سرد الإعلامي المصري، أسعد طه، في مقال له على صفحته بالفيسبوك، كيف تم إجهاض فكرة إنجازه فيلما وثائقيا عن يوميات الملك محمد السادس، مبرزا أن الحرس القديم الذي كان يرفض الفكرة مطلقا، تفوق على الحرس الجديد الذي كان يحبذ فكرة تصوير الملك لتلك الطريقة. وقال طه إن تواضع العاهل المغربي أدهشه، خاصة "لطفه في التعامل مع فريق العمل، وأدبه في الحوار مع موظفي القصر"، قبل أن يحكي كيف حضر اجتماع الملك بحكومته، وكيف قضى يومه مع ولي عهده وشقيقه، قبل أن يغادر الصحفي المملكة دون إنجاز فيلمه عن الملك. سائق ووزير وملك كان الوقت قد تأخر حين صحت في السائق أحترس الإشارة حمراء، توقف على جانب الطريق وأتى الشرطي غاضبا ليسجل مخالفة، خرج سائقنا من السيارة واصطحبه بعيدا، تهامسا، ثم أدى الشرطي التحية للسائق، وانصرف دون تسجيل المخالفة. اندهشت كما اندهشتم، تكرر الأمر مرات في شوارع المدينة على نفس الشاكلة، أدركت سريعا أن السائق إنما هو مخبر وظف ليكون سائقنا مع السيارة التي استأجرناها، المسألة متوقعة وعليك أن تلجأ في مثل هذه الحالات إلى الدعابة، كنت أقول له عندما يسير محطما كل قواعد المرور وإشاراته ، ( ولا يهمك مش لازم نخسر بعض علشان شوية ألوان أحمر وأخضر وأصفر). أشهد للرجل أنه كان مجدا في عمله، وهو الذي كان سائقنا ورفيقنا ومخبرنا خلال زيارتي الثانية للمغرب عام ألفين وثلاثة، مرة غادرنا الدارالبيضاء في جولة على عدة مدن، ثم عدنا بعد بضعة أيام في وقت متأخر متعبين. في الصباح الباكر كان لا بد أن نتجه لتصوير لقاء مهم، استيقظنا جميعا وتوجهنا على عجل إلى سيارتنا وسائقنا بها ، تأخر تقني الصوت وكان آخرنا ، سلم مفتاح غرفته إلى استقبال الفندق، قالت له الموظفة هناك لقد ترك السائق لك هذه الرسالة ، أندهش من الأمر ، ورقة مكتوب فيها بالفرنسية ، توجه إلى سيارتنا حيث ننتظره ، وأعطى الرسالة إلى زميلنا منصف ليترجم إلى العربية ، فإذا هي تقرير يشمل تحركاتنا خلال أيام السفر ، إلى أين ذهبنا ومن قابلنا ، فزع السائق عندما أدرك الأمر وخطف الرسالة ، لاحقا اكتشفنا أن موظفا أنيط به مراقبتنا وكان يبيت في فندقنا، وأن موظفة الاستقبال أخطأت وأعطت إلى زميلنا الرسالة التي هي التقرير وليس إلى السيد المخبر الذي لم يستيقظ مبكرا . لون الحدث صباحنا ، ضحكنا حتى الثمالة ، عندي قاعدة تقول لا بأس من أن تراقبونا ، لكن فقط دعونا نعمل ، وزير الداخلية المغربي السابق إدريس البصري قرر في زيارتنا السابقة والأولى للمغرب عام ثمانية وتسعين أن يراقبنا وألا يدعنا نعمل ، لقد عرف عهد الرجل بالاعتقالات والتعذيب والقهر، كلفت زميلة لي بالسفر إلى مدينة العيون لدراسة إمكانية سفرنا من هناك مع المنظمات الدولية إلي تندوف بالصحراء الغربية ، في فندق مهم بالرباط أعطيت موظفة الأسقبال رسالة لترسلها بالفاكس إلى زميلتي ، أخذت مني الرسالة ونسيت تغلق باب الغرفة التي ترسل منها الفاكس وشاهدتها وهي تصور نسخة استعدادا لإرسالها إلى المعنيين ، وأدركت أن كل صغيرة وكبيرة لدينا تحت المراقبة. لاحقا استدعيت إلى وزارة الداخلية ، دخلت وزميلي رشيد إلى هناك ونحن في قلق شديد ، لوزارات الداخلية العربية هيبة لا تضاهيها هيبة ، في غرفة واسعة وجدتنا في ضيافة ثلاث رجال أحدهم والي مدينة العيون ، بعد الشاي والترحيب انطلقوا فجأة في الهجوم على ما تبثه الجزيرة بشأن المغرب ، أوضحت لهم أني لست موظفا في القناة ، وقد جئت إلى المغرب بناء على موافقة مسبقة ، لم يمنع ما قلت من صخب الجلسة حتى شعرت كما لو أني قيد الاعتقال ، فقلت بوضوح إما أن تدعونا نعمل بحرية تامة على قضية الصحراء الغربية ونلتقي كافة الأطراف ، أو أن نحزم حقائبنا ونغادر فورا ، بعد قليل تحول الحديث فجأة إلى ود مبالغ ، وقالوا لي إنهم مهتمون بأمري إلى حد أنهم سيخصصون لي أشخاصا يكونون برفقتي. واصلت العمل والتصوير في الرباط ، ثم سافرنا إلى مدينة العيون ، توجهت زميلتنا بجوازها البريطاني وصفتها الصحفية إلى المطار لتسبقنا إلى مخيمات تندوف بالصحراء الغربية ، منعتها السلطات المغربية ، استدعينا مجددا ولكن هذه المرة إلى بناية المحافظة ، وصلنا وقالوا انتظروا الوالي ، سمعنا صوت صفارات موكبه الضخم قبل أن يصل ، استقبلنا بتجهم شديد ، دار بيني وبينه حديث ناري ، قلت له لم يتم الإيفاء بالوعود في أن نلتقي بمن نشاء ، وأن نذهب إلى ما نريد ، قال لا تتحركوا إلا بإذن منا وبصحبة أحدنا وبما نسمح به ، أبلغته أنني للتو سأغادر البلاد. كانت حصيلة أيام التصوير التي أنجزتها سابقا في الرباط لا بأس بها لتعبر عن رأي السلطات المغربية في قضية الصحراء الغربية ، لكن كان لا بد من التصوير في الصحراء نفسها ومقابلة المسؤولين في جبهة البوليساريو لنضع أمام الناس الصورة كاملة ، لا حل إذا إلا بالسفر إلى الجزائر والوصول من هناك إلى تندوف، غير أن السلطات الجزائرية لن تسمح لي بذلك بعد حلقة نقطة ساخنة التي أعددتها من هناك ، كلفت زميلي ولد محمدي أن يذهب برفقة فريق تصوير من موريتانيا إلى تندوف وأبلغته بالمواد المصورة المطلوبة ، لاحقا نقل له سائقه أن زميله السائق الجزائري أبلغه أنه في تندوف أيضا بصحبة رجل أمن للقبض على شخص يدعى أسعد طه حال وصوله إلى المنطقة. أتم زميلي العمل وأرسل لي المواد المطلوبة ، دخلت إلى غرفة المونتاج وأنا في تحد لنفسي ، ألا أجعل الحادثة تؤثر في مهنيتي وأن أندفع إلى الانتقام ، قلت في حلقتي ما رأيته وذكرت رأيي، وبثت الحلقة وكانت سببا في خلاف قطري مغربي أشارت إليه جريدة الحياة الصادرة بتاريخ ستة أغسطس عام ثمانية وتسعين. تبدل الحال تماما عندما وصلت المغرب مرة أخرى عام ألفين وثلاثة، حتى أني سألت عن إمكانية لقاء الملك، قيل لنا أنه لا يجري لقاءات تلفزيونية ، ولكن بالإمكان أن يستقبلكم في قصره كتحية منه، قبلنا التحية، وذهبنا إلى هناك وكان لقاءا وديا ، غير أنه في نهاية الأمر رسمي تقليدي. الذي لم يكن تقليديا هو الصورة التي بدأت ترسم حينها عن الرجل ، إنه ملك للفقراء ، يدافع عنهم ويتبنى مطالبهم ، ملك يقود سيارته بنفسه في شوارع الرباط ويتوقف عند إشارات المرور ، ويناهض عادة تقبيل يده ، كان الأمر مدهشا بالنسبة لي ، وتخيلت فيلما وثائقيا عن الملك في حياته اليومية الخاصة. غادرت المغرب ، التي أذهلتني ، إنها بلاد ثرية بالثقافة والتاريخ والقيم ، ومواطنون بسطاء طيبون، ونحن مازلنا في الشرق لا نعلم شيئا عنها ولا عنهم إلا القليل، بعد مرور فترة قصيرة أبلغت بأن الملك رحب بالفكرة، وعدت إلى المغرب، هذه المرة لأعد فيلمي الوثائقي المتخيل عن الملك، ما إن وصلت حتى كان بوسعي بسهولة أن أشم رائحة صراع بين فريقين، حرس قديم يرفض الفكرة مطلقا ، يريد للملك أن يحتفظ بالصورة التقليدية ربما التي كانت لوالده، ويظن أن فيلمي يهدد هيبته، وحرس جديد يريد أن تدخل المغرب في مرحلة جديدة وتواكب عصرها، ويرغب بشدة في أن تخرج صورة الملك إلى الناس على هذه الشاكلة. اقتربت وأنا قلق ، لا أريد أن أتورط في مديح لأحد ، ولا في خلاف بين فريقين قد أدفع ثمنه، اتفقت مع نفسي أني سأعالج الأمر على شاكلة يوميات ملك. حضرت اجتماعا ضم الملك مع حكومته مرة في القصر ، ومرة مع رئيس حكومته في سيارة الملك المخصصة لذلك وهي تسافر من الدارالبيضاء إلى الرباط ، ويوم عمل آخر في القصر ، ويوم أيضا مع ولي عهده ، ويوم ثالث مع أخيه مولاي رشيد ، وفي ذلك كله أقر أنها كانت تجربة جديدة لي. الشغف كاد يقتلني ، كنت أود إكمال الأمر بأي ثمن، أدهشني تواضع الرجل الجم ، لطفه في التعامل مع فريق العمل، أدبه في الحوار مع موظفي القصر، بساطته، في المساء حدثت زملائي بذلك، قال أحدهم إذا أنت تتفق مع سياساته؟، أجبته لماذا التعميم دائما، أنا أتحدث عن سلوك شخصي يعجبني ويدهشني ، لكن قد أتفق أو أختلف معه في سياساته، الحد الأدنى من الإنصاف أن تذكر للمرء محاسنه كما تذكر عيوبه. في أحد الأيام كنت أنتظر في الفندق لتعليمات الخطوة المقبلة ، انتظرت طويلا ، أنتهى اليوم دون تحقيق أي إنجاز، مر يوم آخر، ثم يوم ثالث، فيوم رابع، ثم كان علي أن أعترف أن الحرس القديم قد انتصر، وأن علي أن أحمل حقائبي وأرحل، وأن المشروع قد أجهض، وفي الطائرة حدثتني نفسي وأنا حزين على ما جرى: عليك أن تهيم بالمغرب حتى تدرك سره !