ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شمس الحرية تقيد الخفافيش
نشر في هسبريس يوم 05 - 03 - 2015

نستنكر نحن المسلمين على الدول الغربية أي قانون تصدره بهدف تقييد حريات المسلمين في بلادها، ونحتج ضد أي إجراء تنتهجه لإقصاء إخواننا عن مراكز القرار، وأي تضييق على علمائنا ودعاتنا وعاداتنا... رغم أن كثيرا من معتقداتنا ومواقفنا مصادم للثقافة الغربية وقيمها.ونستند في استنكارنا واحتجاجنا إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وربما يلجأ بعضنا للمنظمات الإنسانية والحقوقية الغربية للشكوى.
ثم تجدنا، علماء وسياسيين ومثقفين، نرفض الترخيص للأحزاب والمؤسسات لإخواننا في الوطن من العلمانيين واليساريين...، ونجرم أي صوت يخالف معتقداتنا الفرعية قبل الأصلية، بل ويفتي بعض فقهائنا بضرورة معاقبة كل مثقف أو مفكر تسول له نفسه التعبير سلميا عن موقفه المضاد لما نعتبره قيما إسلامية مسلمة.
ونغضب نحن أهل السنة لإخواننا المهمشين المقصيين المضطهدين في دولة إيران، فنتساءل: كيف تلجم الحكومة الإيرانية أصوات الأقلية السنية؟ ولماذا تمنع أهل طائفتنا من المناصب السياسية والعسكرية؟ وما السبب في عدم وجود مسجد سني في العاصمة طهران؟ ولم لا تسمح للسنة بتأسيس جمعية أو حزب سياسي؟...نستهجن ذلك ونستنكره خصوصا وأن إيران تدعي كذبا وزورا أنها "جمهورية إسلامية".
وتتعالى أصوات علمائنا ومثقفينا الغاضبة على إيران لسياساتها اللاإسلامية واللاإنسانية ضد أهل السنة، رغم أن موروثنا يكفر الشيعة أو يحكم عليهم بالضلال وفساد المعتقد، وأننا ننتهج المسلك نفسه ضد الشيعة والمتشيعين في غالب الأحوال.فلماذا التناقض في مواقفنا الفقهية والسياسية والاجتماعية؟ولماذا نعيب على غيرنا ما نحن غارقون فيه حتى النخاع؟
حرية الفكر والكفر شريعة ربانية:
دعونا من أقوال وآراء علمائنا المتقدمين، الداعية إلى إقصاء واضطهاد المفكرين المسلمين المخالفين لاختيارات الجمهور، تحت عنوان محاربة أهل البدع وحماية عقيدة العامة. فقد كانت تلك الأقوال والمواقف نابعة من أحد هذه الأسباب:
الأول: نشوة القوة والتمكين:
كان سلفنا أهل السنة أقوياء أيام الأمويين والعباسيين، وبفعل ذلك سكرت غالب عقول علمائنا، فصاروا يفتون بضرورة محاصرة كل فكرة تشذ عن المقرر عندهم، ويجرمون كل دعوى تخالف مذاهبهم في العقيدة والفروع، ويستحلون أي اضطهاد أو تشريد ينزله الحكام بمن يصفونهم بالمبتدعة كالشيعة والمعتزلة، متناسين أنهم يمقتون ويجرمون ما فعله مشركو مكة بالمسلمين قبل الهجرة.
ويتكرر المشهد اليوم، فيستنكر علماؤنا أي أذى يلحق المسلمين في بلاد غيرهم، ويطالبون بالحرية لإخوانهم، ثم يضطهدون بفتاواهم كل صوت حر، بل ويستمتعون إذا أنزلت حكوماتنا أي عقاب معنوي أو مادي بلبرالي أو يساري أو شيعي، على الرغم من أن حكوماتنا تفعل ذلك حفظا للأنظمة لا للدين والقيم.
الثاني: إرضاء هوى الحكام:
كان بعض المعارضين السياسيين للأمويين ثم العباسيين ينتحلون آراء غير السنة، فكان الحكام يركبون ذلك مطية للتخلص من الأصوات المشوشة عليهم، بل ويستغلون ذلك لإثبات حرصهم المزيف على دين الأمة، ويرسخون مشروعيتهم لدى الجماهير.وكان علماء القصور وديدان القراء يتزلفون إلى الحاكمين، فيفتون لهم بضلال المعارضين، ويحرضونهم على التنكيل بهم باسم الدين، وهم كاذبون خداعون.
إن الأمثلة على هذا كثيرة في تاريخنا، نحن معشر السنة، يعرفها المشتغلون بالحديث وتراجم الرجال وعلم الكلام، ولا ينكرها إلا من يقدس الهوى المذهبي.وما عليك، إن كنت شاكا أو مكذبا، إلا أن تنظر تراجم الأئمة سعيد بن جبير التابعي، والنسائي صاحب السنن، وابن جرير الطبري المفسر، وابن حزم الأندلسي وابن تيمية...
والحال نفسه يتكرر في عصرنا، فكم من مفكر مسلم حر تم تكفيره أو تضليله وتبديعه، ودعا بلهاء العلماء إلى تهميشه وزجره، وعارض "الأساتذة" الجامعيون حصوله على الدكتوراة، واكتفى "المعتدلون جدا" بالتحذير من كتبه ومحاضراته، لأنه أفتى بجواز الغناء والموسيقى الخالي من الفحش، أو أباح للمسلمين المهاجرين اقتناء السكن بواسطة القروض البنكية، أو صاح بين العاطفيين النائمين أن سيدنا آدم ليس أول بشر...
الثالث: ردود الأفعال الرعناء:
كان أهل الفرق والنحل التي وصفها جمهور علماء السنة بالضلال، واضطهادها من قبل حكامهم، إذا سنحت لها فرصة تاريخية، فأقامت دويلة لها، أو سيطرت على ناحية من بلاد المسلمين، تنتقم من أهل السنة علماء وعامة، فتشردهم وتبيدهم أو تكتفي بفرض نحلتها عليهم بكل قسوة، تفعل تماما كما فعل سلفنا المنحرف بسلفها.
ثم لا ينتبه عقلاء علمائنا إلى أن البادئ إلى الظلم والاضطهاد هو المسئول عن إصلاح مسار الأمة، وإيقاف نزيف دماء أبنائها مهما اختلفت معتقداتهم، بل يقومون بردود أفعال طائشة، فيكفرون أتباع الفرقة المنتقمة، ويقرون فساد أصولها ومنطلقاتها ولو كان بعضها حقا، ويحرضون الحاكمين على الانتقام، فتتسلسل الويلات في الأمة جيلا بعد جيل.وهذا ما تنتهجه الأمة المريضة التالفة اليوم، بسبب انحراف جمهور علمائها ومثقفيها فضلا عن سياسييها عن الإسلام الحق.فالشيعة ينتقمون في إيران وسوريا والعراق واليمن من إخوانهم السنة، حيث يحملونهم وزر ما لحق أسلافهم على أيدي الأمويين والعباسيين والعثمانيين.وشباب السنة يقومون بردود أفعال طائشة هنا أو هناك.
وعلماؤنا يمعنون في تقليد أقوال السلف الخاصة بزمانهم وأحوالهم، البعيدة عن روح القرآن والسنة، فيكفرون الشيعة وينعتونهم بأبناء الزنا، ويؤكدون بدون خوف أو حياء من الله أن الإيرانيين مجوس أنجاس، وهم يقولون كما نقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويستقبلون قبلتنا، ويحفظون ويقرؤون كتابنا...
إن الأمة في عمومها سنية، وإذا لم تعمل طائفتنا على وقف الحرب بيننا وبين الشيعة، ولم يعترف علماؤنا بحق الشيعة في التعبير والحياة بيننا، فإن رحمة الله بهذه الأمة تبقى معلقة بين السماء والأرض لا محالة.ولست أعني هنا أن يستسلم الشعب السوري لإجرام نظام بشار وحليفه إيران، فالشعب السوري مظلوم محتل، على الجميع أن يدعمه بما تسمح به القوانين والأعراف الكونية حتى يتحرر من النظام القاتل، ويفشل مخطط ساسة إيران في السيطرة على غير أرضها.وإنما أعني أن لا يكون إجرام ساسة إيران وحلفائها دافعا لتكفير الشيعة، ووسيلة لاضطهادهم في البلاد التي يحكمها السنة.
كما أعني أن الصلح مع إيران، بعد طردها من سوريا والعراق وغيرهما، أمر لا مفر منه، فشعبها مسلم جزء من أمة محمد، ومشكلتنا مع سياستها ونهجها العدواني.ونحن السنة إذا توحدنا فيما بيننا، وتجاوزنا خطايانا وأخطاءنا في كل المجالات، قادرون على تهذيب ساسة إيران وضبط غلوائهم، فنحن الأخ الأكبر الأقوى أحبت إيران أم كرهت.
عودة إلى الشريعة الربانية:
قلت: دعونا من الماضي وما سطره علماؤه علماؤنا، وتعالوا نتساءل: ما موقف كتاب ربنا وسنة نبينا من حرية الفكر والكفر ما لم يتحول إلى عنف ضد المسلمين، وما التزم أصحابه بقوانين الدولة المسلمة؟
إن المسلم المهاجر في ديار الغرب، يعبر عن معتقداته بحرية تامة، لكنه لا يتزوج امرأتين هناك، لأن القانون المنظم للمجتمع يمنع، فيجمع المسلم بين حرية التفكير واحترام قانون البلد.فهل يسمح القرآن الكريم والسنة الشريفة للشيعي في بلادنا السنية أن يصرح بمواقفه ومكنونات قلبه، ويمارس عبادته وفق مذهبه، دون أن يلعن رموزنا من الصحابة؟وهل يسمحان للعلماني واليساري والملحد أن يشعروا بالحرية الفكرية، مع التزام القانون المستمد من الشريعة، فلا يعلنون الزنا مثلا، ولا يؤذوننا في مقدساتنا لأن ذلك جريمة اجتماعية وليس حرية شخصية؟سيقول الفقه المتعصب المقلد للموروث التاريخي: لا يسمحان بشيء من ذلك.
أما نحن فنقول: إن حرية الفكر والكفر هي الأصل في كتاب ربنا وسنة نبينا:
قال الله تعالى في كتابه المحكم: (لا إكراه في الدين)، أي لا يجوز إكراه أحد على اعتناق الإسلام.وقال سبحانه معلما رسوله والمسلمين من بعدهم أن يقولوا لغيرهم، معلنين مسالمة الكافرين واحترام اختيارهم: (لكم دينكم ولي دين).أي استمروا على دينكم الكافر إذا لم تتقبل عقولكم ديننا، ولتكن العلاقة بيننا وبينكم مؤسسة على الاحترام المتبادل، والعيش المشترك في وطن واحد من غير ظلم ولا إقصاء.
وقال سبحانه في سورة "ق" مؤكدا المعنى نفسه:
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ، وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) أي أن الله يعلم ما يقوله المشركون من كفر وإلحاد، لكنك لست حقيقا بمنعهم والسيطرة على قلوبهم وعقولهم، إنما مهمتك أن تدعو وتنصح بالحكمة والموعظة الحسنة.
ثم أعلنها ربنا مدوية في سورة الكهف، لكن المسلمين اليوم لا يريدون السماع، فقال: ( وَقُلِ الْحَق مِن ربِّكُمْ، فَمَن شَاء فليومن، وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ، إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ...) إنه إعلان كوني معناه: أيها البشر، أنتم أحرار في اختيار العقائد والأفكار، ولو كفرتم بي فلن أعاقبكم في الدنيا، ولن أسمح لأحد أن يكرهكم على دينه ولو كان نبيا، واعلموا أنني أجلت حسابكم وعقابكم إلى الآخرة.
هذا بخصوص الكافرين من المشركين والملحدين، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى ونحوهم كالصابئة، فحريتهم في الكفر والفكر قضية مسلمة عند علمائنا قديما وحديثا، فلا نطيل بذكر الآيات المقررة لها. ولسنا بحاجة إلى من يعلمنا تفسير كلام ربنا الواضح فيما ذكرنا من آيات، ولا جاهلين بأقوال علمائنا في مثلها. فكل فهم يناقض ما قلناه، فيدعي أن المشركين والوثنيين والملحدين ليسوا أحرارا في بلاد الإسلام، هو فهم راجع إلى سكرة سلفنا بقوتهم، ثم تقليد من تأخر لمن تقدم.
إن هذا التصور الساذج لبعض الفقهاء والدعاة يرهب المحكومين قبل الحكام، ويفزع عامة المسلمين قبل العلمانيين، ويجعل الجميع يتخندق ضد الحكم الإسلامي.وهذا التصور كان سائدا في أدبيات غالب الإسلاميين إلى عهد قريب بفعل ردود الأفعال والصراع الأيديولوجي مع الطبقات المغربة تفكيرا وسلوكا. واليوم نضج الإسلاميون، وأصبحوا واقعيين إلى حد كبير، وصاروا يدلون بتصريحات مطمئنة، تسندها تجربتهم في تركيا. وإن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها زمن النبوة والخلافة الراشدة.
لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام بالمدينة بعد الهجرة إليها مباشرة، وظل يسوسها عشرة أعوام وسط أعداء كثر من العرب والعجم، ونجح في بسط مشروعه الرباني وتوحيد قبائل العرب، لأن نظام حكمه كان يتأسس على الحرية واحترام قناعات الناس. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمح لقبائل المشركين بالحج والعمرة في السنتين الثامنة والتاسعة وفق طقوسهم الشركية المصادمة للتوحيد المأمور به منذ بداية النبوة. وكان نساء بعض تلك القبائل تطفن عاريات، فسمح لهن بذلك رغم وجود المسلمين إلى جانبهن. ولم يمنع المشركون من الحج إلا في السنة العاشرة بعد أن أسلمت جل قبائل العرب.
وكان المواطنون في دولة الإسلام على عهد النبوة خليطا متنوعا كما يصور هذا الحديث الصحيح:
روى البخاري عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا! فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا. ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ. قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، لَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِك،َ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ! فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى.
فمكونات الدولة الإسلامية حسب هذه الوثيقة وغيرها كانت كالآتي:
المسلمون: وهم الصحابة من المهاجرين والأنصار.
المنافقون: بعضهم من أهل المدينة وغالبهم من الأعراب، وهم مسلمون في الظاهر كافرون في الباطن، لكنهم يلتزمون بالنظام العام للدولة الإسلامية، ولا يمارسون أي تهديد مسلح لها، لذلك كان النبي وصحابته يعاملونهم على أنهم مسلمون، فيشركونهم معهم في الجهاد والمهام الأخرى، ويعطونهم نصيبهم من الغنائم وإن صدر من بعضهم سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأس المنافقين.
وقد أسلم من بقي منهم إلى زمن الصديق والفاروق، وحسن إسلامهم نتيجة رفق الإسلام وحكمة المسلمين.
المشركون: وهم قلة من أهل المدينة، لم يسلموا ولم ينافقوا، ومعهم بعض القبائل العربية المجاورة للمدينة، وهؤلاء لم يشكلوا أي تهديد للمسلمين، بل كانوا يحترمون النظام العام، ويدافعون مع المسلمين عن المدينة من باب العصبية، لذلك ظلوا يقيمون بها ويمارسون حياتهم ومعتقداتهم بحرية، وكان بينهم وبين المسلمين احترام وصلات اجتماعية قوية كما ترى في الحديث المتقدم.
وبعد فتح مكة والطائف وإسلام غالب أهلهما، سمح المسلمون للمشركين منهم بالإقامة في الدولة الإسلامية من غير إكراههم على الدخول في الإسلام، ومن غير منعهم من ممارسة عباداتهم الوثنية داخل بيوتهم.أهل الكتاب: وهم يهود المدينة ونصارى نجران وغيرهم، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة معاهدة تدل بنودها على أنهم جزء من الدولة الإسلامية، مع ضمان حريتهم الدينية، لكنهم نقضوا العهد فاستحقوا الجلاء.وأما النجرانيون فظلوا مواطنين أحرارا في ظل الحكم الإسلامي إلى أن دخل بعضهم الإسلام طواعية.
وانطلاقا مما ذكرنا، ندرك أن دولة الإسلام السني الحقيقي لا تقصي أصحاب التيار العلماني السلميين، بل ستعاملهم معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين، لأن العلمانيين لا يصرحون بالكفر بل يصرون على أنهم مسلمون.ولست أنعت هنا العلمانيين بالمنافقين، بل أشبه بينهم فقط في المعاملة.
وأما المصرحون بالإلحاد والكفر من غير أهل الكتاب، فدولة الإسلام السني الحق تنهج معهم أسلوب النبوة في التعامل مع مشركي المدينة الملتزمين بالنظام العام، فتكفل لهم حق التعبير عن أفكارهم ما لم يقترن بالتهجم على تعاليم الإسلام، ولن تكرههم على اعتناق تلك التعاليم، ولن تطبق عليهم حكم الردة لأنهم اختاروا الإلحاد في غياب الحكم الإسلامي وما صاحبه من جهل، ولن تمنعهم من طقوسهم ما لم يجهروا بها فيستفزوا الأغلبية المسلمة.
ومع الزمن سيضعف العلمانيون والملحدون بفعل انحسار شعبيتهم ويندثرون، وسيتراجع غالبهم ويرجعون إلى دين الأمة طواعية، ولن يتحقق ذلك إلا في ظل الحرية.وللحقيقة والتاريخ، يعتبر انحياز معظم الفقهاء إلى حكام العض والجبر، خلال القرن الماضي، من أهم العوامل التي شجعت كثيرا من المثقفين على بغض الدين ومعاداته، فهم معذورون بالشبهة على الأقل.
وبخصوص الشيعة وأمثالهم كالقرآنيين والمعتزلة الجدد، فدولة الإسلام السني ينبغي أن تضمن لهم حريتهم الفكرية والسياسية كما ضمنها سيدنا علي للخوارج قبل حمل السلاح ضده، ويجب التعامل معهم على أساس أنهم مواطنون مسلمون، فلهم ما للسنة من حقوق، وعليهم ما على السنة من واجبات، وليكن منهاج رسول الله في التعامل مع المسلمين الأعراب قدوة في معاملة الدولة السنية للأقليات المذهبية.
الحرية للجميع ضمان الاستقرار:
إننا ننادي بالحرية الفكرية لجميع مكونات الوطن، إسلاميين وعلمانيين، صوفية وسلفيين، سنة ومتشيعين...ونعتقد جازمين أن الحرية، المقرونة بالاحترام المتبادل، مدخل للعيش المشترك في أي بلد مسلم.وإذا كان ضوء الشمس يقيد حركة طيور الليل خفافيش الظلام فإن حرية الفكر والتعبير عن القناعات، هو النور الذي يجنب الأوطان إنتاج الحركات الفكرية السرية المنغلقة، والتي يمكن أن تتحول إلى منظمات متطرفة فكرا وسلوكا بفعل الضغط والإقصاء والكبت.وإذا كنا نؤمن أن معتقداتنا سليمة متينة، فليكن نورها الوهاج كفيلا بالتعمية الرفيقة على أشعة أفكار مخالفينا.
ولنتذكر أن الله كان ولا يزال قادرا على أن تكون البشرية أمة واحدة في المعتقد الصحيح، لكنه شاء أن لا يفرض عليها ذلك، وأوكل إليها أن تختار بين الوحدة والفرقة.كما أنه سبحانه لم يجبر المسلمين على أن يكونوا كلهم سنة.ولنتأمل هذا الطرح بقلوب حية وعقول صفية:
في المذهب السني حق كثير وباطل يسير، وفي المذاهب الأخرى، من تشيع واعتزال، ما يرفع ذلك الباطل ويدمغه، فهل نحن السنة مستعدون أن نسترجع ما ضاع عبر مسيرتنا التاريخية من حق، فتتجدد الآمال لبناء لحمة الأمة من جديد؟
- خريج دار الحديث الحسنية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.