إذا كان حادث "شارلي ايبدو" قد سلّط الأضواء من جديد على ظاهرة الإرهاب في أبعادها المختلفة، فإنه قد سلّط الأضواء أيضاً على فئة تفضّل في الغالب الاشتغال في صمت من خلال متابعة ما يجري من أحداث، والتقاط ما يبدو للآخرين مجرّد ظلٍّ عابر، وتراه هي بذرة تكتنز بداخلها كل العناصر التي تبعث على الدهشة وتصنع المفارقة. إنّهم رسّامو الكاريكاتير الذين وجدوا أنفسهم بعد حادث الهجوم على الجريدة الفرنسية الساخرة وجهاً لوجه أمام العديد من الأسئلة حول ظروف اشتغالهم والإكراهات التي تواجههم، فالحدث هذه المرّة يعنيهم بشكل مباشر نظراً لسقوط أربعة من زملائهم كضحايا جرّاء هذه الجريمة، وقد لاحظنا بعد حادث الهجوم على "شارلي ايبدو" كيف انتبهت العديد من وسائل الإعلام إلى هذه الشريحة من خلال مقابلات صحفية أجرتها مع بعض الرسامين، أو من خلال تقديمها لبرامج حول فن الكاريكاتير وممارسيه. قد لا يختلف اثنان حول كون فن الكاريكاتير هو التيرمومتر الحقيقي لقياس درجة حرية التعبير في مجتمع ما، لكن هذين الاثنين سيختلفان حتماً حول حدود هذه الحرية ومدى اتساع هامشها والخطوط الحمراء التي يجب أن تؤطرها، وهذا الاختلاف أو الخلاف يطفو على السطح كلّما نُشرت رسوم كاريكاتيرية تعتبرها جهة ما مسيئة لدينها أو عرقها أو ثقافتها ..، والجميع يتذكر الاحتجاجات الغاضبة التي عمّت العديد من العواصم الإسلامية بعد نشر رسوم لرسام الكاريكاتير الدانمركي كورت فيسترغارد، والتي اعتُبرت مسيئة للإسلام والمسلمين. من النادر أن يصير رسام الكاريكاتير "بطلاً" في حدث ما، لكن إذا حصل ذلك يكون هذا الحدث في الغالب حدثاً تراجيدياً، عكس ما يحيل عليه مجال فن الكاريكاتير باعتباره فنّاً ساخراً يبعث على المرح والضحك (شكلياً على الأقل)، وهذا ما سجله التاريخ منذ حادث اغتيال الفنان الفلسطيني ناجي العلي في لندن أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وحادث الاعتداء على الفنان السوري علي فرزات بسبب مواقفه المناوئة لنظام البعث في سوريا، واغتيال رسام الكاريكاتير الليبي قيس الهلالي في بدايات الثورة الليبية بسبب رسومه الساخرة من نظام العقيد القذافي، واعتقال رسام الكاريكاتير السوري أكرم رسلان من طرف المخابرات العسكرية السورية، والذي يبقى مصيره مجهولاً إلى حدود اليوم، دون أن ننسى الملاحقات القضائية في حق العديد من رسامي الكاريكاتير في العالم، كخالد كدار بالمغرب، وجمال غانم بالجزائر، وموسى كارت بتركيا، ومحمد سباعنة، رسام الكاريكاتير الفلسطيني الذي حاكمته محكمة إسرائيلية بتهمة الاتصال بجهات معادية وتقديم المساعدة لها. واليوم، يبدو أن هذه "البطولة التراجيدية" التي غالباً ما يكون الرسام فيها ضحية لسلطة سياسية أو دينية، امتدت لتصل إلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ليكون هذه المرّة ضحية أحكام قاسية صادرة عن بعض المتلقّين، إذ واجه العديد من رسامي الكاريكاتير انتقادات لاذعة تجاوزت في كثير من الأحيان حدود الاحترام، فقط لأن الرسّامين عبّروا عن تضامنهم مع ضحايا "شارلي ايبدو" من رفاقهم في سلاح الكاريكاتير، سواءً عبر رسوم كاريكاتيرية تنبذ العنف وتحاول التعريف برسالة الكاريكاتير، أو من خلال منشورات كتابية عبّروا فيها عن استنكارهم لهذا الحادث الإجرامي، بغض النظر عن موقفهم من أسلوب رسامي "شارلي ايبدو"، أو خطها التحريري في تناول الأحداث والمواضيع، وبغض النظر أيضاً عن هوية الجهة التي دبّرت أو نفذت هذه الجريمة في حق الجريدة الفرنسية الساخرة. واجه رسّامو الكاريكاتير الكثير من الانتقادات من طرف بعض المتلقّين الذين رأوا في موجة التضامن هذه مبالغة وانزياحاً عن قضايا أهم كان عليهم أن يتطرقوا إليها، ناسين أو متناسين أن "ريبيرطوار" أيّ رسّام لا يخلو من الأعمال التي تناولت مختلف القضايا الوطنية والعربية والدولية، أو يعتقدون بأن على الرسّام أن يكون كالأخطبوط الذي يمتلك أطرافاً عديدة، وكل طرف يمسك بقلم ليقدّم رسوماً تتناول كل الموضوعات في وقت واحد، وإن كانت الساحة الكاريكاتيرية لا تخلو من رسامين "أخطبوطيين" بإمكانهم رسم خمسة رسوم كاريكاتير، أو أكثر، يومياً، لكن تبقى أغلب هذه الرسوم كأعواد ثقاب باردة تنطفئ بسرعة بعد أن تشتعل بصعوبة. مثل هذه الانتقادات دفعت رسام الكاريكاتير المغربي خالد الشرادي إلى نشر منشور على صفحته الشخصية بموقع فيسبوك يدعو فيه زملاءه بأسلوب ساخر إلى ضرورة إعادة نشر كل ما سبق لهم أن رسموه عن فلسطينوسورياوالعراق ومختلف القضايا السياسية والاجتماعية الوطنية بجانب أي رسم تضامني مع ضحايا "شارلي ايبدو" يودّون نشره على موقع فيسبوك، وذلك تجنبا لتلك الملاحظات والانتقادات التي يطرحها بعض المتلقّين. ولم يسلم الرسامون الذين شاركوا في الوقفة التضامنية مع ضحايا الحادث الإرهابي بالرباط أيضاً من انتقادات انهالت عليهم على شكل تعليقات في صفحات المواقع الاجتماعية، أو عبر رسائل خاصة عاب عليهم أصحابها موقفهم المتضامن مع ضحايا الجريدة الفرنسية. لا ينكر أحد بأن حادث "شارلي ايبدو" قد شكّل مناسبة سمحت لرسامي الكاريكاتير بالتعبير عن ذواتهم وهواجسهم، سواء عبر أعمالهم الفنية التي تناولت الحدث، أو من خلال بعض وسائل الإعلام التي فتحت المجال أمامهم لتسجيل مواقفهم من هذا العمل الإرهابي، فهذه الفئة التي تُعتبر صوت الجميع نادراً ما يُسمَع صوتُها المعبّر عن ذاتها، فإذا قمنا بتسليط بصيص من الضوء على واقع رسَّام الكاريكاتير المغربي مثلاً، فسنكتشف مجموعة من المشاكل التي تحيط به، كضُعف فرص العمل داخل المنابر الصحفية لأن أغلب الجرائد المغربية تُغيِّب فن الكاريكاتير عمداً أو "سهواً" عن صفحاتها، والتعاطي الرسمي مع هذا الفن الذي لا يزال محافظاً على نظرته الإقصائية، وما غياب جائزة الكاريكاتير عن جائزة الصحافة الوطنية التي تنظمها وزارة الاتصال كل سنة إلاّ وجهاً من وجوه هذا الإقصاء، رغم الوعود التي قطعها وزير الاتصال بإدراج الكاريكاتير ضمن الجائزة الوطنية للصحافة خلال اللقاء الذي جمعه برسامي الكاريكاتير المغاربة خلال النسخة السادسة من الملتقى الوطني لفن الكاريكاتير والإعلام بمدينة شفشاون أوائل يونيو من السنة الماضية. هذا دون الحديث عن ضُعف المتابعة النقدية الأكاديمية، إن لم نَقُل انعدامها، في مواكبة التراكم الذي بدأ يحققه الكاريكاتير المغربي كمّاً وكيفاً، واتساع نطاق المقدّس الذي لا يحق لرسّام الكاريكاتير المغربي الاقتراب منه... وإذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي قد شكّلت فرصة لمدّ جسور التواصل، وخلق تفاعل إيجابي بين رسامي الكاريكاتير والمتلقي من خلال رسومهم التي تتناول مختلف القضايا، هذا التواصل الذي لا تتيحه الوسائط التقليدية كالجرائد والصحف، فإن هذه المواقع تفتح أبواباً أخرى تُظهر وجها سليباً لهذا التفاعل، خاصة حين يحاول أن يلعب بعض المتلقين دور الوصي على أفكار الرسام ووجهات نظره، وهذا ما قد يخلق نوعاً من التشنج في العلاقة بينهما، وهو ما وضح جليّاً بعد حادثة "شارلي ايبدو"، فإذا كان رسام الكاريكاتير يتعامل في الجريدة التي يشتغل معها مع رئيس تحرير واحد، فإنه في مواقع التواصل الاجتماعي أصبح يتعامل مع أكثر من رئيس تحرير، فإذا رسم عن تازة فسيجد هناك من سيقول له: "اخرج من محلّيتك الضيّقة، فالوطن أوسع من تازة"، وإذا رسم عن الوطن الواسع ومشاكله، ورسم عن الرّشوة والفساد و"البوطاغاز" و"الكورة" و"المثقّفين"، عن التّعليم والصّحة والفيضانات وبنكيران والزمزمي وعيوش وعصيد وأوزين..، يقولون له: "اخرُج من عدميّتك، ففي العالم قضايا أكبر وأهم من قضايانا الصّغيرة". إذا رسم عن العالم ومشاكله الكبيرة كالحروب والمجاعات والاحتباس الحراري والإيبولا ودب الباندا الذي يواجه خطر الانقراض و"شارلي ايبدو"، يقولون له: "وما حجم كل هذا مقارنةً بما وقع ويقع في العراقوسوريا وغزّة؟؟!"، وإذا رسمَ عن غزّة سيقال له: "تازة قبل غزّة"!! في النهاية، مهما بلغت العلاقة بين رسام الكاريكاتير والمتلقي من تشنج وسوء فهم، فوجود كليهما ضروري للآخر، ولا مجال أمامهما إلاّ لمزيد من الانفتاح والتفاعل الإيجابي، ولعلّ أجمل صور هذا التفاعل تلك التي نراها حين يُقبل المتلقي على معارض الكاريكاتير أو الندوات التي تقام خلال الملتقيات المُحتفية بفن الشّغب الجميل، والنقاشات التي يفتحها مع رسام الكاريكاتير حول تجربته الفنية وطريقة معالجته للمواضيع والقضايا عبر ريشته الساخرة، وغالباً ما تُتَوّج هذه النقاشات برسم بورتريه كاريكاتيري يقدّمه الرسّام كهديّة للمتلقي، وصورة "سيلفي" تجمع بينهما مع ابتسامة عريضة وصادقة. - رسّام كاريكاتير مغربي