تُحاول هذه المقالة توضيح السبل التي انتهجها الدستور المغربي المعدّل سنة 2011، من أجل تنظيم العلاقة بين الملك ومؤسسة البرلمان. فمن المعلوم أن هذا الدستور نص لأول مرة على الصفة البرلمانية لنظام الحكم في المغرب، إذ ورد في الفصل الأول ما يلي: "نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية". وهذا التنصيص يوحي بأن المغرب أضحى ملكية برلمانية، على غرار التجارب الغربية. لكن عند قراءة باقي بنود الدستور سيتضح أن التنصيص على الملكية الدستورية البرلمانية لا يعدو أن يكون مجرد شعار ورَدَ في الفصل الأول من الدستور ثم تتوالى الفصول التي تناقضه. ولأنه سبق أن تناولنا صلاحيات الملك التنفيذية الواسعة في دراسة منشورة (المجلة العربية للعلوم السياسية)، فإن نكتفي في هذه المحاولة بالتطرّق لعلاقة المؤسسة الملكية بالبرلمان، بُغية استكناه مضمون الدستور في هذا السياق. فما هي إذن صلاحيات الملك إزاء السلطة التشريعية؟ وإلى أي حد استطاع التعديل السادس للدستور خلق التوازن بين المؤسسة الملكية ومؤسسة البرلمان؟ إن قراءة متمعّنة للوثيقة الدستورية، من شأنها أن تبرز بوضوح الحضور المؤثر والفاعل للمؤسسة الملكية بخصوص الجانب التشريعي، فالملك هو من يفتتح البرلمان كل سنة ويخاطب الأمة عبره، ولا تتلو خطابه أية مناقشة (ف 52). وللملك أن يطلب قراءة جديدة لكل مقترح أو مشروع قانون معروض على البرلمان (ف 95) وله الحق في طلب تشكيل لجان تقصي الحقائق (ف67)، وإصدار الأمر بتنفيذ القانون خلال الثلاثين يوما التالية لإحالته إلى الحكومة بعد تمام الموافقة عليه. وللملك أن يحلّ مجلسي البرلمان أو أحدهما (ف 51). لكن ما هي الحيثيات المحيطة بالصلاحيات الملكية حيال المؤسسة التشريعية؟ وما انعكاسات ذلك على دور البرلمان المتمثل في الرقابة والتشريع؟ إن الخطاب الذي يوجِّهه الملك خلال افتتاح البرلمان لنواب الشعب، والذي لا تتلوه مناقشة، لا يخلو من دلالات التأثير والتوجيه، لأنه غالبا ما يتضمّن ما يسميه قُرَاء الخُطب الملكية «فلسفة سياسية» أو «مرجعية تشريعية» أو توجيها للبرلمان كي يشتغل على رؤيا معينة أو سياسة ما، ومن تم يُمسي الملك صاحب رأي مؤثر داخل البرلمان،( محمد المعتصم: النظام السياسي الدستوري المغربي) خاصة في ظل في ظل الضعف الحزبي البيّن. وإلى جانب الحضور المؤثر للملك داخل المؤسسة التشريعية من خلال "طقس" افتتاح البرلمان، يُسجَّل أيضا الحضور الملكي الدائم في المسطرة التشريعية، سواء من خلال مشاريع القوانين التي تقترحها الحكومة والتي تمر في مجملها عبر بوابة المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك، أو من خلال طلب قراءة جديدة لمشروع أو مقترح قانون بصرف النظر عن طبيعته. وتجدر الاشارة في السياق هذا، إلى أن الملك حسب الدستور المعدّل، وعلى الرغم من أنه لم يعُد يَملك حق استفتاء الشعب حول مشروع أو مقترح قانون بعد أن يكون المشروع أو الاقتراح قد قُرئ قراءة جديدة كما كان عليه الوضع في الفصل 69 من دستور 1996، إلا أن الدستور الحالي أقرّ مسألة طلب الملك قراءة جديدة لمشروع أو مقترح قانون لم يَنل الموافقة الملكية، وألزم البرلمان بعدم الامتناع عن ذلك، وإن كان تعديل 2011 قد سحب من الملك حق استفتاء الشعب حول نتائج القراءة الجديدة. لكن لابد من تسجيل ملاحظةٍ دالة بخصوص هذه الحيثية، إذ يتعلّق الأمر بكون المشرع الدستوري أعاد التذكير بحق الملك في حل البرلمان في فصل يلي الفصل الذي يُقرّ طلب القراءة الجديدة. وكأنّ بالمشرّع الدستوري يريد أن ينبه البرلمان إلى أنه في حالة رفض مطلب تغيير مضمون نص مشروع القانون، فإن الفصل 96 يَبقى وارد التطبيق. إذ إن هذا الأخير ينص على أن «للمل ...أن يحل بظهير المجلسين معا أو أحدهما». وهو الأمر الذي يُكرَّر للمرة الثانية في الدستور، حيث ورد في الفصل 51 مايلي: «للملك حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما بظهير». وهو ما يطرح التساؤل حول ما فائدة هذا التكرار إذا لم يكن يُراد منه تحذير البرلمان من مغبّة رفض الطلب الملكي بخصوص تعديل مضمون مشاريع ومقترحات القوانين التي لم تنل رضا المؤسسة الملكية. ومن الصلاحيات التي يتمتّع بها الملك تجاه السلطة التشريعية، نَلفي سلطته في المحطة النهائية للتشريع أي من خلال مسطرة الأمر بتنفيذ القانون، حيث يصدر الملك الأمر بتنفيذ القانون خلال الثلاثين يوما التالية لإحالته على الحكومة بعد تمام الموافقة عليه (ف50)، مما يجعل القانون ينطلق من الملك في المجلس الوزاري ويعود إليه في آخر مرحلة ليقرر صلاحية تطبيقه، على أساس أن الدستور الحالي لا ينص على وجوب صدور القانون في حالة عدم موافقة رئيس الدولة أو عدم الرغبة في الأمر بتنفيذه، مما يعني أنه في حالة رفض الملك إصدار الأمر بتنفيذ القانون يكون الأخير في حكم العدم. تبقى أهم ملاحظة يمكن تسجيلها على اختصاصات الملك حيال السلطة التشريعية هي ما يتّصل بسلطة الحل التي يتمتع بها الملك إزّاء البرلمان. فكما سبقت الإشارة إليه، فإن الدستور الجديد ألحّ في أكثر من مناسبة وموقع على أن البرلمان يَبقى تحت سيف الحل المزدوج؛ فإلى جانب إمكانية حل مجلس النواب من قِبل رئيس الحكومة، فإنه يمكن حله أيضا عبر مبادرة من الملك. ولأهمية هذه النقطة فإننا نرتئي التوقّف عندها بشيء من التفصيل والتدقيق والمقارنة. فكما هو معلوم وفي إطار مبدأ فصل السلط، فإن التجارب المقارنة تُميِّز بين نوعين من الفصل فيما يخص مسألتي الحل وسحب الثقة. حيث إن الدساتير التي تتّسِم بالمرونة تترك المجال للتعاون بين السُّلط بدل الفصل بينها، فهي تعطي للرئيس المنتخَب حق حل البرلمان وفي المقابل تكفل للبرلمان سحب الثقة من الرئيس. بينما ترفض دساتير الفصل الصلب بين السلطات أن تجعل لرئيس الدولة أية سلطة على المجالس المنتخَبة، وبالمثل، تَمنع على البرلمان سحب الثقة أو إقالة رئيس الدولة ونموذج ذلك نجده في التجربة الدستورية الأمريكية. أما الدستور المغربي فإنه لم يُرتِّب أي مسؤولية للملك حيال البرلمان أو يجعله في وضع غير مرتاح إذا ما اتخذ قرارا بحل البرلمان. لأن النظام السياسي في المغرب لم يرَ في مبدأ فصل السلط أنه ينطبق على المؤسسة الملكية. وهكذا نجد الدستور يُمتّع الملك بصلاحيات واسعة باعتباره رئيسا للدولة ولا يٌلزِمه في مقابل ذلك بأي من الالتزامات. وهو ما يتعارض ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي جاء في ديباجة الدستور الجديد. فسلاح حل البرلمان يفترض في من يَؤُول إليه أن يكون مسؤولا أمام الشعب مسؤولية انتخابية أو أمام المجلس الذي يتسلّط عليه قرار الحل. لقد منح الدستور المغربي للملك، من خلال ترؤسه للمجلس الوزاري، حق إعلان حالة الحصار وإشهار الحرب دون الرجوع إلى المؤسسة التشريعية حسبما هو مبينٌ في (الفصل49). هذا في الوقت الذي كان يمكن للمشرع الدستوري أن يُشرك البرلمان في مثل هكذا قرارات، لأن مسألة هامة من قبيل إعلان حالة الحرب، أو إشراك الجيش في معارك خارج الحدود، لا يمكن أن تترك للقرارات الرئاسية، وهذا ديدن العديد من الوثائق الدستورية المقارنة، ومنها الدستور التونسي الذي نص على أنه لا يمكن لرئيس الدولة أن يعلن الحرب ويبرم السلم إلا بعد موافقة مجلس النواب، كما لا يمكنه أن يرسل القوات المسلحة إلى الخارج ما لم يوافق على ذلك رئيسي مجلس نواب الشعب والحكومة، على أن يلي ذلك انعقاد مجلس النواب للبث في الأمر من عدمه ( ف 77). بل إن دستور 1962 كان متقدما في هذا المجال، من حيث إنه كان يمنح البرلمان سلطة إشهار الحرب (ف 51) وكذا سلطة الترخيص للحكومة بتمديد حالة الحصار (ف 52). وبخصوص حالة الاستثناء، فإن الفصل 59 من الدستور واضحٌ في إطلاق يد الملك من حيث إعلان حالة الاستثناء دون ربطها بأي قيد أو شرط، عدا تلك اللمسات الشكلية التي وردت في مختلف التعديلات التي طرأت على دستور 1962، من قبيل استشارات غير مُلزمة لرؤساء كل من الحكومة والبرلمان والمحكمة الدستورية. إذ إن الدستور لم ينص على عرض حالة الاستثناء على البرلمان لأخذ رأيه فيها، كما أنه وإن نص على عدم حل البرلمان أثناء حالة الاستثناء إلا أنه بتنصيصه على أن «يُخول الملك بذلك صلاحية اتخاذ الإجراءات، التي يفرضها الدفاع عن الوحدة الترابية»، يكون قد جمّد عمل البرلمان طيلة مدة حالة الاستثناء. لأن الملك خلال حالة الاستثناء تَجتمِع لديه السلط التشريعية والتنفيذية فضلا على أن السلطة القضائية من مشمولاته الأصلية. لكن الإشكال الذي يَمْثُل أمامنا ونحن نتناول مسألة إعلان حالة الاستثناء، هو ما يتعلق بمآل السلطة التشريعية في حالة حل البرلمان من دون الاعلان عن حالة الاستثناء. فإذا كان الملك يتخذ التدابير اللازمة في حالة إعلانه حالة الاستثناء، فإلى من يؤول حق اتخاذ هذه التدابير خلال المدة التي يتم فيها حل البرلمان؟ هامش: لتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع بالمراجع والإحالات، يرجى العودة إلى دراسة كنت ساهمتُ بها في الملف الذي أنجزَته المجلة المغربية للسياسات العمومية، حول البرلمان المغربي بعد 50 سنة. باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة [email protected] https://www.facebook.com/pages/Abderrahim-Alam/399398136753078