إن خصوصية مادة التربية الإسلامية لا يخرجها من زمرة المواد الدراسية التي ينبغي في بناء منهاجها استحضار مجموعة من الأسس التربوية والعلمية الكفيلة بتحويل مادتها العلمية إلى مادة تعليمية تتماشى وواقع المتعلم و تراعي خصوصيات مراحل نموه النفسي على وجه الخصوص. فماذا تقول النظريات التربوية الحديثة بخصوص خصائص متعلم المرحلة الابتدائية؟ وما مدى مراعاة المنهاج الحالي لمادة التربية الإسلامية لهذه الخصائص؟ وكيف يمكن بناء منهاج للمادة يراعي مميزات هذه المرحلة النمائية كما أثبتتها هذه النظريات ويحافظ في نفس الآن على خصوصياتها ؟ إن من بين الصفات المميزة لمتعلم مرحلة التعليم الأساسي (6- 8 سنة) ، صفة التمركز على الذات، وهي صفة تدعو المدرسة إلى احتضان الطفل وتحبيبه فيها ومساعدته على إدراك ذاته أولا، ثم التعبير عنها فيما بعد. وسبيل ذلك هو بلوغ درجة عالية من الثقة المتبادلة، ثقة المدرسة في الطفل باعتباره يحمل كل مقومات النجاح إذا ما تم توظيف طاقاته وإمكاناته توظيفا صحيحا سليما. وثقة الطفل بالمدرسة باعتبارها حضنه الثاني بعد أسرته، حضن مدعو أن يكون مليئا بالعطاء العاطفي. كما أن طفل مرحلة التعليم الابتدائي المتوسط (8-12 سنة) يتسم بضعف الحجاج وتفكيره المنطقي يكون في بداياته، فهو يعتمد على حواسه اعتمادا كاملا لإدراك العالم الخارجي. أولا: مميزات منهاج مادة التربية الإسلامية بالمدرسة الابتدائية: 1- من حيث المحتوى العلمي: إذا تأملنا المكونات العقدية لفقرات مادة التربية الإسلامية لهذه المرحلة نجد غالبية الدروس مثل: "من صفات الله" و"الإسلام دين التوحيد" و"المعجزة والملائكة" و"الهب رب العالمين"... تقدم مضامينها العقدية بعبارات فخمة وقوية وعميقة دلاليا، لن يستطيع الطفل فهم معناها ولا مغزاها، فهي مفاهيم تفوق مجاله الإدراكي ، فكيف له – على سبيل المثال- أن يستوعب دلالة الربوبية ودلالة الألوهية ودلالة الجلال، وإدراك مفهوم الصفات ومفهوم التوحيد، وهي مفاهيم استعصت على جهابذة الفلسفة والفكر الإسلامي، كما أدت بكثير منهم إلى الوقوع في شرَك التجسيم أو التعطيل. إن خطورة ترويج هذه المفاهيم بالمرحلة الابتدائية تتمثل في إمكانية حصول تشوه مبكر للمفاهيم العقدية لدى المتعلم، واستمرار هذه المفاهيم في ذهنه في المراحل العمرية اللاحقة فيصعب فيما بعد تصحيح هذه التشوهات، لما لطفل هذه المرحلة من قدرة عالية على استضمار واستبطان جميع أشكال المعرفة في الذاكرة العميقة. فإذا كانت مرحلة الطفولة هي اللبنة الأساسية لتكوين المفاهيم، والأساس الذي ينبني عليه كل تعلم مستقبلي، فيجب توخ الحذر من احتمال وقوع تلميذ المرحلة الابتدائية في التجسيم من خلال درس الصفات –على سبيل المثال- أو الشرْك من خلال درس المعجزة، للاعتقاد الشعبي بخوارق العادات في علاقتها بالأضرحة. فإذا كان بناء المفهوم العقدي في ذهن المتعلم يتسم بالصعوبة، فإن تغيير بعض التشوهات التي قد تصيبه أشد صعوبة. 2- من حيث البناء التربوي يمكن القول إجمالا أن دروس العقيدة لا تراعي الأساس التربوي في بنائها، ذلك أن المستوى الإدراكي للطفل لا يساعد على استيعاب المفاهيم العقدية المروجة في المرحلة الابتدائية. أما على مستوى دروس العبادات، فهناك مجموعة منها لا تراعي هذا الأساس: - فمن دروس العبادات للسنة السادسة ابتدائي على سبيل المثال: "مبطلات الصيام"، وقد تم إدراج "الجماع" كأحد هذه المبطلات. فكان من المفترض على سبيل المثال التطرق إلى بعض منها فقط مراعاة للأساس التربوي والنفسي للطفل، على أن يتم التطرق لباقي المبطلات في السنوات الموالية. - دروس العبادات في السنة الأولى ابتدائي عبارة عن مجموعة من التكاليف التي يجد فيها الطفل مشقة قد تؤدي به إلى النفور من المادة، بل مما تدعو إليه هذه المادة نفسها. ذلك أن علماء التربية يؤكدون على أن تكليف الطفل بما لا يطيق سبب رئيسي في عزوفه. ف"الوضوء عمليا" (وهو درس للسنة الأولى ابتدائي، ويقدم في الأسبوع العاشر أي بداية شهر دجنبر، مع ما يتصف به هذا الشهر من برودة الطقس)، و"الصلاة عمليا" دروس فيها إثقال لكاهل الطفل ذي الست سنوات ، فكان من الأجدر تأجيلها إلى سنوات موالية. - تلميذ هذه المرحلة لا يدرك معنى الفريضة وبالتالي فلن يستطيع استيعاب وإدراك المضمون وتمثله في الواقع. وتأكيدا على ذلك لو سألنا أنجب تلاميذ المرحلة الإعدادية عن فرائض الصلاة أو الصيام فلن يستطيع الإجابة -علما أنه درسها لسنوات في المرحلة الابتدائية- لأن تلك المفاهيم لم يستوعبها بل حفظها حفظا مؤقتا. 3- من حيث التنظيم: إن الناظر في فقرات برنامج مادة التربية الإسلامية بالمرحلة الابتدائية يستطيع بكل يسر الوقوف على مجموعة من الملاحظات: - دمج مكون العقيدة مع مكون العبادات، وانفصالهما عن مكون الآداب، فهل هذا التوزيع تم لأغراض وأسس تربوية أم تنظيمية فقط؟ - ضعف الوعاء الزمني و محدودية دروس مكون الآداب في المستويات: 3 و4 و 5 و 6 ، مع العلم أن مرحلة الطفولة أساس إنبات القيم الإسلامية و ترسيخها في سلوك الناشئة. - شبه القطيعة بين منهاج المادة للمرحلة الابتدائية مع المرحلتين المواليتين للتعليم المدرسي. فإذا كان منهاج مادة التربية الإسلامية للمرحلة الثانوية بسلكيها الإعدادي والتأهيلي مبني بمنطق الوحدات والأنشطة، وتم فيه استحضار مدخل الكفايات تطبيقا لمقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، فإن منهاج المرحلة الابتدائية للمادة تم بناؤه بمنطق الأهداف والدروس. - تقدم مكونات المادة (العقيدة والعبادات والآداب الإسلامية) وكأنها جزر متناثرة. يتم البدء دائما ( في جميع المستويات) بمكون العقيدة في بضعة أسابيع، ليتم القطع معها بصفة نهائية طيلة السنة. ألا يمكن اعتماد مبدأ التناوب (على الأقل) حتى يظل التلميذ متصلا طيلة السنة مع جميع المكونات؟ ألا يمكن اعتبار المدخل الوحداتي خير أنموذج لبناء منهاج التربية الإسلامية؟ إجمالا يمكن القول أن دروس العقيدة والعبادات بالمرحلة الابتدائية تتسم بالتضخم من حيث المفاهيم والتكاليف وعدم العناية بربط مكونات المادة بعضها ببعض، فأصبحت المعرفة المقدمة للتلاميذ مفككة ومجزأة. ثانيا: نحو منهاج جديد للمادة يعتبر المدخل الوحداتي خطوة هامة نحو إزالة الحواجز بين المكونات "المنفصلة" وتحقيق تكامل المعرفة لمادة التربية الإسلامية بالمرحلة الابتدائية. ويقصد بالمدخل الوحداتي مزج وصهر مكونات المادة الدراسية مزجا تاما بإدماجها فى بعضها بحيث تزول الحواجز التى بينها، بشكل يشبه المزج والتفاعل الذي يحدث عند اتحاد العناصر فى التفاعلات الكيميائية. ثم بناء المنهاج على شكل وحدات أو مجالات تتصل بمحاور معينة قد تكون مفاهيم أو مشكلات معاصرة لها دلالة في واقع المتعلم. أي بناء المنهاج على شكل وحدات يتم فيها إدماج مكونات المادة بشكل ينصهر فيه الجانب العقدي والعبادي والأخلاقي القيمي انصهارا كاملا وليس فقط تجميع هذه الأجزاء داخل غلاف كتاب واحد. ومن أمثلة ارتباط دروس العقيدة والعبادات والآداب بالمرحلة الابتدائية: العقيدة: درس "حب الله للعبد" العبادات: درس "الصلاة" الآداب: درس "حسن الخلق" ففي الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" 1 وقول الله عز وجل "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" 2 ذلك أن الصلاة سبب في الابتعاد عن الرذائل وأداة للتطهير من سوء القول وسوء العمل تجاه الأفراد، و نتيجة ذلك حب أهل الأرض للمؤمن لحسن خلقه تجاههم، والأصل في هذا الحب هو القبول الذي وضعه الله له في الأرض، وما هذا القبول إلا نتيجة حب الله له. فيظهر جليا من خلال هذه العلاقة أن حب الله للعبد يلزم حسن خلقه، والصلاة مدعاة لذلك. ومثل هذه العلاقة الترابطية بين المفاهيم العقدية والعبادية والأخلاقية غالب في محتويات دروس مادة التربية الإسلامية. وهذا المزج بين هذه المكونات تجعل المتعلم مستشعرا للعلاقة التكاملية بين مكونات المادة التعليمية، وبالتالي بين مكونات الدين الإسلامي. إن استحضار العلاقة التفاعلية والتكاملية بين مكونات المادة يجب أن يتم في إطار الحرص على إزالة الحواجز بين مختلف الوحدات، فتكون هذه المجالات وحدة متصلة، فكل مجال يبنى على ما سبقه ويعد أساسا لما يليه وفق مبدأ الترابط والتكامل بين فقرات المنهاج. وبذلك يبقى متعلم المرحلة الابتدائية دائم الارتباط بدروس العقيدة والعبادات والآداب طيلة السنة الدراسية، ويبقى كذلك حضور هذه المكونات متصلا بعضها ببعض. وكل هذا يتم وفق مبدأ التدرج في بناء المفاهيم، "ذلكم أن نظريات التعلم الحديثة تقر أن المفاهيم تبنى في أذهان المتعلمين بناء تدريجيا، وتتطور تطورا لولبيا تصاعديا في أذهانهم، ويستمر المفهوم في الاتساع إلى أقصى الحدود، وهذا يعني أن على واضعي المناهج مراعاة هذا التدرج في البناء حسب مراحل التعليم من مرحلة الابتدائي إلى العالي" فإدراج دروس العبادات في السنوات الأولى يكون للاستئناس بالمادة فقط، أما دروس العقيدة فمن الأجدى أن تقدم دون مفاهيمها العميقة ، "دروس الصفات مثالا". وفيما يلي تمثيل لنموذج التوزيع الوحداتي للمادة: هوامش: 1 صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 2 سورة العنكبوت، الآية 45