يقول الشّاعر المكسيكي " أرتيغيز" عن هذه الفراشات :" تنتقل فى سريّة ولطف، من غصنٍ إلى غصن آخر،ومن شجرةٍ إلى شجرة أخرى،تتدفّق كالبراعم النباتيّة المتلألئة ،تنتشر كسَجادٍ مُزركش على بساط الثّرى،وتنجد الأشجار،وتختلط بأوراقها، فيصعب على الناظر إليها التمييز بين هذه وتلك،كما يصفها هذا الشاعر نفسه بأنها: " نِمْر ذو جناحين،يمزّق الفضاءَ فى عزّ النهار" ! . تَنْتَشِرُ كَسَجَّادٍ مُزَرْكَشٍ عَلىَ بِسَاطِ الثّرىَ تُعتبرهذه المخلوقات الهشّة من الظواهر الغريبة التي تعرفها المكسيك كلّ عام إبتداءً من شّهر ديسمبرإلى أواخرأبريل والتي تبعث على التساؤل والحيرة والدّهشة والإعجاب،إنها تتمثّل فى وصول أسراب كثيفة من الفراشات التي يُطلق عليه أهلُ المكسيك إسمَ (العاهلات) و(فاتنات الفضاء) لجمالها الخلاّب،تأتي لتحطّ على قمم الجبال ، وأغصان الأشجار،والمرتفعات، والآكام المجاورة المحيطة بمدينة مكسيكو، بعد أن تكون قد قطعت مسافاتٍ طويلةً فى تحليقها قادمةً من غابات كندا، والولايات المتحدةالامريكية ،إنها تبرح مناطق إقامتها الأصلية ،وتقطع ما ينيف على خمسة آلاف كيلومتر بدون هادٍ ،تقودها فقط فى تحليقها فى الفضاء اللاّمتناهي غريزةٌ طبيعيّة غامضة، معدّل طيرانها ستّ ساعات فى اليوم. ويشير الباحث المكسيكي "خينارو كوريينا بيريث" أن الرّحلة تستغرق شهراً ونصف الشّهر بسرعة تتراوح بين 15 و45 كيلومتر فى السّاعة معتمدة على الريّاح فى تحرّكها وهي تطير فى إتجاه موقع الشمس. وهكذا قامت أجيال تلو أجيال، وملايين الملايين من هذه المخلوقات الهشّة الضعيفة بتكوين أسراب كثيفة تملأ الفضاء، وتخفي شعاعّ الشمس ،وتغطي السماءّ التي يغدو لونها مائلاً إلى اللون البرتقالي ،وعندما يشتدّ البرد أو تقوى الريّاح فى تحرّكاتها ، ترتاح فى الغابات التي تجدها فى طريقها ،ثمّ تواصل تحليقها فى الصّباح الباكرمن جديد ،وتجد هذه الفراشات فى المكسيك الظروف الطبيعية الملائمة للإخصاب والإنجاب ولتعيش عمرها القصير، حيث تكثر الشلاّلات ذات المياه الصّافية البلّورية ،وحيث يوجد العديد من أنواع الزّهور ذات الرّحيق الشهيّ بالنسبة لها، وأهمّ من هذا كلّه تجد الهدوءَ التام الذي يخيّم على المناطق التي تنتشر فيها من السّهول، والمراعي، والجداول ،والغابات التي تحلّ بها فى المكسيك. منذ250 ألف سنة لم تخلف الموعد لقد وُجدت هذه الفراشات العاهلات فى غابات المكسيك مستقرّاً آمناً،ومنتجعاً هادئاً لسكناها المؤقّت، حيث يتوفّر لها جوّ مناسب للإنجاب والتوالد،ثمّ يعود أبناؤها أو صغارها إلى غابات الشمال الباردة مرّة أخرى بعد إنصرام "خمسة أشهر عسل"على الأقل على هجرتها الغرامية ،فالفراشات التي تولد هنا تعود لأماكن إنطلاق أمّهاتها الأولى ،والعكس صحيح،وهذا من غرائب وعجائب الطبيعة حقّاً. ويؤكّد علماء الطبيعة أنّ هذه الفراشات لم تتخلف قطّ عن موعدها منذ 250 ألف سنة خلت،فقد عُثر على رسومات لها قديمة فى مختلف المناطق المجاورة لمكان تجمّعها،كما أنها إحتلّت منزلة مهمة فى الحضارات المكسيكية القديمة، كما سنرى بعد قليل ،وعلى الرّغم من الدراسات العديدة التي كُتبت عنها حتى اليوم فإنّ هذه الفراشات ما زالت تعتبر لغزاً مُحيّراً فى نظر علماء الطبيعة والأحياء، وما زال هؤلاء العلماء ومعهم عامّة الناس يطرحون سيلاً من الأسئلة حول هذه المخلوقات الضوئية الهشّة والشفافة ،فهي كيف تطير؟ وكيف تصل إلى نفس المكان الذي حضرت إليه أفواج من أسلافها؟ ولماذا إختارت المكسيك بالذات؟ فلو كانت تفرّ من صقيع برد الشمال كان بإمكانها أن تجد الدفءَ فى أماكن أخرى أقرب من أمكنة تواجدها الاصلية؟! وقد أصبح مكان تجمّعها فى المكسيك محجّاً للفضوليين، والمتطلعين إلى معرفة أسرار الطبيعة وتأمّل ألغازها،وعاشقي الجمال. إنها تبدأ رحلتها فى فصل الخريف، عندما تشعر بدنوّ البرد حيث تجتمع زرافات، زرافات ،ثمّ تنطلق فى رحلتها الطويلة الشاقة المحفوفة بالعديد من الأخطار والأهوال وسط هبوب التوابع والزوابع ،والعواصف الشديدة وهطول الأمطار الغزيرة ،لذا فإنها لا تصل جميعها إلى غاياتها، إلاّ أنّ التي تصل تقع عليها مسؤولية التكاثر للمحافظة على الصّنف لتعويض تلك التي وهنت، وتعبت، وماتت فى الطريق. بساطٌ متعدّدُ الألوان تراها على الأرض، والأشجار، والفضاء عندما تصل هذه الفراشات إلى غابات " ميشوكان" المكسيكية وهي منطقة تمتدّ على مساحة 16000 هكتار، قد تحطّ خمسة آلاف فراشة على غصن أو فرع من أغصان أوفروع الأشجار،كلّ واحدة من هذه الفراشات تزن ما يقرب من 6غرامات ، عندئذ يسقط الغصنُ مهزوماً، مُزوّرّاً إلى أسفل. وعندما يصل فصل الرّبيع تبدأ الفراشات الجديدة رحلةَ العودة، أيّ أنّها تقطع من جديد مسافةَ خمسة آلاف كيلومتر أخرى لتواصل دورتها الطبيعية المستمرة،إنها تولد فى مكان مّا ، وتعود لآخر،وتتوالد هنا دون أن تعرف الطريق من قبل،دون إستشارة أيّ خريطة، وبدون تخطيط مسبّق ،إنّها لا تخطئ الطريق أبداً،وهي تعرف بالغريزة ماذا تفعل ولماذا تفعل ذلك،والوِجهة التي عليها أن تنطلق نحوها، فتلك التي تصل إلى كندا هي حفيدات تلك التي خرجت ذات يوم منها فى فصلٍ من فصول الخريف فى إتجاه هذا المكان السّاحر المسحور فى المكسيك. الفراشات فى الحضارات المكسيكيّة القديمة عندما كان الأزتيك يقدّمون أنفسهم عن طواعية قرباناً لرمزهم الذي كان حسب الاساطير يقتلع قلوبهم ،كانوا يعتقدون أنهم بذلك إنما يدخلون فى "مملكة الشمس"حيث تتحوّل أرواحُهم إلى فراشة،وكان الأزتيك يُطلقون على الفراشة "روح الموتى"أو " بابالوتل" حسب لغتهم ،وكانت الفراشة عندهم تحظى بإحترام خاص، فقد كانوا يعتقدون أنها محمّلة بأرواح المحاربين الذين سقطوا فى ساحة الوغى.وكانت الفراشة بالنسبة لقدماء المكسيكيين السابقين للأزتيك تعنى عندهم رمزاً للرّوح والنار. كما كانت هذه الحشرة تعتبر عنصراً هامّاً فى أساطيرهم، ومعتقداتهم، وتكهّناتهم ،وكان العلماء السّابقون للوجود الإسباني يرسمون ما يسمّى عندهم "ناوييلين" (فصول السنة الأربعة) فى شكل هذه الحشرة،وكان إسمها فى لغة الهنود القدامى "بابالوتل"وقد إستُعمل هذا الإسم كذلك للدّلالة على الأماكن التي كانت تتكاثر فيها الفراشات مثل وادي الفراشات، أو حقل الفراشات، أو جبل الفراشات ،وقد عُثر على رسومات عديدة لها فى قصور الحكّام، والأباطرة،بل لقد إقترن إسم أو صورة آلهتهم الأسطورية بهذه الحشرات الطائرة الجميلة،كما أنّ هناك رسومات لمخلوقات آدمية لها أجنحة الفراشات ،وقد عُثر على هذه الرّسومات فى الأراضي، وفي جدران المعابد،كما كانت الفراشة تُعتبر عندهم رمزاً للحبّ والجمال،وكانت كذلك رمز "شوسيملكاس" أيّ سيّدة الأزهار، وراعية النباتات التي تذكّرنا بمدينة "سوشيميلكو" مدينة الزّهور (بندقيّة المكسيك، التي لنا عودة إليها قريباً فى مقال خاص بحول الله)،وكانت تعني عندهم كذلك رمز أمّ التضحيات والحروب،كما كانت تجسّد الصلة الرّوحية بين الأرض والقمر،،وكان بعض أبطالهم يرسمون الفراشات على صدورهم، وعلى التقويم الأزتيكي المشهور بدقّته،الذي كتب عنه أكتافيو باث(جائزة نوبل فى الآداب) مطوّلته الشّعرية الشهيرة "حجر الشمس" ** كانت الفراشة ترمز عند قدماء المكسيكييّن إلى النّار كذلك ، وقد وجدت بهذا المعنى فى العديد من الأواني والرّسومات الحائطية القديمة ،كما كان المكسيكيّون القدامى يصنعون الحليّ ،ويصيغون الذهب،على أشكال الفراشات ،وكانوا يعدّون نوعاً من الخبز يقدّم فى مناسبات دينية معيّنة على أشكالها ،هذا فضلاً عن ظهور أنواع شتّى من الفراشات خاصّةً العاهلات منها فى أنسجتهم، وزرابيهم، وسجاجيدهم وأرديتهم القديمة. إكتشاف السرّ والغريب أنه حتى ولو عرف قدماءُ المكسيكيين هذا النّوع من الفراشات منذ آلاف السنين فقد ظلّ لغزها أو سرّها خفيّاً على البشرية حتى تاريخ قريب،و لا تخلو قصّة هذا الإكتشاف من طرافة وإثارة، فقد وضع الدكتور "فريد أوكوارت"-عندما لاحظ أن هذه الفراشات تهاجر عاماً بعد عام- وضع على بعضها رقعة صغيرة جدّاً مكتوباً عليها :" إذا عثرتَ على هذه الفراشة فأرجو أن تكاتبني بشأنها"ووضع عنوانَه على البطاقة ،ووصلته ذات يوم رسالة من مواطن مكسيكي كتب إليه فيها يخبره بأنّه عثر على العديد منها،وأنه ليست هذه هي أوّل مرّة يعثر فيها على هذا النوع من الفراشات. وهكذا بعد عشرين سنة من البحث المتواصل عرف العالمُ أين تُشتي هذه الفراشات بعد خروجها من أماكن تجمّعها الأصليّة ،وكان ذلك عام 1976، ويجري اليوم تعاون وثيق بين الحكومتين المكسيكية والكندية،وإنضمّت إليهما الحكومة الأمريكية مؤخراً لإنجاز برامج، ودراسات مشتركة للحفاظ على هذا النّوع من الفراشات المهاجرة، ويقوم فى الوقت الرّاهن العديد من علماء الأحياء فى هذه البلدان بإجراء تجارب، وبحوث علمية ميدانية معمّقة حول هذه الظاهرة الطبيعية الغريبة. وفى 23 أغسطس1986أصدرت الحكومة المكسيكية قراراً يَعتبر الأماكنَ التي تنزل فيها هذه الفراشات "مناطق إيكولوجيّة إحتياطيّة محميّة" كما وَضعت السلطات المكسيكية علامات وإشارات فى الطريق المؤدّية إلى أماكن تجمّعها لمشاهدة هذه المعجزة الطبيعية المحيّرة ، حيث وُضعت إعلانات، وعلامات، ولافتات تنصح وتُوصي بالخطو البطيئ ،والتحدّث بصوتٍ منخفض ،وعدم التصفير ،كما وُضعت إشارات أخرى تنصح بأنّ أحسنَ الأوقات لمشاهدة الفراشات هو فى الصّباح الباكر، أو عند المساء عندما تهبط من سفوح الجبال لتشرب الماء ثم تصعد للإستراحة،بل هناك علامات خاصّة بالسيارات التي تمرّ بالقرب من مكان وجودها ،وتنصح هذه العلامات بالتقليل من سرعتها قدر الإمكان ، بل هناك علامات لتحديد السّرعة فى أدنى مستوياتها،وكيف يمكن للزوّار أن يمتطوا خيولاً مدرّبة تمشي هي الأخرى بتؤدة وتأنٍّ، وهدوء حتى تدنو من هذه الأزهار الطائرة ذات الألوان المُشعّة اللمّاعة،التي تقدّم إلى جانب إخضرار أوراق الأشجار، وزرقة السّماء، وإنسياب المياه،منظراً طبيعيّاً آسراً،وجميلاً،أو تقدّم للزائر أو للناظر لوحةً فريدةً غايةً فى الإتقان، والروعة، والرّونق، والجمال،إلاّ أنّ هذه اللوحة لا يمكن أن تكون سوى من صُنع الله عزّ وجلّ، وكلّ ما أنقله للقارئ الكريم فى هذا المقال من أخبار، ووقائع،وحقائق، ومناظر حول هذا الموضوع هي بناءً على تجارب فعلية، ومعايشات واقعية فى عين المكان، إذ عاينتُ بنفسي معاينةً ميدانية عن قربٍ شديد طقوسَ، ومراسيمَ زيارة منتجعات، ومراتع هذه الفراشات خلال عملي وإقامتي فى المكسيك منذ سنواتٍ خلت . مُلْهِمة الشّعراء والفنّانين وقد أوحت هذه الفراشات للعديد من الشّعراء، والفنّانين، والرسّامين فى إبداعتهم المختلفة، كلّ فى مجال تخصّصه، وقد نُظمت قصائد جميلة حولها، ورُسمت لوحات ورسومات رائعة لها، ولمحيطها، ولطقوس عيشها وتكاثرها ، وقد ترجم هؤلاء الفنانون ما كان يدور فى خلدهم عند مشاهدتهم لهذ المخلوقات النورانية الشفيفة وما اثارته فيهم من تساؤلات، وحيرة، واعجاب ، كما كتب العديدُ من الكتّاب، والشّعراء عن هذه الظاهرة سواء فى وصف جمالها، أو عن محاولة حلّ ألغازها، أوالتنبيه لبعض الأخطار التي تحدّق بها، إذ انّ النيران التي تشبّ فى بعض الأحيان، تلتهم بين الفينة والأخرى بعض المناطق الغابوية القريبة من أماكن تجمّعها ممّا يجعل هذه "الأوراق، أو اليرقات" الضوئيّة الحالمة ،التي سرعان ما تنسلخ، فتصير فَراشات تملأ الفضاء اللاّمتناهي الفسيح عرضةً للمخاطر فى ملجئها، وملاذها ،أو مراتعها التي تأوي إليها منذ آلاف السنين ،وهكذا فى إنتظار عودتها إلى الشمال لإستكمال دورتها الطبيعية المحتومة ،وما فتئت هذه الفراشات حتى اليوم تجد فى المكسيك مكانها الأثير لإحياء مراسيم التكاثر وسط طقوس،وغرائز رائعة، طبيعيّة، عفوية، فطريّة تدلّ على عظمة الخالق، الذي خلق هذا الكونَ فى أجمل صورة،وأحسن تكوين . *عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - (كولومبيا) . ** هذه القصيدة المطوّلة نقلناها إلى العربية منذ سنوات،عن الإسبانية وهي مُدرجة فى كتابي ( أنطلوجيا الشّعر الأمريكي المعاصر"حجر الشمس وثلاثون قصيدة أخرى من الشّعر الأمريكي اللاّتيني المعاصر( الصّادر عام 2001 عن المجلس الأعلى للثقافة – المشروع القومي للترجمة - القاهرة).