كتبت في قليل الأيام السالفة، مقالا على صفحات جريدة هسبريس الغراء، والتي نتمنى لها المزيد من التألق والازدهار، كمنبر إعلامي ينشر الثقافة والمعرفة، ويتيح فضاءات ملائمة للنقاش الحر والمسؤول، وُسِمَ بعنوان "بين جمالية اللغة وداعشيتها"، وبالقدر الذي سرتني الردود التي ذيلت المقال، لن أقول أن بعضها ساءني، بل ترك في النفس حسرة، لأنها حملت المقال ما لا يحتمل، إذ بكل بساطة، قلتُ كلمة، أو رأيا، أو اقتناعا، بخصوص اللغة العربية، بيد أن المفاجأة كانت إلى حد ما، غير منتظرة، حينما تأول البعض هذا الموقف واعتبروه تموقعا ضد الأمازيغية. مع أن المقال انبرى منذ بدايته أن يكون بريئا من هذا التأويل، بل هو يؤسس لعكس ذلك تماما، فإن عبر أحدنا وكشف عن محبته لشيء معين، فهل يعني هذا بديهيا أنه يكره الشيء الآخر، المقابل له أو الموجود معه، أي إن أحببت ركوب السيارة، هل يعني هذا أني أكره الطائرة، أو الدراجة، وإن عبر أحدنا عن حبه لشرب الماء، هل يعني ذلك مباشرة أنه يكره شرب الزنجبيل، فبالله عليكم، أعطوني منطقا أعطكم فهما وتفهما. فنحن في مغرب التعدد، شاء من شاء، وأبى من أبى، إذ يجب أن نتناول القضايا بموضوعية خالية من الحساسيات المفرطة، والتي كنت أخال أنها أضحت عملة كاسدة وإلى بوار. فمن الطبيعي أن يتعرض أي كاتب، جَمل البياض بالسواد، للنقد والنظر في رؤاه وأفكاره، سواء بالسلب أم الإيجاب، فكما قال الجاحظ يكون المرء بمنأى عن النقد، فإذا كتب استهدف، إن أجاد استحسن، وإن أساء استهجن، وهذا أمر طبيعي، متقبل ومقبول، لكن أن تسعى الكتابات الموازية إلى تحميل النصوص ما لا تحتمله، فهذا هو التمحل والابتسار، الذي لم يقل به لا صاحب القارئ النموذجي، ولا صاحبا التلقي ياوس وإيزر، بكل أفق توقعاتهما.فهل يعقل أن نفسر رأي أي واحد منا بالإيجاب إزاء اللغة العربية، على أنه تحامل وانتقاص من الأمازيغية، فهل مجرد الإيجاب من لغة، هو سلب بخصوص الأخرى، فإن أحب أحد ما الروسية وعبر عن ذلك، هل يعني أنه يكره مثلا الصينية، أو التركية، أو "البرتقيزية"، سيما إن كان هذا الطرف يتقاسم نفس الأصول، وكأننا إن مدحنا الأب، نكون بكيفية مباشرة قد ذممنا الأم، وهذا ما لا يقوم على أي منطق، أو مرتكز بديهي. وللإشارة فمنذ ابتداء هذه التمارين الفكرية من أجل انبناء المقال، لم أتخلص من انثيالات حكاية البلبل والوردة، كما وردت عند أوسكار وايلد، أو كما سار بها الشيرازي بعيدا في مثنوياته، في مسالك التصوف ومراتبه، أو بلبل فريد الدين العطار في منطق طيره، لأن هذه الحكاية تتأنق بنا في كيفية الفناء من أجل الغير، بدل السعي إلى إقصاء الغير.أقول منذ بداية هذه المقدمة الطللية، كما تمت تسميتها في الردود التي أعقبت المقال السابق، وأنا مُنْشَد إلى تداعيات حكاية البلبل الكثيرة والمتنوعة، فلغته وإن لم تكن مفصحة فهي معربة، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، أشير إلى أن كل واحد منا، يستثمر قضية المقدمات الطللية بكيفية قدحية، فهو لا يحيط بأبعادها التي لا حدود لها، ويكفي أن نقدم إحدى خلفياتها الموضوعية، بالبيت الشعري الذي نطق به، من ملأ الدنيا وشغل الناس، حينما قال: لكِ يا منازل في القلوب منازل.....أقفرت أنت وهن منك أواهل هذا هو الدفق الشعوري، والبعد الرؤيوي الذي تصدر عنه المقدمة الطللية، فمن لم يفهم مبناها لن يفهم مغزاها، فالشاعر استهل قصيدته بالمقدمة الطللية، لأنها كانت تصدر عن كيان صادق، عنوانه الوفاء، وتقدير المرأة والإعلاء من شأنها، فتلك المنازل لم تسكنها الظباء والجراء، بل نساء جميلات مصونات، كأن غدوهن إلى جاراتهن، مر السحاب لا ريث ولا عجل، لطمأنينة في نفوسهن، وجمال في قوامهن، بذلك ملكت المرأة ناصية القصيدة، وصارت سيدتها، بل وأميرتها التي لها الأمر والنهي. وتتجلى حكاية البلبل والوردة، في التحدي الذي وضعته الفتاة أمام الشاب الولهان، بأن ترقص معه في الحفل البهيج الذي سيقيمه الأمير، شريطة أن يأتيها بوردة، فقالت له، إن أردت أن ترقص معي، أحضر لي وردة حمراء. فبينما الشاب في النافذة المطلة على حديقته، يبكي ويندب حظه، لأنه لم تكن هناك وردة حمراء في المدينة، فالفصل فصل خريف، شاهد البلبل الشاب الوسيم، وهاله حاله وهو يكفكف عبراته، وتوجه إليه وقال له، لا تبك يا صديقي، غدا صباحا ستكون لديك وردة حمراء جميلة، أعطها لأميرتك البهية وارقص معها بحذاء، أو حافية القدمين. وتساءل الفتى عن حيلة البلبل والأمر متعذر مستحيل، فقال له البلبل، اذهب غدا صباحا إلى أكبر شجرة في المدينة، وستجد فيها وردة حمراء.وما أن توجه البلبل إلى الشجرة وطلب منها أن تحقق وطره، حتى فاجأته بشرط غريب من أجل الوردة الحمراء، فإن أردت واحدة، فعليك أن تدفع بغصني الحاد إلى قلبك، وتظل تغني حتى الفجر وحتى تموت، فهذه هي الإمكانية الوحيدة. دون تفكير دفع البلبل الغصن إلى قلبه، وأخذ يغني ويشدو بأعذب الترانيم، وكلما أبدع وسرى دمه القاني في أوصال الوردة، ازدادت حمرتها وجماليتها، وفي الصباح توجه الشاب إلى الشجرة والتقط الوردة الندية، دون أن ينتبه إلى جثة البلبل الذي ضحى بحياته من أجلها، ولأجلهما.وسار إلى الحفل حيث حبيبته الشقية، التي رفضت هديته التي لم تعلم ثمنها الباهض الذي لا يقدر، وداست عليها وقالت له بأن الأمير جاءها بأغلى منها وأحسن منها، وخرج الشاب مكسور الخاطر.بيد أن تضحية البلبل لم تذهب هباء، وأضحت حكايته أيقونة إنسانية تتداولها الشعوب، وتستخلص منها العبر، إذ هي نضاحة بها. وإن كان الختم مسكا، أود أن أنهي مقالي بحمد وتسبيح، لكن أخشى أن يؤول كلامي بأنه افتئات على لغة ما، أو حديث عن لغة الجنة، فسبحان الذي أنزل القرآن بلسان عربي مبين، له الحمد إذ نحمد، وله الشكر إذ نشكر، نشكره على كثير فضله، إذ خلقنا وأكرمنا وسوانا، وجعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف.