجميع نفس الهوية. وهو ما يعني أن طبيعة الهوية الأصلية لا يطرأ عليها أي تغير نتيجة انضمام عناصر أجنبية إلى هذه الهوية، وذلك لأن "التمازج" يقتصر، في ما يخص الهوية وليس العرق، على العنصر الوافد ولا يكون تفاعليا ومشتركا يساهم فيه بالتساوي الوافد والأصلي. فالهنود الذين استقروا، وبصفة دائمة ونهائية، ببريطانيا عندما كانت هذه الأخيرة محتلة لبلدهم، أصبح حفدتهم اليوم إنجليزيين في هويتهم فضلا عن جنسيتهم البريطانية، لكن دون أن يمس ذلك الهوية الإنجليزية لبريطانيا لتصبح بهويتين، إنجليزية وهندية نتيجة "تمازج" مجموعة من الهنود مع البريطانيين. فالوافد هو الذي "يذوب" و"يمتزج" مع الأصليين دون أن يكون لذلك أي أثر على هوية هؤلاء الأصليين. من جهة أخرى، وارتباطا بالفهم العامّي "للتمازج"، يحلل الأستاذ حمودي الهوية كمفهوم يخص الأفراد، ولا علاقة له بالشعوب والدول التي تمثل هذه الشعوب. وهذا الفهم هو في الحقيقة خروج عن الموضوع، ومناقشة لمسائل لا تمت بصلة إلى المفهوم الحقيقي للهوية. فهذا المفهوم، ورغم أن له معاني متعددة بتعدد مجالات استعماله، كما في مجال الفلسفة أو المنطق أو الرياضيات أو علم النفس أو الأنتروبولوجيا...، إلا أنه عندما يقترن استعماله بالدول والأمم والشعوب مثل الشعب المغربي، فهو يحيل دائما على ما هو جماعي وسياسي في نفس الوقت: جماعي لارتباطه بهوية الشعب وليس بهوية الأفراد، وسياسي لارتباطه بالدولة الممثلة لذلك الشعب. فالهوية الجماعية للشعوب والدول لا علاقة لها إذن بهوية الأفراد كما يريدونها ويتصورونها، والتي هي في الغالب اختيار شخصي تحكمه عوامل ثقافية وتربوية واجتماعية وعرقية. وكما أثبتت الرياضيات والفيزياء والعلوم الإنسانية أن للمجموعات خصائص مستقلة ومختلفة عن خصائص العناصر المكوّنة لهذه المجموعات، فكذلك فإن للشعب والدولة التي تمثله هوية جماعية يحددها الموطن الجماعي لهذا الشعب وهذه الدولة، ولا تحددها مجموع هويات الأفراد الذين يشكلون هذا الشعب وهذه الدولة. وهو ما ينتج عنه أنه حتى إذا كان هناك مغاربة عرب، فلا يعني ذلك أن الشعب والدولة المغربيين هما عربيان، سواء كليا أو جزئيا، لأن هوية الدولة والشعب المغربيين هوية جماعية مستقلة عما قد يدعيه الأفراد من انتماء عرقي حقيقي أو منتحل، كما يحصل في الغالب. هذا التصور الفردي للهوية هو الذي يفسر نظرية "التمازج" عند الأستاذ حمودي، لأن "التمازج" ينتج عن التزاوج بين فردين وليس بين شعبين. وحتى معنى "التمازج" (Métissage) يعرّفه معجم اللغة الفرنسية بأنه «تزاوج بين أفراد من أعراق مختلفة» {Croisement entre individus appartenant à des races différentes (http://www.cnrtl.fr) }. فإذا اعتمدنا هذا المفهوم لتحديد الهوية، فإننا سنلغي في الحقيقة الهوية الجماعية للشعوب، ما دام أن الهوية ستنحل إلى هويات فردية يقدر عددها بعدد الاقترانات بين زوجين لا ينتميان إلى نفس القبيلة ونفس العرق. فنكون أمام حالة نفي الهوية عن الشعوب ونحن بصدد إثباتها. وهذا خُلْف وتناقض. وما دام أن هناك "تمازجا" بين العرب والأمازيغ بالمغرب، كما يذهب الأستاذ حمودي، فإنه من غير الممكن تحديد من هو العربي ومن هو الأمازيغي عرقيا، كما سبقت الإشارة. وهو ما يترتب عنه أن المغاربة فاقدون لأية هوية لأنهم يجهلون أصلهم وانتماءهم. وهذا مأزق آخر تؤدي إليه نظرية "التمازج"، وهو المأزق الذي لا يمكن الخروج منه إلا بالاحتكام إلى الموطن كمصدر للهوية الجماعية للشعب المغربي وللدولة المغربية. فإذا كان المغاربة لا يعرفون على وجه التحديد واليقين أصلهم العرقي، بسبب "التمازج" الذي حصل بينهم حسب الأستاذ حمودي، إلا أنهم يعرفون، وبشكل يقيني وقطعي، أنهم ينحدرون جميعا من أصل واحد مشترك، والذي هو موطنهم بشمال إفريقيا، الذي يستمدون منه هويتهم الجماعية بغض النظر عن أصولهم العرقية الفردية. وبما أن هذا الموطن هو أرض أمازيغية، فإن هويتهم الجماعية هي هوية أمازيغية، أي شمال إفريقية، ينتمي إليها الجميع، بمن فيهم ذوو الأصول العرقية العربية، الحقيقية أو المفترضة. وهذا التصور الترابي للهوية هو حل لمشكلة "أصل" السكان الأولين بالمغرب، وهو "الأصل" الذي ينفي الأستاذ حمودي أن يكون أمازيغيا، مؤكدا «أن الأمازيغ ليسوا بسكان المغرب الأولين، بل كانت قبلهم أقوام انقرضت لا نعرف عنها الكثير»، متجاهلا أو جاهلا لآخر الاكتشافات الأثرية بموقع "تافوغلت" (إقليمبركان) وموقع "إفري ن عمار" (إقليمالناظور). بل هو يناقض نفسه عندما يقول: «كانت قبلهم أقوام انقرضت لا نعرف عنها الكثير». فإذا لم نعرف عنها الكثير، فكيف عرف هو أنهم ليسوا هم الأمازيغيون؟ فتجنبا لميتافيزيقيا "الأصل"، المرتبطة بالتصور العرقي و"التمازجي" للهوية، يقدم لنا التصور الترابي الحل لمسألة "الأصل"، وذلك بردّ هذا "الأصل" ليس إلى عرق معين، بل إلى الموطن الذي هو أرض شمال إفريقيا، والذي يشكل "أصلا" للجميع، بمن فيهم المنتحلون "لأصل" عربي. وبالتالي فإن "أصل" المغاربة جميعا هو موطنهم بالمغرب، والذي منه يستمدون هويتهم التي هي هوية أمازيغية تبعا للهوية الأمازيغية لهذا الموطن. وفي إطار مسألة "الأصل"، يقول الأستاذ حمودي بأن وظائف "الأصل" هي وظائف سياسية من شأنها أن تمنح امتيازات في الحاضر. وهذا صحيح بالنسبة لخرافة "النسب الشريف"، التي تعتمد على ادعاء "أصل" عرقي نقي، وهو ما يناقض نظرية "التمازج" التي يدافع عنها الأستاذ حمودي. فمفهوم "الأصل"، هنا بخصوص "النسب الشريف"، مفهوم عرقي عنصري انتحلته العديد من الأسر الأمازيغية المتحولة جنسيا، أي التي غيرت جنسها (قوميتها وانتماءها) الأمازيغي بالجنس العربي، بسبب ما يمنحه هذا التحول الجنسي من امتيازات دينية واجتماعية واقتصادية ("الشريف" لا يشتغل وإنما يعيش بأعطيات الآخرين) وسياسية على الخصوص (السلطة والحكم). فمسألة "أصل" الأمازيغيين لم تطرح كقضية أصلية، وإنما كقضية متفرعة عن خرافة "النسب الشريف": فبما أن "الشريف" هو بالتعريف غير أمازيغي، فيجب إذن تحديد "أصل" الأمازيغي لتبيان أنه غير عربي حتى تُعطى الشرعية لمدعي "النسب الشريف". ثم سيتوسع "الأصل" ليشمل تحديد أية أقوام أخرى يكون الأمازيغيون قد انحدروا منها. وهو ما سيؤدي إلى ظهور خرافة "الأصل" اليمني للمغاربة. وكل هذه الخرافات (النسب الشريف، الأصل اليمني...) تتغذى من ثقافة العرق والنسب ذات الأصول الجاهلية السائدة في التراث العربي. ولا يمكن وضع حدّ لمثل هذا التفكير الخرافي في "أصل" الأمازيغيين، إلا باعتماد التصور الترابي لفهم وتحليل الهوية. فعن السؤال: من هو الأمازيغي؟ يجيب هذا التصور الترابي: الأمازيغي هو كل من ينتمي إلى شمال إفريقيا، وليس من ينحدر من أصل أمازيغي. وبالتالي فجميع المغاربة أمازيغيون في هويتهم الجماعية، وليس الفردية، لأنهم ينتمون جميعا إلى شمال إفريقيا التي يشكل المغرب جزءا منها. إذا كان هذا هو الأمازيغي، فمن هو العربي بالمغرب؟ إنه أمازيغي متحول جنسيا (قوميا وهوياتيا)، خلق لنفسه لغة دارجة حتى يقنع نفسه أنه عربي يتكلم العربية، مثله مثل العرب الحقيقيين. لكن لغته الدارجة هذه، التي يقدمها كدليل على عروبته، هي البرهان الساطع والقاطع على أمازيغيته، لأنه في هذه الدارجة تكلم لغته الأمازيغية بمعجم عربي، مع الاحتفاظ على بنيتها وتركيبها الأمازيغيين، وهو ما لا يمكن، منطقيا وواقعيا، أن يفعله عربي حقيقي لأنه يجهل الأمازيغية. الأستاذ حمودي لا يشير، من بعيد ولا من قريب، إلى الدارجة المغربية كموضوع ذي ارتباط وثيق بمسألة الهوية. مع أنه لا يمكن معالجة مسألة الهوية بالمغرب بمعزل عن موضوع الدارجة. ولا شك أن السيد حمودي يعتقد، مثل العامة، أن الدارجة فرع من اللغة العربية، يتحدثها المغاربة العرب. وهذا الفهم العامّي للدارجة يستقيم طبعا مع الفهم العامّي للهوية، القائم على "التمازج" بمضمونه الفردي والعرقي. فالدارجة لا تثبت أن الناطقين بها هم عرب، بقدر ما تثبت أنهم أمازيغيون تحولوا جنسيا (بالمعني الأصلي لكلمة "جنس" في العربية، والتي تعني القومية والانتماء الهوياتي)، أي تعرّبوا. وبناء على هذا التحول الجنسي، يكون "التمازج"، الذي يتحدث عنه الأستاذ حمودي، قد حصل بين الأمازيغيين المتحولين جنسيا، أي المعرّبين، وبين الأمازيغيين الأسوياء جنسيا وهوياتيا. والخلاصة النهائية هي أن هذا "التمازج" يكون قد حدث بين الأمازيغيين والأمازيغيين، وليس بين هؤلاء ووافدين أجانب. فالاعتقاد أن "التمازج" جرى بين الأمازيغيين والعرب، هو نفسه نتيجة لانتشار ثقافة التحول الجنسي، التي تتعامل مع المتحولين جنسيا على أنهم عرب، وتصنّف الدارجة كفرع من اللغة العربية. ولهذا فعندما يقول الأستاذ حمودي بأن هذا "التمازج" لم يحدث أبدا في أية منطقة أخرى، فهذا صحيح، لأنه من النادر أن نجد شعبا مارس على نفسه التحول الجنسي كما مارسه الأمازيغيون على أنفسهم، متنكرين لهويتهم الأمازيغية ومنتحلين انتماء عربيا، مع خلق لغة أمازيغية بمعجم عربي (الدارجة) حتى يبدو تحولهم من جنسهم الأمازيغي إلى جنس عربي حقيقيا وكاملا، وذلك حتى قبل أن يصبح هذا التحول الجنسي سياسة للدولة تسميه التعريب. وحتى على فرض أن هناك فعلا "تمازجا" عرقيا بين الأمازيغيين والعرب، كما هو شائع في التفكير العامّي، فهذا لا يعطي للمغرب هويتين، إحداهما أمازيغية والثانية عربية، كما نجد في البلدان التي تعرف تعددا في الهويات، كما في إسبانيا أو بلجيكا أو سويسرا... فتعدد الهويات بهذه البلدان يرجع إلى وجود موطن خاص بكل هوية، وبحدود ترابية ولسنية معروفة، داخل دولة واحدة. أما في المغرب فلا يوجد موطن خاص بالأمازيغيين وآخر خاص بالعرب حتى يمكن القول إن هناك هويتين اثنتين. فهناك موطن واحد للجميع، هو أرض المغرب، التي هي أمازيغية، أي شمال إفريقية. وبالتالي فإن جميع المغاربة أمازيغيون يستمدون هويتهم الأمازيغية من موطنهم الشمال الإفريقي، بغض النظر عن "تمازجهم" العرقي وأصولهم السلالية النسَبية. أما كون الهويات أصبحت تقوم اليوم على خطاب المواطنة، كما يقول الأستاذ حمودي، فهذا غير صحيح بالمرة، لأن الهوية مستقلة عن المواطنة التي تتأسس على الجنسية، والتي هي رابطة قانونية بين الفرد والدولة التي ينتمي إليها كمواطن. في حين أن الهوية هي رابطة ترابية – وليست قانونية بين الشعب وليس الفرد وأرض ينتمي إليها كموطن له. فالفرق بين الهوية والمواطنة هو فرق بين الهوية والجنسية، وهو نفسه الفرق بين الموطن والمواطنة. والأستاذ حمودي يخلط بين الهوية والجنسية عندما يقول بأن الأصل السابق التقى بالأصل اللاحق ليخلقا أصلا جديدا هو "المغاربة". مع أن لفظ "مغاربة" يعني الاشتراك في جنسية وطنية هي الجنسية المغربية، في حين أن الهوية الجماعية لهؤلاء المغاربة هي الهوية الأمازيغية، كما شرحت، أو هي هوية أمازيغية وعربية حسب نظرية "التمازج" للأستاذ حمودي. وهذا التمييز بين الجنسية والهوية يصدق كذلك على الإيرانيين، حيث يعني لفظ "إيرانيون" الاشتراك في الجنسية الإيرانية، التي هي شيء مختلف عن هوية الإيرانيين الجماعية، التي تبقى فارسية. ويصدق كذلك على السعوديين الذين يشتركون في الجنسية السعودية، في حين أن هويتهم تبقى عربية وليست سعودية. الخلط بين هذه المفاهيم (الهوية، الجنسية، المواطَنة، الموطن) هو سبب الفهم الخاطئ لمفهوم الهوية الجماعية للشعوب والدول. ثم إذا كانت الهوية تقوم على خطاب المواطنة، فلماذا لا زال الأستاذ حمودي يربطها ب"التمازج" بمضمونه العرقي؟ إذا كان الأستاذ حمودي، وهو العالم الأنتروبولوجي المتمكّن، قد تناول الهوية في علاقتها بالأمازيغية بشكل بعيد عن الموضوعية والمنهجية العلمية، فهذا شيء ملازم لكل المفكرين والمثقفين المغاربة، الذين يتناولون قضايا فكرية عالمية بكثير من الموضوعية والمنهجية العلمية والصرامة المنطقية في الاستدلال والاستنتاج. لكن عندما يتناولون موضوعا ذا صلة بالأمازيغية، تغيب لديهم هذه الموضوعية والمنهجية العلمية والصرامة المنطقية، فتجدهم، كما قلت في بداية المقال، ينطلقون في تحليلاتهم من أحكام جاهزة، وآراء متواترة، وأفكار عامّية شائعة ومتداولة حول الأمازيغية والأمازيغيين. لكن يجب الاعتراف أن المفهوم العامّي "للتمازج"، الذي يحلل به الأستاذ حمودي إشكالية الهوية بالمغرب، يشكّل تقدما كبيرا بالنسبة إلى غيره من المفكرين الذين تناولوا نفس الموضوع. لماذا؟ لأن هؤلاء غالبا ما يكون مرجعهم الوحيد لمناقشة الأمازيغية هو أسطورة "الظهير البربري"، التي يغرفون منها أفكارهم وحجاجهم، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. أما الأستاذ حمودي فمحاضرته كانت خالية كليا من أية إحالة على "الظهير البربري" أو "مشتقاته" من قبيل: التفرقة، التجزئة، الاستعمار، تهديد الوحدة الوطنية...