مرت أحداث الصحراء الدامية بما لها وما عليها، ولا بد من وقفة تقييم وتأمل، بعيدا عن تفاصيل الأحداث ومخلفاتها... والأكيد أن الوقت قد حان لمساءلة سياسة أجهزة الدولة بخصوص هذه القضية، وطريقة تناولها، ليس على المستوى الديبلوماسي، لكن على مستوى التواصل الداخلي والتعبئة الشعبية، وبتعبير آخر، تقييم الأداء الإعلامي الرسمي تجاه القضية. واستقراءً لمختلف المراحل التي عرفتها هذه القضية، على الأقل منذ سنة 1975، يكاد أغلب المواطنين لا يتذكرون، أو بالأحرى لا يفقهون شيئا عن هذه القضية المصيرية بالنسبة للبلاد، اللهم إلا ما ارتبط منها بتنظيم المسيرة الخضراء كحدث بارز، بالإضافة إلى محطات أخرى مفصلية لا يعرف منها الكثير من المواطنين، بما فيهم الفئة المتعلمة والمتابعة للشأن المحلي والوطني، إلا أسماء مبهمة، من قبيل مصطلح "الاستفتاء"، و"الحكم الذاتي" وغيرها من المفاهيم التي يدركونها بشكل جد سطحي. وهذه نتيجة جد طبيعية للطريقة الخرقاء التي يتم بها التعاطي الداخلي مع هذه القضية من قبل مؤسسات الدولة، خاصة في الجانب الإعلامي. وقد لا يختلف معي الكثيرون في أن المواطن المغربي أكثر إدراكا للقضية الفلسطينية بأدق تفاصيلها، مما هو عليه الأمر بالنسبة للقضية الوطنية الأولى، وهو ضرب من ضروب الاغتراب الناتج عن الهجرة السرية التي تشارك فيها فئات غير قليلة من المجتمع المغربي، إلى الإعلام الأجنبي بعيدا عن الإعلام "الأم “ إن صح التعبير، وأمر راجع إلى رداءة المنتوج الوطني، خاصة إذا ما قورن بالمهنية والاحترافية والحرية، وغيرها من المزايا التي يتسم بها الإعلام الخارجي، عربيا كان أو أجنبياً. ولا شك أن ما ذكر له ارتباط بعناصر الجاذبية والإثارة والإتقان في عرض وتقديم المنتوج. وليس هو الأمر الوحيد الذي يفتقده الإعلام الوطني، إذ ينضاف إليه ضعف المصداقية، وهو ما أصابه في مقتل، حيث يتم النعامل بغباء مع المواطن، وذلك من خلال الكشف عن نسب ضئيلة من حقائق الأحداث، متناسين – القائمون على "القطب" الإعلامي - أن المواطن قد فتحت أمامه أبوب الإعلام الرحبة على مصراعيها، سواء من خلال الفضائيات، أو مواقع الإنترنت والمجتمعات الإليكترونية، وأن زمن احتكار المعلومة والتعتيم عليها قد ولى إلى غير رجعة. وما الطريقة الفجة والغبية التي تم بها التعاطي مع مكتب فضائية الجزيرة في الرباط، إلا نموذج للغباء وتكلس عقليات القائمين على الشأن الإعلامي، نظرا لإيمانهم بأن الإغلاق والمنع ما زالا مجديين في هذا الزمن الإعلامي بامتياز. هذا في الوقت الذي كان فيه بالإمكان استيعاب القناة المذكورة، وتسويق صورة البلاد وتوجهاتها عالميا من خلالها، رغم الانزلاقات اللامبررة واللامهنية التي سقطت فيها القناة المذكورة، وهو أمر فوت وسيفوت الكثير على المغرب إذا لم يتم تدارك الأمر، بعيدا عن ردود الأفعال غير المحسوبة، كما استعدى على بلادنا العديد المنظمات الحقوقية المهتمة بالحريات الصحفية على المستوى العالمي، هذه المنظمات باتت تُشهر تقاريرها متهمة المغرب بالتراجع والنكوص في مجال الحريات، وهو ما سيمحو بالتأكيد أثر خطابات سوقها المغرب طيلة العقد الماضي من قبيل "الانفراج الحقوقي" و"العهد الجديد " وغيرها. ومهما كانت عداوة وصلف صانعي القرار في الجزائر، وتحامل الإعلام الإسباني، والذي ذبح بالمناسبة كل قيم الإعلام من مصداقية ودقة ...، فلن يبلغا معشار تحامل الإعلام الصهيوني العالمي المدعوم أمريكيا، تجاه قضايا كقضية تحرير الجنوب اللبناني على سبيل المثال، حيث فطنت المقاومة اللبنانية بشكل مبكر لأهمية سلاح الإعلام، واشتغلت على ورش تطويره والإبداع فيه خدمة للقضية الوطنية، فكانت النتيجة – رغم الحملات التي يشنها الأسطول الإعلامي المتصهين - أن تجاوزت تعبئتها حدود الوطن، إلى صناعة وتعبئة جبهة متعاطفة مع القضية على المستوى العالمي، وليس العربي والإسلامي فحسب، هذا ي الوقت الذي اشتغلت فيه قنواتنا على توفير الأمن "الترفيهي" للمواطنين، قبل الأمن الروحي والثقافي، من خلال هجومها الكاسح بالمسلسلات المدبلجة والبرامج الساقطة، التي لا يمكن أن تنتج إلا مواطنا مائعا، مغتربا عن قضاياه المصيرية. وفي خضم الأحداث الدامية بمدينة العيون، كان من المنطقي بل من المفترض أن نرى المجتمع المغربي يخرج عن بكرة أبيه تعبيرا عن رفضه وشحبه لما حدث، وعن تشبته بصحرائه، إلا أن ذلك لم يحدث مع الأسف الشديد، فلم يتحرك الشعب، ولم تتحرك فعاليات المجتمع المدني، إلا ما كان منها مدفوعا من قبل الجهات الرسمية – على الأقل الكثير منها –. والمتتبع لتغطية الإعلام العمومي لهذه التحركات، سيلاحظ لا محالة ضعف المشاركة، وغياب عنصر التلقائية فيها، وغياب الروح الحماسية في التظاهر، والتي تليق بقضية تم إيلاؤها مرتبة الأولوية كقضية الصحراء، وتستحق خروج الآلاف المؤلفة من أجلها، وتنظيم المسيرات المليونية، على الأقل على غرار أشكال التفاعل مع القضايا القومية والإسلامية كقضيتي فلسطين والعراق وغيرهما. ولا شك إذن أن هذه "البرودة الشعبية " وضعف التعبئة المجتمعية، تستحقان وقفة تأمل لتصحيح مسار الإعلام العمومي ومنهج تعاطيه مع القضية الوطنية الأولى، وتغيير القائمين عليه، أو على الأقل عقلياتهم إن أمكن، حتى يتمكن من مخاطبة وجدان المواطن، وتحسيسه بمركزية القضية، وتصحيح تمثلاته حول كل قضايا الوطن، والتي ارتبطت في ذهنه بأساليب خرقاء كانت تمارسها السلطة عن طريق أعوانها منذ عقود مضت، من قبيل إكراه السكان بطرق فجة على تعليق الأعلام الوطنية أيام المناسبات الوطنية، واقتياد "قطعان المواطنين" خاصة في البوادي، قسراً لمتابعة الخطب الملكية في مقرات السلطات المحلية، وهي الأساليب التي أصابت معاني المواطنة والانتماء بالضمور والانكماش. [email protected]