يشيرالناقد المكسيكي " لْوِيسْ كُونْطِيرُو" أنّ قراءةَ "كتاب الطّير" للشّاعر المكسيكي "ألبرطو بلانكو" يُوقِظُ ضمائرَنا،ويحرّك لواعجَنا، ويُذكّرنا بجانب مَنْسِيٍّ من جوانب جمالية الطبيعة الخلاّبة، وروعة أصواتها السّحريّة، وتنويعات التغريد التلقائية الفطرية التي لا تستعمل أيَّ أدواتٍ غنائيةٍ سوى الحَنْجَرة الذهبية التي وهبها وحباها اللهُ لهذه المخلوقات الزّاهية الألوان، والفائقة الإفتتان، حيثُ ما فتئت أصواتُها الرّخيمة ،على الرّغم من كلّ شئ، تنتهي إلينا فى نشوةٍ ،وإنشراحٍ ، حلوةً، عذبةً، صادحةً فى السّاعاتٍ الأولى والأخيرة من النّهار. الشَّعَرَاءُ مِثْل الطَّيورإذَا لَمْ يُغَنِّوا مَاتُوا خَنْقاً ! ويقولُ صاحب الكتاب أَلْبِرْطُو بْلاَنْكوُ " إنّ الشَّعراءَ مِثْل الطَّيور إذَا لَمْ يُغَنِّوا مَاتَوا خَنْقاً .." ولا عجب إذا علمنا أنّ هذا الشّاعر هو صاحب ديوان شعري فريد فى بابه فى أدب أمريكا اللاّتينية،والذي لقي نجاحاً باهراً فى إسبانيا، وهو تحت عنوان " كِتَابُ الطّير" الذي تدور كلُّ قصائده حول هذا الموضوع، أيّ غناء الطيور،وزقزقة العصافير،وشدوالبلابل من أيِّ نوعٍ كانت، وعنوانُ كتابِه يدلُّ على مضمونه، أو يُنبئُ عن محتواه . يَعتبرُ الشاعرُ هذه المخلوقات الصغيرةَ جزءاً لا يتجزّأ من الطبيعة، ومباهجِها، وجمالها، وروعتها، وفتنتها،وبهائها،إنْ لم تَكنْ أجملَ لوحةٍ من لوحاتها، وأهمَّ مظهرٍ من مظاهرها ، خاصّة إذا علمنا أنّ هناك قولةً شهيرةً سائرةً على كلّ الألسن فى بلاده المكسيك، تقول " إنّ اللهَ فى مختلف مناطق العالم خلقَ الإنسانَ أوّلاً، ثمّ خلقَ له الطبيعةَ، وفى المكسيك خلق اللهُ الطبيعةَ أوّلاً، ثم خلق لها الإنسانَ "..! كِتَابُ الطّير يُعتبر "كتاب الطّير" وهو ديوان شعري، تكريماً لتلك المخلوقات الجميلة، الناعمة، الضعيفة، الواهية . قراءة هذا الديوان تُذكّرنا بلحظات بزوغ الفجر،وغروب الشمس، حيث تكثرُ زقزقةُ العصافير ،وتغريدُ البلابل ساعةَ الغَسَق والشَّفَق . موضوعُ هذا الكتاب هو البحث عن أعمق، وأرقّ وأبعد مواطن المحبّة الباقية الكامنة فى الإنسان. إنّ شدوَ الشاعر فى ردّه على غناء الطيور ضمن مقطوعات شعريّة صغيرة رقيقة حلوة يثير فى قارئها عواطفَه الدفينة، و يحرّك فيه مشاعرَه الخفيّة، ويوقظ حواسَّه الناعسة ،إنها مقطوعات تنمّ عن براءة الأطفال وعشوائيتهم،ومثلما هوعليه الشأن بالنسبة للشّاعر حيث يتعلّمُ من أساتذته،ومعلّميه، ومريديه،( فمثلما تتلمذ أبو عبادة البحتري على يديّ معلّمه أبي تمّام الطائي،ووضع له وصيّته الشهيرة فى قرض الشّعر) ! ،فالعندليب الصّغير يتعلّم الغناءَ هو الآخر مع الطيور الأكبر منه من أشكاله ،مُحاكياً، ومُقلّداً لأقرانه، ولكنّه فيما بعد سرعان ما يبدأ فى تغريد ألحان جديدة بمفرده،مرتجلاً ،ومجتهداً،وصادحاً، ومبدعاً،يقول ألبرتُو بلانكو : تحطّ بأجسامها النّحيلة على الغُصُون المائسة والفروع الجافّة فى الخريف تماماً عندما تتأهّب الشّمسُ للغروب ويَغيبُ قُرصُها المُذهّب عن الأنظار وفجأةً تنطلق حناجرُها الصّغيرة بنغمٍ واحد ، بصوتٍ واحد يستحيلُ معرفةَ ما كان الأجمل هل صَوتُها المَسْجوع أم إنسجامُ موسيقاها أم تلك الأشجارُ الباسقة المُعلّقة فى جُنح اللّيل. إنّ عصفور الدّوري لا زال يؤنس وحدتنا،ويناغي وحشتنا،ويبدّد عزلتنا فى شوارع ،وساحات ،وحدائق المدن الكبرى،ونحن نحتسي فنجانَ قهوة، أو نرتشف كأسَ شاي، يقفز فى خفّة ورشاقةٍ من غُصن إلى غصن،ومن رحبة إلى رحبة،ومن رصيف إلى آخر،وهو يلتقط بقايا فتات الخبز، أو حبّات البُرّ والذّرة، أوالقمح المنتشرة هنا وهناك،لا أحدَ يلتفت إليه، ولا أحدَ يرعاه،مثلما كان عليه الشأن فى الماضي البعيد والقريب،إلاّ أنه فى خضمّ هذا الجفاء لابدّ أن تكون هناك عينُ عاشقٍ، أو قلمُ شاعرٍ، أو ريشةُ فنّانٍ تخلّد لنا تلك اللحظة،وتسجّل لنا هلعَ، وقلقَ،وخفّةَ تلك المخلوقات النّاعمة التي لا تُؤذي أحداً، ولكنّ بعضَ الناس ما إنفكّوا يُؤذونها بشتىّ السُّبل، ففى القُرَى والمداشر، لا يتورّع بعضُ الفلاّحين والمُزارعين من إستعمال مختلف الوسائل للقضاء عليها، بما فيه دواء "المونوكروتوفوس" وهو دواء زراعي محظور، فبمجرّد تنشّقها لهذا الدواء السّام ،تراها تتساقط بسرعة بالمئات تحت المزارع، والحقول، والدّوالي، والكُروم، والأغصان،والأشجار، وهي فى المدن والحواضر مُعرّضة بإستمرار كذلك للأذىَ،والزّجرمن طرف الحَمْقىَ، والصَّعاليك ،والمتشرّدين،والمتسكّعين، والمارّة، والأطفال الصّغارمنهم والكبار على حدّ سواء ..!. إنّ أغاني هذا الشّاعر تحرَك فينا لواعجَ قديمة لا حصرَ لها ،لا تزال عالقةَ على ثبج ذاكرتنا، وبين ثنايا أنفسنا،وطيّات أضلعنا، وأعمق أعاميقنا منذ عهود الطفولة البعيدة فى الزّمان والمكان، منذ طفولة البشرية،أوطفولة الإنسان ، حيث كان هناك إهتمام أكبر بأمّنا الأولى الأرض، وجواهرها الطبيعية النفيسة ،وفى طليعتها الطيور، نخالها ذكريات قد زالتْ، وتلاشتْ،وإمّحتْ،من ذاكرتنا مع مرور الأيام، وتعاقب الليالي، وتقادم الأعمار،إلاّ أنّها سرعان ما تعود وتطفو من جديد على سطح شعورنا ،وتتدفّق من قلوبنا، وافئدتنا، ووجداننا كشلاّل منهمر رقراق، عند قراءتنا لهذا الديوان : إنّه يجدُ داخلَ القفص الأيّامَ قصيرةً جدّاً شبيهةً بالفواكه المنقورة أو بقايا الرّماد إنّ الذي فاز بقصبِ السّبق فى الغناء هو طائرُ الكناري. كناري مَيّ زيّادة يقول الشّاعر"إنّ الذي فاز بقصبِ السّبق فى الغناء،هو طائرُ الكناري"..هذه الطيورالصّغيرة الوديعة المًزركشة، والعصافيرالرّقيقة الناعمة ،ذات الألوان الزاهية التي تحلّق فى الفضاءات الفسيحة بين الأشجار،والأغصان لا تؤذي أحداً، إنّها بشكلها الرّهيف ،وإهابها الشّفيف،وأجسامها الهشّة والنحيلة،كانت بإستمرار محطّ إهتمام الكتّاب، والشّعراء،خاصّةً الغنائييّن منهم،إنّ مناجاة " ميّ زيادة " لكنارها السّجين ما زال يثير فينا كثيراً من الّلوعة، والشّجون،والأسىَ والحنين،كيف يمكن أن يُستطابَ له الغناءُ، والزّقزقة بدون حريّة داخل قضبان حديديّة مُحكمة ومنيعة..؟ تُحرِم الطائرَ أولى النِّعَم التي خصّته بها الطبيعةُ ،وهي نعمةُ الحريّة، والهواء الطلق،والفضاء الشّاسع المفتوح ، حتى مات ، إنّها تقول عن ذلك فى كلمات ٍ رقيقةٍ، ناعمةٍ، موفيّةٍ، بليغة : طائر صغير ، نسجت أشعّةُ الشّمس ذهبَ جناحيْه ، و انحنى الليلُ علية فترك من سواده قبلةً في عينيْه، ثم سطت عليه يدُ الإنسان فضيّقت دائرةَ فضائه ، وسجنته في قفصٍ ، كان بيته في حياته،ونعشه في مماته !طائر صغير ، أحببته شهوراً طوالاً ، غرّد لكآبتي فأطرَبَهَا ، وَنَاجىَ وحشتي فآنسَهَا ، جاور روحي فآخاها . غنّى لقلبي فأرقصه ، و نادم وحدتي فملأها ألحاناً !في الصّباح كنتُ أفتحُ عينيّ فيستقبلني بالغناء ،و تسيلُ موسيقى ألحانِه على قلبي ، فتذيبه و تُسكره في آن واحد ، و كنتُ أجلسُ للدّرس، والتحبير ، فتشمئزّ نفسي أحياناً من عبوس الكتب ، و يثقلُ قلمي في يدي، فيأخذ طائري في الزّقزقة و التّغريد ، فتبتسم الأفكارُ على صفحاتِ الكُتب ، و تنجلي الغيومُ عن صفحاتِ نفسي. والآن أنظرُ إلى القفص ، لقد صَمَتَ الطائرُ، وتجمّد الشّعاعُ المُحيي، فلا ترىَ في القفص إلاّ قليلاً من الشّمس المائتة. مات الصّغيرُ المُغرّد ، مات صغيرُ حشاشتي،مات قبل غروبِ الشّمس، وقبل إنقضاء الرّبيع..! دَارِيُّو وَأَرْضُ الشُّمُوس هذا المخلوق الصغيركان من المواضيع التي تغنّى بها الشعراءُ فى كلّ مكان وزمان . وفى أدب أمريكا اللاّتينية نجد الشاعر المجدّد "روبين داريّو" الذي زار مدينة طنجة عام 1902، وعلى غرارالعديد من الأدباء، والشعراء العالمييّن من مختلف الجنسيات الذين إختاروا الإقامة فى هذه المدينة وما أكثرهم ، تغنّى شاعر نيكاراغوا الكبير هو الآخر بجمال هذه الحاضرة الجميلة، وبطبيعتها الخلاّبة ، وبطيورها،وعصافيرها، وبلابلها،وحَمَامِها الزاجل، ونجد بين دفّتي ديوانه الذي يحمل عنوان" أرضُ الشّموس" الكثيرَ من الأشعار الرقيقة، والخواطر الرّشيقة، والذكريات الحميمية عن هذه المواضيع،وسواها خلال رحلته هذه إلى" أرض الأجداد" ،كما أطلق عليها ذات يوم، لقد تساءل روبين داريّو فى العديد من المناسبات :" هل يَجرِي فى جسمي دمٌ إفريقي ، أو هندي، أو عربي ..؟ ويجيب عن إقتناع : هذا أمرٌ ممكن ". ويؤكّد الأديب والكاتب الإسباني الكبير " فْرَانسِيسْكُو فِيِّا إسْبِيسَا" :" أنّ "روبين داريّو" حتى وإن وُلد فى نيكاراغوا ، فإنّه من أصل عربيّ أندلسيّ ، فقد وُلد والدُه، وجميعُ أفراد عائلته فى قلب منطقة "البِشْرَات" إقليم ألمريّة بالأندلس"، وكتب روبين داريّو ذات يوم كذلك، أنّه عندما كان يهمّ بالدّخول إلى مسجد قرطبة الأعظم، إنتابهُ شعورٌ غريب فقال :" عند دخولي إلى هذه المعلمة الإسلامية العظيمة أحْسَسْتُ برهبة،وبرغبةٍ عارمةٍ فى إستبدال حذائي بِبَلْغَةٍ، ولسانُ حالي يهمس أنّ اللهَ وَحْدَهُ هو الأكبر" . يقول الشاعر ألبرْطُو بلانكو إنّ إبداعَ الطيور ما زال يجذب العديدَ من الكتّاب، والشّعراء، والفنّانين، ،وما فتئت زقزقة العصافير تأخذ بمجامعهم ، ذلك أنّ أغاني هذه المخلوقات الصغيرة هي ليست من نسْج الخيال ، بل إنّها مستوحاة من الطبيعة، ومن أوتارها الرّائعة. فالطيور تلقننا كيف نُصغي،ونستمع، ونستمتع بالموسيقى، فبالإضافة إلى إنّها تربّي أذواقَنا، وتُنعش أرواحَنا،وتُهذّب أحاسيسَنا، فإنها فى الوقت ذاته تعلّمنا مراقبةَ مرور الزّمن وإنسياب الأيام وإنقضائها،فى خفّتها، وقفزاتها، ونَقْرها،وقلقها،وهلعها، وترقبها، وبحثها المتواصل عن القُوت اليومي،والماء والكلأ، وإنَّ قِصَرَ أعمارها، وضآلة أجسامها، وهشاشة بنيتها، كلّ ذلك يرمز بشكل أو بآخر للإنسان، وضعفِه ،وعمرِه القصير فى هذا الكون الواسع الفسيح . الحُريّة فى أبهىَ صُوَرِها ويقول صاحب الكتاب إنّ الطيورَ يمكنها أن تطير. و قد إحتلّت فى الآداب العالمية، واالأساطير الغابرة، والحضارات القديمة مكانةً أثيرة، ومنزلةً رفيعة، وكانت طوال العصورالوُسطى أيقونيةَ البذخ، والرفاهية، وشعاراً للتّرف، والرّهف،والنبالة،والحذاقة، والرقّة، والعذوبة والنّعومة. و تمثّلُ الطيورُالحريةَ فى أجلىَ وأعلىَ صورها، وأجمل وأبهىَ مظاهرها، ذلك أنّ معظم الناس فى تلك العهود النّائية لم يكونوا يتمتّعون بهذه الحرية،إذ لم يكن فى مقدور الكثيرين منهم التحرّك، والتنقل حيثما شاؤوا ،بمعنى أنّهم لم يكونوا أحراراً طليقين بالمعنى الصحيح للكلمة، لم يكونوا بعيدين عن ثقل القيود، وجلاجل الأصفاد، وبالتالي فقد شكّلت الطيورُ نوعاً من أنواع التطلّع نحو التحرّر والإنعتاق،والإنفتاح ، والرّفعة،فضلاً عن معاني التطلّع،والعلوّ،والتحليق،والطموح . إنّ الشّاعر يلفتُ نظرَنا فى أشعاره من جهةٍ أخرى إلى الوسط البيئي ،والجغرافي ،وما تُعاني منه هذه المخلوقات الضعيفة بسبب الأضرارالفادحة التي يلحقها الإنسانُ بالبيئة،والطبيعة،والتدهورالذي تعرفه المحميّات الطبيعية،وآفات التلوّث التي أصبحتْ تُلحق بالوسط الذي يحيط بنا أضراراً جسيمةً، ،ونقصاً ذريعاً متزايداً فى المناطق الخضراء فى العالم، وتضاؤل الغابات،وتلاشي الأدغال، ،والشحّ الرّهيب الذي أصبحتْ تعرفه منابع المياه، وينابيعها،وحالات التصحّر،والجفاف التي تجتاح العديدَ من مناطق العالم، إنّ الشّاعر يفجّر فى قصائده مشاعر الأسىَ، واللوعة،والحسرة،والحَنق،والضَنك، ومع ذلك يظلّ الأملُ عنده هو المِشْعَل الذي ينير به طريقه وسط هذه المتاهات الحالكة ،وبالتالي يأبى إلاّ أن يزداد إمعاناً فى الشّدو والغناء، لمعشوقاته الصغيرة ، إنّه يقول ضمن أبيات تطفح بالرقّة ،والعذوبة ،وبغير قليل من التأمّل، وإعمال النّظر فيها، وفى حياتها ، ومعاناتها،وظروفها،ومحيطها، ومراتعها : القليل مِمَّا تبقّى من طائر البطريق يعيش الحياةَ بنوعٍ من الفلسفة إنّهُ يَضَعُ بَيضَه وَسْط اللاّمنتهىَ حيث يركنُ إلى التفريخ بصبرٍ وأناة عاجلاً أم آجلاً سوف يُطِلُّ الصَّغير وتنزلُ الملائكةُ من علٍ وتغسِلُ المولودَ الجديد وتحضنه بين يَديْها وتهزّه فى مَهدِه وتناغيه برقّةٍ وسُكونْ وبجناحيْها الأثيريّة تمسحُ دموعَه المُجَمّدة ثم ينطلق فى تلقائية وخُيلاء إلى الفضاء النّاصع البياض أو سابحاً فى الأعماق نحو الشّطآن البعيدة مُخترقاً لُجَجَ اليمَّ الصّاخب المُزْبٍد الفسيح نحو اللاّمنتهىَ .* **الأشعار الواردة فى المقال من ترجمة كاتب هذه السّطورعن اللغة الإسبانية . *عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم- كولومبيا-.