جائزة المغرب للكتاب مكسبٌ مهمٌّ للبحث العلمي والإبداع الأدبي. وقد راكمتْ رصيدا مهما يُعتزُّ به، من تاريخ إنشائها إلى الآن. صحيح أنها أثارت في مراحلها الأولى حساسية بعض المرشَّحين من العلماء والمبدعين بسبب الظروف الصعبة التي مَرَّ منها المغرب، وصل إلى حد رفض بعضهم تسلمها (أذكر من الرافضين لتلك الاعتبارات عابد الجابري وعبد القادر الشاوي). وقد صارحني أحد المشرفين على تنظيمها سنة 1990 حين فوجئت بالحصول عليها دون علمي أني مرشح لها أن الوزارة مضطرة للترشيح حتى دون علم المعنيين، لأن الباحثين الجادين غيرُ مقبلين عليها. وأثارت أحيانا قليلة احتجاج بعض المترشحين. أما في هذه السنة فقد علا الدخان فوق المعتاد من عدة جهات، بعضُه وصل إلى الصحافة والبعض الآخر انطوتْ عليه الصدور. وهذا المقال مخصص للمطوي. والذي يظهر لي هو أن بعض الجهات، وبعض الأشخاص، نَسُوا معنى هذه الجائزة وصاروا يتعاملون معها من هموم فئوية أو شخصية، قد لا تكون سيئة النية ولكنها تجافي طبيعة الجائزة والغرض منها، فتراهم يقولون: هذا أقدم، وهذا سبق أن حصل عليها، وهذا عنده تراكم، وهذا أكبر سنا...، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي تجافي طبيعة الجائزة والقانون المنظم لها. ولذلك لزم أن يُعاد التذكير بأمرين أساسيين، هما: طبيعة الجائزة وعملية التحكيم، مع تأكيد حرصنا على ضرورة حفظها وحمايتها، وتدارك الأخطاء التي تعترض سبيلها، وعدم الاستسلام للأصوات التي تريد جعل الأخطاء فرصة للإجهاز عليها ماديا أو معنويا، وما أكثرها هذه الأيام: 1 طبيعة الجائزة. هناك ثلاثة أنواع من الجوائز: جائزة تقديرية، وجائزة تشجيعية، وجائزة الأهلية والاستحقاق العلمي. 1 1 الجائزة التقديرية، وهي ذات طبيعة تكريمية واعتبارية، تُعطي لشخصية علمية أو إبداعية، أو في أي مجال تختاره الجهة المنظمة، وتعطى على مجموع الأعمال والمساهمات. وفي ذاكرتي أن هذه الجائزة مُنحت، في حفل تسليم جائزة المغرب للكتاب سنة 1990، للمرحوم الأستاذ محمد الفاسي. وأعتقد أن مانحها هو الدولة وليس وزارة الثقافة. وليست لها قيمة مادية معلومة. ولو أمكن أن تنظم هذه الجائزة بعيدا عن التجاذبات والأهواء، وتخضع لتحكيم علمي نزيه لا للولاءات، لكان فيها إنصاف لفئات من العلماء والمبدعين في اختصاصات تخضع للتراكم والخبرة والفعل الميداني، من الكاريكاتير إلى والفلك. 1 2 الجائزة التشجيعية، وتمنح للباحثين والمبدعين الشباب عن أعمالهم الأولى مساعدةً لهم في شق الطريق إلى الأمام، ولا يقبل فيها الباحثون والمبدعون الذي أصبحت لهم أسماء في الميدان. وهذا النوع من الجوائز مما ينبغي أن تهتم به وزارة التعليم والبحث العلمي والجمعيات الثقافية، مثل اتحاد الكتاب، وهو يفعل ذلك فعلا في إطار نشر الأعمال الأولى مثلا. 1 2 جائزة الاستحقاق والأهلية العلمية والإبداعية، وتمنح عن عمل علمي أو عدة أعمال متضامنة. وهي تخضع للتحكيم العلمي المتخصص الصارم الذي ينظر في المادة العلمية والإبداعية حسب قواعد الصنعة بعيدا عن الاعتبارات التكريمية والتشجيعية. "اللي عندو الصح إيدوز" ،كما تقول الأغنية الشعبية. وجائزة المغرب تنتمي إلى الشق الأول من هذا النوع الثالث، أي أنها تُمنح لكِتابٍ واحد انسجاما مع اسمها: جائزة المغرب للكتاب. فهي تُمنح للكتاب وليس للمؤلف. ومن هنا لا يجوز أن تؤخذ اسماء المؤلفين بعين الاعتبار، ولا أن تثار عند التداول، ليقال ما نسمعه اليوم: إن لم نعطها لفلان سيكون كذا، وفلان معترف به في كذا، وكتب فلان تدرس في كذا...الخ، وفلان له تراكم وأسبقية. هذه الاعتبارات ستنزع من جائزة المغرب هويتها، أي الانتساب للكتاب، وقيمتها أي الحرص على القيمة العلمية والإبداعية للعمل المرشح في ذاته، فهي ليست كبيرة بقيمتها المادية التي لا تنافس الجوائز العربية الكبرى فعلا من هذه الناحية، ولكنها يمكن أن تنافسها بقيمتها العلمية. فهذه الإمكانية في متناولنا، إن رغبنا في ذلك. من التجاوزات غير القانونية التي تفسد اللُّعبة إقصاءُ بعض الأعمال من المنافسة لكون أصحابها سبق لهم أن نالوا هذه الجائزة، ويزيد الأمر سوءا حين يطبق هذا المبدأ على البعض ولا يطبق على البعض الآخر. والحال أن القانون حاسم في هذا المجال! القانون يعطي الحاصل على الجائزة حق الترشح من جديد بعد مضي مدة معلومة (كانت خمس سنوات ثم صارت ثلاثا). بعد هذه المدة لا يجوز الاعتراض على الأعمال المقدمة بحجة "السابقة". سيقفز أحدُهم بخفة ويقول لي: من أخبرك بأن أحداً خرق يوما هذا المبدأ؟ لسد باب هذا الاعتراض أذكر أن هذا وقع معي شخصيا عند صدور كتابي: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها. فقد بلغني، من داخل الوزراة، أن الكتاب متقاذف بين لجنة الدراسات الأدبية ولجنة العلوم الإنسانية. وفي هذا الظرف التقيت صدفة برئيس اللجنة الأولى، وكان زميلا في شعبة اللغة العربية بالرباط، فاستفسرته عن صحة الخبر وأساس إخراج البلاغة من دائرة النقد والأدب والفنون والعلوم الإنسانية جميعا. فاخبرني مشكورا أنه اطلع على الكتاب، وأتذكر أنه قال بالحرف أن ال "كتاب مؤسس في مجاله، ولكن الجائزة تهتم بالجانب الإبداعي في النقد "، وعندما حاولت مناقشته في الجوهر (ما البلاغة وما النقد وما الإبداع؟) سد باب المناقشة قائلا: "على كل حال لقد سبق لك أن حصلت عليها"! 2 التحكيم القسم الأول من كلام رئيس لجنة الدراسات الأدبية والفنية [" أي قوله: كتاب مؤسس في مجاله، ولكن الجائزة تهتم بالجانب الإبداعي في النقد "] يطرحُ المشكل الأخطر الذي يهدد جائزة المغرب للكتاب، وهو "الإفتاء" ممن لا يملك الأهلية لذلك. ف"البحث" مثل "الإبداع" يعنيان الجدة والإضافة في مجال دقيق، وهذه الجدة والإضافة والآفاق المرصودة لا يعرفها غيرُ المنتجين المكرسين أصحاب الاختصاص والتدقيق، أي الذين أثبتوا أهليتهم بما نشروه من أعمال محكمة معتمد في تخصصها، وليس بالشائعات والكلام الشفوي الذي تذروه الرياح، أو بالمنشورات الصحفية العابرة واحتلال شاشات الفضائيات اعتمادا على العلاقات العامة والمواقع الاجتماعية والحيثيات السياسية. الطريقة المتبعة اليوم في التحكيم لا يمكن أن تحقق التحكيم الموضوعي الدقيق: تجتمع لجنة من خمسة أشخاص، عند نهاية السنة، ويُطلبُ منها أن تُنجز العملَ في ظرف وجيز بسبب إكراهات إدارية وتنظيمية، فَتَبُتُّ في عشراتِ الكتب بطريقة لا تُصدق. والذي يقع دائما هو أن بعض الكتب المعروضة لا تدخل في اختصاص أي عضو من أعضاء اللجنة، فضلا عن أن أكثر أعضاء اللجن غير مؤهلين علميا للحسم في أمور اجتهادية دقيقة. فيقعون في أحد أمرين (وأنا لا اشكك في نزاهة أي عضو): إما إقصاء العمل الذي لا يملكون إمكانية تقويمه، وإما المجازفة بمنحه الجائزة، لأن صاحبه معروف، أو أجاد عملية الماركوتين والترويج التجاري، وذر الرماد في العيون، معلنا عن وعود (سافعل وسأفعل...)، أو محصيا النتائج (فعلت وحققت). وأمامي وقائع (بعضها من جائزة المغرب، وأكثرها من الجوائز العربية) مما وقع فيه المحكمون في فخ هذا الترويج التجاري، استجمع شجاعتي لأعلن موقفي منها مستقبلا لأجر احتسبه عند الله، مهما جلب علي ذلك من نقمة. لقد أدى الخلاف حول جائزة الشعر إلى حجبها، والخلاف طبيعي، والحجب بسببه غير مقبول. الخلاف طبيعي لأن تقويم الشعر الحديث من أعوص العوائص، ويزيد الأمر اعتياصا حين نصير بإزاء مذهبين: مذهب الطبع/ العفوية ومذهب الصنعة، باصطلاح القدماء. فبعض القدماء جعلوا جريرا والبحتري في نفس القمة التي وضعَ فيه آخرون الفرزدق وأبو تمام. ولعل الإخوانَ المحكَّمين، وكانوا في الغالب شعراء، بقوا عند هذه العتبة. تحدثتُ في أحد مهرجانات الشعر عن الأزمنة الشعرية: زمن امرئ القيس، وزمن أبي تمام، وزمن أدونيس. وكان ذلك في إطار المهيمنات البلاغية وليس في إطار المفاضلة، وبعد العرض التقيت بالشاعر مريد البرغوثي الذي استضفتُه في وحدة التواصل بفاس، فقال لي: يا أخي! القمة ليست رأس دبوس؛ لا يتسع لأكثر من شاعر! وكلامه صحيح القمة في الشعر تتسع لأكثر من شاعر في نفس الوقت. بخلاف الشعر يمكن أن نُصدر حُكما مُعللا أكثرَ موضوعيةً بالنسبة للبحث العلمي، وننتظر من المحكمين تعليلا موضوعيا. وبناء عليه أنتظر من الزملاء الذين حكَّموا جائزة الدراسات الأدبية والفنية أن ينشروا تقاريرهم الفردية التي بنوا عليها التقرير العام الذي توجوا به كتاب: التبالغ والتبالغية، كما أطلب من السيد رئيس اللجنة نشر التقرير العام، ونفس الطلب موجه للسيد الوزير. (أو على الأقل موافاتي بهذه التقارير على بريدي الإليكتروني)، فقد قرأت الكتاب المتوج، وتجمعت لدي أسئلة في الجوهر تهم المحكمين. والغرض تطوير النقاش في موضوع التحكيم، ودفع الشبهات. انتظر. إن الخروج من منطقة الحرج والشبهات يتطلب مجموعة من الإجراءات: أولها إبعاد الجائزة عن حرج ضيق الوقت. فلا يمكن بحال تصور قراءة عدد من الكتب التي يتجاوز الواحد منها 400 صفحة، وتتناول أمورا في غاية التعقيد، في شهر. وقد يتجاوز هذا الحرج بتوسيع قاعدة القراء المحكمين. ثانيها، اختيار اللجن التي تمنح الجائزة من أصحاب الاختصاص المكرَّسين بالعمل العلمي المنشور، وتجنب المحاصصة والكائنات الإعلامية المتعددة الاستعمال. مع ضرورة الاستعانة (فيما لا يدخل في اختصاص اللجن، أو ما تختلف فيه) بأصحاب الخبرة الذين يطلب منهم تحكيم العمل بعيدا عن كل الاعتبارات والتجاذبات. وهذا الإجراء يتضمن فيما يتضمنه عدم الاعتماد على الجمعيات السياسية والثقافية والدينية...الخ في تعيين أعضاء اللجن أو الإشراف على العملية. أحسن من ذلك التعامل مع الباحثين في الجامعات والمراكز العلمية، والشخصيات التي خرجت من حلبة الصراع على المواقع والمنافع. فالحمد لله أن العلم لا يقبل الحسم بالتصويت كما قال ياكوبصون. ثالثا، الشفافية، وتبدأ الشفافية عندي بنشر خلاصاتٍ لمداولات اللجن تبين، في حدها الأدنى، الحيثيات التي أهلت عملا ما للحصول على الجائزة. بل لا بأس بالتنويه بالأعمال التي احتلت المراتب المتقدمة، وبيان قيمتها، وجوانبها الإيجابية، فمادامت اللجنة قد بذلت جهدا في القراءة والتقويم، وما دامت الوزارة قد دفعت تعويضا عن ذلك الجهد، فلماذا لا ينشر ليستفيد منه جمهور القراء؟