إن جريدة شارلي إبدو الفرنسية، كما جميع الصحافة التي تضامنت مع خطها التحريري، ضربت أسوأ مثال من أمثلة العنصرية الدينية، والتهور، والشطط في استعمال الحقوق القانونية، بإساءتها إلى شريحة عظمى من المؤمنين في العالم، تلك التصرفات التي تضمنت الاستهزاء بالله تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام، ورسم صورهم، والاستهزاء بمقاديرهم، إنما عكست مدى الانهيار الأخلاقي في أوروبا وفرنسا على الخصوص، وهو انهيار له ما بعده حتما... إن ذلك الانهيار في الشعور بالآخر، وفي احترام الآخر، ليدل على فراغ روحي عميق، وتشتت أسري واجتماعي فظيع، وتخبط في معايير القيم ووسائل الثبات الإنساني، إذ لا يكتفي بالتعبير عن آراء دفينة، وإيمان معين، حتى يتعدى إلى البحث فيما يعتقده الآخر ويحترمه، والاستهزاء به، وإهانته، ضاربة عرض الحائط قيمة "القيم الدينية" ومكانتها في بناء الأمم والشعوب، وصناعة التاريخ... إن إصرار تلك الصحف الأوروبية على متابعة ذلك النهج المزري، والانحطاط الأخلاقي والفكري والعقلي، والتمادي في الإهانة بالرغم من خروج مظاهرات رافضة، ورفع دعاوى قضائية، ليعد عدوانا صارخا، يفوق عدوان القتل بمرات، لأنه يقتل الضمير الإنساني، ويقتل اللحمة المجتمعية، ويقتل الاحترام، وثقافة الاحترام بين الناس، ويقتل العزة والشرف في الأمم، وهي معايير وقيم لم تعد تلك الجهات تعرفها ولا تقدرها قدرها... كما أن البرلمانات الأوروبية التي فشلت في اعتبار المظاهرات المليونية التي خرجت في كل دول أوروبا ودول العالم، بعد صدور تلك الرسومات في الدنمارك وبلجيكا ثم فرنسا، وغيرها، لتدل على أنها برلمانات فقيرة من القيم الإنسانية، مبنية على مصالح مادية سطحية الأفق، لا تعطي للقيم الإنسانية مكانتها اللائقة بها، كما أن النتيجة التي صدرت، والتي وصلت إلى أبشع وأشد ردود الفعل؛ وهي: القتل، لتدل على مرض خطير في المنظومة التشريعية في أوروبا، تنذر بانفكاك مجتمعي وبشري وشيك... فالمسلمون - وحدهم، وهم أكبر شريحة متدينة في أوروبا، والمعنيون بالأحداث الأخيرة - يشكلون ما يقرب من خمس سكان أوروبا، يعني: نحو مائة وعشرين مليون نسمة، موزعة بين دول أوروبا الشرقية والغربية، وعدم احترام هذه الكتلة الهائلة، إضافة إلى المسيحيين المتدينين، واليهود المتدينين، ليعتبر تغولا، وتجاوزا لا اخلاقيا تمارسه تلك الجهات، كما أنه سلاح بشع، أبشع من السلاح الكيماوي والنووي،تستعمله من أجل اضطهاد شريحة ضخمة من الأمة الأوروبية، واحتقارها، وتكرار إهانتها إمعانا في غيظها، واستفزازها... وإن البرلمانات التي كان يفترض أنها تمثل الشعوب، وأنها منتخبة، بتفريطها في حماية هذه الكتلة الهائلة؛ لتعبر عن عدم جدواها، وعدم فائدتها في صيانة المجتمع الأوروبي، وأنها يجب ان تراجع نفسها على مستوى الفلسفة والمفاهيم العامة والقيم، فأمة مبنية على عدم الاحترام، وعدم التقدير،وعدم الشعور بالآخر، مبنية على الغرور بالنفس، والإمعان في استغلال السلطة وتسخيرها لمصالح ذاتية ضيقة؛ لهي أمة سرعان ما ستنهار، على وهن أشد من وهن بيت العنكبوت!. كما أن القضاء الأوروبي الذي لم يأخذ بعين الاعتبار سيل الدعاوى المرفوعة ضد تلك الجرائد، والذي قام بحمايتها تحت شعار خلاب وموهم وهو شعار "حرية التعبير"؛ ليعتبر شريكا في جريمة التردي التي وصلت إليها أوروبا، ولا تنقص جريمته - من ناحية قانونية - عن جريمة القتل التي مارستها تلك المجموعة ضد أفراد جريدة شارلي إبدو، وأول ضحية لذلك القضاء؛ هو أولئك المقتولين من صحفيي الجريدة، ومن المهاجمين على حد سواء، لأن القضاء لم يحم الطرفين عن طريق الحسم في الشكاوى المرفوعة، وتقدير خطورة الموقف الذي يمكن أن ينفجر في أية لحظة من اللحظات... أما رجال السياسة، فهم الشياطين التي أشعلت نار الفرقة والاختلاف، وذكت الشعور بالكراهية المتبادل، وألجمت الدوائر التشريعية من سن قوانين ضابطة لحرية التعبير، ومن ثمة ألجمت القضاء الذي يتحجج بالفراغ التشريعي في هذا المجال، وكل هذا يشير إلى ما ابتدأت به المقال من الفراغ الأخلاقي وعدم احترام الآخر، والطغيان الاستبدادي والعنصري الذي يغزو المنظومة الأوروبية...وطبقا لما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ؛ فإن هذه الحالة الهلامية لا بد وأن ستنتهي، ولا بد بأن تنهار أمام منظومة أخلاقية ستجد مكانتها في ذلك المجتمع إن عاجلا أو آجلا، إن بإرادة جماعية للتغيير والإصلاح، أو بانهيار عام لن تقوم بعده إلا بعد قرون مظلمة تعانيها المجتمعات الأوروبية كما عانتها منذ قرون...