انتقد حسن أوريد، الباحث والمؤرخ السابق للمملكة، غياب أي مسؤول ضمن جنازة المهاجر المغربي بفرنسا، محمد المعقولي، الذي قُتل بعد الهجوم الدموي على جريدة "شارلي إيبدو"، بعدما طُعن من طرف جار فرنسي له 17 طعنة، وهو يصيح في وجهه "أنا ربك أنا إسلامك". وقال أوريد، ضمن مقال تعيد هسبريس نشره، إن هؤلاء المسؤولين لو كانوا حضروا إلى جنازة المعقولي لحملوا جزء من الأسى عن الأسرة، ولبعثوا رسالة إلى فرنسا كون النفس البشرية واحدة"، مبرزا أن غياب أي من المسؤولين أو المجتمع المدني والحقوقي جعل من مشهد الجنازة كأن الضحية هو الجاني. وفيما يلي ما كتبه حسن أوريد ووافَى به هسبريس: كان صوت صديقي الفرنسي من أصول مغربية يبلغني من إيكس أون بروفانس على الهاتف متهدجا يختلط بالغضب : مات المعقولي نتيجة العنصرية. كان كبش فداء.قُتل ضحية توتر وحقد يتنامى ضدنا يوما عن يوم. نحن متهمون حتى يثبت العكس، والأمَرّ أن لا نجد التفهم ممن يُفترض أن يكون بجانبنا في هذه الظروف الدقيقة. مات المعقولي ولم يحضر ولا مسؤول مغربي في جنازته. ألاَ نصلح إلا كمصدر للعملة ؟ أتُنتهك كرامتنا مرتين ؟ هنا، بفرنسا، ونحن أحياء في بلاد هي بلادنا اخترناها عن طواعية ولكنها أخذت تتولى عنا لأمر لا يد لنا فيه، وفي بلاد جذورنا، التي تتنكر عنا فلا نلقى ما نستحق من رعاية ونحن أموات. هكذا كلّمني صديقي. كان يرى نفسه جسرا بين ضفتين، وكان يعتبر نفسه إحدى الأدوات من أجل مد الجسور بين بلدين، بل بين حضارتين. كان في عمله مع الجالية المغربية، بل والمغاربية، حاضرا بعلاقاته، وبنضاله، وأريحتيه. كلّمته عسى أن أخفف من لوعته في مشروع ندوة حول "ذاكرة الضفتين" كان يشتغل عنه استوحاه من كتاب لجارك بيرك، فأجابني واليأس يطفح منه : إنس الموضوع، على الأقل مرحليا. شكّل مقتل المعقولي وبالطريقة التي قُتل بها صدمة مضاعفة. صدمة العنصرية الهوجاء، وصدمة التنكر من قِبل البلد الأصلي. قُتل محمد المعقولي شر قتلة. قُتل وهو في بيته ليلا وقد استسلم للنوم بعد يوم ُمضن حين باغته جاره الفرنسي يُطرق الباب طرقا عنيفا. وحينما أبى المعقولي فتح بيته، كسر الجاني الباب بقوة وهو يحمل سكينا، انهال بها عليه، واستطاع المعقولي أن ينزعها منه، ثم عاد الجار الفرنسي وهو يحمل سكينا أخرى، مهتاجا، فانهال على الضحية تارة أخرى، وحاولت زوجة الضحية أن تنزعها منه، وأصيبت جراء ذلك بجروح، ولكن الجاني كان يغرز مُدى سكينه، بل حقده في جسد محمد المعقولي، وهو يصرخ "أنا ربك، أنا إسلامك"، حتى إذا خارت قوى المعقولي ندّ عنه صوت خفيت، ينادي زوجته أن تفر بجلدها وتحمل معها رضيعهما حتى لا يصابا بسوء، ثم استسلم المعقولي، وهو يردد الشهادة، ويحمل سبابته إلى السماء، فأخذ منه الجاني سبابته وضغط عليها بقواطعه وعضها إلى أن بترها. أسلم المعقولي روحه إلى باريها وجسمه يحمل أثر سبع عشرة طعنة، ولم يكن يقدر أن يحمل طعنة التنكر من ذويه. هكذا مات المعقولي. أرادت صحافة فرنسية في غمرة التوتر أن تتستر على الحادث، فاعتبرت الجاني معتوها مصابا بخلل نفسي. ما الذي دفع مسؤولينا على ألا يحضروا جنازة ضحية هو مواطن لهم، مات جراء عملية عنصرية حاقدة. ما الذي أنساهم واجب العزاء والمواطنة والمواساة ؟ أشيءٌ يخيف في سيرة رجل مات ضحية ؟ لا شيء. لم يمنع شيء منتخبين فرنسيين من تقديم العزاء. وأقدم عمدة كاربانتراس بتقديم تعازيه للأسرة، مثلما أقدم منتخبون ومجالس المسلمين، فلِم لم يُقدّم المسؤولون المغاربة العزاء، في واحد من مواطنيهم. لم يحضر وزير الجالية، ولم يحضر والي الجهة، ولا رئيس الجهة، ولا عامل الإقليم، ولا قائد المنطقة، ولا منتخب، ولا فعاليات المجتمع المدني، ولا ممثل عن جمعيات حقوق الإنسان ومنتدياتها، وما أكثرها...ولم يحضر القنصل الفرنسي بفاس، ولا ممثل عنه.. لو حضر هؤلاء لن يردوا الضحية إلى الحياة، ولكنهم سوف يحملون جزءا من الأسى عن الأسرة، ولسوف يبعثون برسالة أن لا فرق بين غير المسلم والمسلم في الحق في الحياة، ولبعثوا من قرية سبع عيون برسالة تبلغ تموجاتها فرنسا من أن النفس البشرية واحدة، وأفهموا حاملي دعوة البغضاء من أن أفعالهم أو أفكارهم ممجوجة وأن لا أثر لها في النفوس. إن العزاء ليس تسجيل لحظة، ولكن حمل جزء من ألم المصابين، ومواساتهم في مكروههم. لم يحدث شيء من ذلك. حملت أسرة الفقيد جثمان فقيدها، في ذلك اليوم المطير، إلى مثواه الأخير، يشيعه عدد هزيل، كما لو أن الضحية هو الجاني. في غياب مسؤولينا، بعثوا برسالة أخرى، مؤلمة، مفادها أن هناك من هم أكثر إنسانية في حياتهم ومماتهم، تحظى جنازاتهم بالحفل المهيب، وتُلقى بحضرته الخطب العصماء، ويتسابق العلية من كل المعتقدات على حضوره للتدليل على سماحتهم وتسامحهم، ثم هناك من هم "أقل إنسانية"، أمثال المعقولي، الذين لا يأبه بهم أحد. ندّدنا بجريمة شارلي، لأن لا شيء من شأنه أن يُسوّغ سلب الحياة والحق فيها، وغضبنا لمن يمّس المقدس و يشينه، دون أن يكون ذلك دعوة للعنف. وناصرنا ونناصر حرية التعبير، وفق ضوابط القانون والأخلاق. ولكن لا أحد تحدث عن المعقولي، رحمه الله. وإذا كنت لا أستطيع أن أقول "أنا المعقولي" فلْأقولنّ" : أنا الخلل"، "أنا" بمعنى نحن، وهو بعض العزاء.