-تقييم نقدي – يعتبر النقد ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية، فضلا عن أهميته لكل تجمع بشري يهدف إلى تحقيق غايات معينة؛ فالحاجة إليه لا يكاد يجادل فيها أحد. واليوم ترفع جل التجمعات السياسية وغيرها شعار النقد والمراجعة لبرامجها ومشاريعها، ومن بينها الحركات الإسلامية بكل أطيافها؛ تطرح النقد أوما تسميه النصح والمحاسبة الذي يتجسد في المحطات التقويمية والمراجعات لأدائها وسير حركتها. وفي هذه المقالة سوف نطرح سؤالا أساسيا مفاده: هل هناك نقد حقيقي داخل هذه الكيانات؟ فإذا كان الجواب بالإثبات فسيتحتم علينا طرح أسئلة أخرى من قبيل : هل تمس العملية النقدية مستوى الجذور والبذور أم تقتصر على الظواهر والقشور؟ ثم ما هو مصير هذه الممارسة النقدية؟ هذا اذا افتراضنا وجود فعل نقدي حقيقي. قبل إعطاء بعض الإشارات كخطوة أولى للإجابة، نود أن نشير إلى أن النقد الذي نتحدث عنه، ليس هو الحديث الذي يتم بين الاتباع والمناصرين في صالونات مغلقة أوفي مناسبات معينة، أوبين فئات بعينها. و مبررات سؤالنا الأساسي تقوم على المؤشرات الآتية: -إن واقع حال الحركات الإسلامية في الحراك الإجتماعي، وكذا أداؤها السياسي لا يبشر بأفق زاهر؛ فكلما تقدم الزمن ازداد مشروعها تعقيدا وغموضا - أنها مازالت تعاني من حالة سكون معرفي "متحجر" ساهم في بطء عملية التطوير والتحديث بالرغم من الانتشار الأفقي الذي عرفته في الآونة الأخيرة . - إن التحولات السريعة التي يشهدها العالم وما يطرحه من تحديات على الإنسان المعاصر، لم تتم مواكبتها بتنظير في الأسلوب و وتجديد في الخطاب والمنهج . النقد لإزالة القداسة فما تدعيه التنتظيمات الإسلامية من ممارسة النقد، هو محض مزايدة على الأطراف المخالفة لها أو الظهور بمظهر التنظيم المجدد والمجتهد، وتدعم ذلك الاعتبارات الآتية: -التقويم والمراجعة لا ينفذ إلى عمق مشكلاتها ولا يمس جوهرها؛ فالجو السائد هو كثرة المجاملات وتكرار المقولات بشكل سلبي وتغيير صياغة الشعارات واعتبارها إضافات نوعية. -الاعتقاد السائد لدى القادة الاسلاميين ولدى قواعدهم أن المحافظة على الكيان التنظيمي يعد بنظرهم من أوجب الواجبات؛ وإن كان القول على أنه وسيلة لا غاية، ذلك أن هذه المقولة تتناقض مع واقعها، الشيء الذي يؤدى إلى تغييب دور النقد مخافة زعزعة مسلمات الكيان، ومن هنا، تنشأ قداسة التنظيم و يتأسس تحجره و جموده. -إن الأشخاص المنتظمين الذين عمروا ردحا من الزمن، وتقلبوا في مناصب عدة، يصعب أن توجه لهم انتقادات بدعوى أن النقد لما يطالهم فهو يطال الكيان التنظيمي برمته، فيصبح التماهي بين التنظيم والمنتتظم ، وبذلك تنضاف إلى قداسة التنظيم، قداسة الأشخاص، والنتيجة قداسة المحتوى/ المشروع. إن المشروع التغييري "الاسلامي" يخضع للظروف الثقافية والاجتماعية لكل مجتمع؛ ولذلك فالناظر الى الواقع المرير الذي يزداد سوءا، والذي يشتغل فيه لتغييره بعقلية متخلفة؛ تكون نتيجته أنه يتوصل إلى أعمال أسوأ لاسيما أن المنهج وطريقة العمل تقليديان، فالتحولات السريعة التي يشهدها العالم في شتى الصعد لا تترك فرصة للتمسك ببضاعة لا إقبال عليها؛ فالزبائن يمرون عليها دون أن يعيروها أي اهتمام، لأنها ببساطةلم تعد صالحة لهم، ومكانها الطبيعي المتاحف أو الأرشيف، وهذا حال التنظيمات الاسلامية العاجزة عن الابداع في اللحظة الراهنة. - ويبدو أن أصحاب هذه التنظيمات يعتقدون أنهم يحسنون صنعا إذ في السنوات الأخيرة لم يطرحوا بجدية وصرامة على طاولة المناقشة- بدعوى الأولويات وغير ذلك – مضامين مشروعهم الدعوي الذي حملوه لعقود ولم يخضعوه لنقد صارم وجذري، كي يصاغ من جديد وفق متطلبات العصر. بل مع الأسف الشديد لا تزال دار لقمان على حالها، و دليلا على أن النقد الحقيقي مازال لم يتسلل بعد الى داخل هذه الكيانات، ولا يصعب نموه في الظروف الراهنة، طالما أن هناك قداسات تسيج الكيان برمته. ويبقى السؤال عالقا: من سيقوم بهذه المهمة، ومتى سيتم ذلك، وبأي منهجية ؟ انكسار النقد من الداخل .. ما نقصده بالنقد من الداخل : أي من داخل التنظيم الاسلامي؛ ما تروج له المؤسسة التنظيمية للحركة الاسلامية من نقد لا يعدو أن يكون وهما أو سرابا يحسبه الظمآن ماء، ليس لأنه يمس ظواهر وسلوكيات متفرقة هنا وهناك فحسب، ولكن لأنه غير مؤسس على اقتناع مبدئي صادق؛ بدليل أنه لم يتحول إلى سلوك يومي في الحياة مواز للفعل والحركة. وما يحصل في الغالب الأعم أن من يريد القيام بفعل نقدي صادق ينظر إليه على أساس أنه يبحث عن زعامة أو منصب ما أو يريد أن يصرف مشاكل شخصية أو أنه تجاوز الخطوط الحمراء التي حددتها المؤسسة التنظيمية ...وهكذا تضيع فرص التغيير والتطوير بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معها –وسط جو مشحون بالالتباس والضبابية. لقد أثبتت التجارب الفردية والجماعية أن النقد من الداخل لا يكلل عادة بالنجاح، ولا يبلغ مراميه لعدة اعتبارات لا مجال لذكرها في هذا المقام؛ معنى ذلك أن التنظيم "الاسلامي" مغلق على ذاته ،و لا يسمح بمجرد طرح أسئلة تشكك في الخيارات، ولا يقبل أن يمس بنقد ينزع هالة القداسة المحاطة به وبشخوصه الذين يقفون سدا منيعا في وجه أي نقد معرفي جاد. فقاعات نقدية لا تقدم ولا تؤخر.. أحيانا نجد مقالات ومنشورات لمحسوبين على تنظيمات إسلامية معينة تحمل مسمى النقد فما أن نطلع عليها حتي نجد فيها كل شيء إلا النقد الحقيقي. وحين نشير إلى مسألة الممارسة النقدية، فإننا ندرك أن التنظيم الاسلامي منسوب القراءة والاطلاع الحر فيه ضئيل جدا و لا يتناسب مع حجم تمدده الأفقي، اللهم ما كان من توجيهات فوقية تأمر بقراءة كتب بعينها في الرد على من هاجم خياراته أو أحد قادته ..ليس إلا. أما ما نصادفه من كتابات أو مقالات تندرج في إطار نقد العمل الاسلامي، فهي بمثابة فقاعات نقدية صادرة عن نفسيات لا تحتمل وضعية ما، أو تخاف أن يسحب البساط من تحتها، لتأخذ مكانها الطبيعي، بعدما صنعت منها القواعد رمزا؛ فبمجرد أن يتلقف/يتلقى الأتباع والمناصرين منشورا من هذا النوع حتى ينقسموا إلى فريقين؛ فريق مساند وآخر مهاجم وكل يستعمل وسائله وأدواته الخاصة به في الرد والرد المضاد..بدءا من الفذلكة اللغوية وأساليب الاستهزاء واللمز، وتصحيح الاخطاء النحوية والمطبعية،...وإنتهاء بتوظيف واقتباس النصوص القرآنية أو الحديثية، وهكذا حتى تهدأ العاصفة، والنتيجة الاخيرة لا غالب ولا مغلوب، لأن الكل خاض معركة في غير معترك ولأن الكل استعمل ما هو مستهلك أصلا وما اسْتُهْلِكَ لا يُبنى عليه ولا يعتمد عليه بالمرة، -مثل ذلك الطباخ الذي يستعمل نفس الزيت في الطبخ عدة مرات. النقد الجذري لإنضاج الوعي.. لماذا نصر على النقد ثم النقد؟ لأنه السبيل الوحيد لإنضاج الوعي. وإذا تنامى الوعي، تتساقط الأصنام البشرية، وتنكشف العورات، ويبرز الإنسان كما هو، لا كما عرضته وصورته المؤسسة التنظيمية . كلما التفت جماهير كثيرة على تنظيم بشري سواء كان إسلاميا أو غيره، وتوسعت قاعدته يشعر بنوع من الغرور يؤدي به إلى تزكية كل ما لديه، لذلك يجب في عز النصر والإنتشاء به أن يمارس النقد ، ونقد كل شيء، فهذا الانتشار الأفقي للحركة الاسلامية الذي يشمل الطبقات غير المثقفة أو أصحاب التعليم المهني الذين يقودون في الغالب الأعم، لم يرافقه تطوير في منظوماتها المعرفية، نتيجة غياب النقد المعرفي من جهة، وغياب نخبة جديدة مبدعة حقيقة لا زيفا، وتوسع التنظيم "الاسلامي" يؤدي إلى الخلط ما بين المآرب الذاتية والتعاليم الدينية والثقافة والتدين... و هذا الواقع يدعو إلى ممارسة النقد وتحديدا النقد الجذري . إن كل محاولة نقدية تقترب من المنظومة الفكرية والمنهجية، يكون مصيرها اللامبالاة والاقصاء والتهميش أو ترمى في أقرب سلة قمامة؛ وثمة من يتسائل على أن النسق التنظيمي "الاسلامي" عصي أن يخترقه فعل نقدي حقيقي يوثر على نطاق واسع، والجواب ببساطةأن سدنته أشد شراسة في الذود عن الهيكل/التنظيم ومحتوياته مهما كلفهم الأمر؛ مخافة من هزة عنيفة، أول المتضررين منها هؤلاء السدنة! وكثيرا من أعضاء الحركة الاسلامية و المقربين منها لديهم خوف من أن يفضي النقد إلى انهيار الكيان التنظيمي واهتزاز مسلماته. إذن لماذا التوجس خيفة من نتائج الممارسة النقدية المعرفية؟ ربما عدم الوثوق من الأفكار والتصورات، وبدلا من التساؤل عن أسباب هشاشة الأفكار يتم الخوض في اللغط واللغو الذي لا طائل منه. مناخ النقد الحقيقي.. المراجعة النقدية التي نلح عليها آنفا لابد أن تتخذ شكلا صارما يتمثل في وضع النسق في أزمة، ونزع القداسة عنه بشتى انواعها. والنقد الحقيقي هو الذي يسقط الشعارات الزائفة والمقولات المحنطة، ويهز جذور الكيان وبذوره، ويخرجه من نفق "ثقافة الفقه" المهيمنة عليه إلى أفق الكشوفات المعرفية الحديثة... يتطلب الفعل النقدي في الأوساط الاسلامية وغيرها أجواء صحية سليمة، تتجلى في سيادة الحرية إلى جانب الديموقراطية والعلم والمعرفة. وتبقى مسألة الحرية من القضايا الملتبسة لديها؛ فقد حصلت بعض الأحداث كانت بمثابة اختبار لها، حيث لم تستطع أن تبرهن عن إيمانها العميق بالحرية، وتحمل نتائجها على مستوى خارج دائرتها. أما ما يتعلق بممارستها على مستوى الداخل فهي محاطة بسلسلة من القيود تخنقها،و تجعل الفرد/العضو يفكر ألف مرة قبل أن يعبر ويبدي وجهة نظره مخافة أن يثير القلاقل أو يجازف بمستقبله التنظيمي والسياسي. إن الأفكار الهشة والضحلة تنمو وتترعرع في وسط الكوابح والضوابط والقيود، أما الأفكار الحية والمنتجة فتنمو وتحيا وسط فضاء الحرية والنقد؛ فالأولى عدوتها الأخيرة، وتلقى من التعاطف الكثير، أما الثانية فعدوها القيود وتلقى من التعاطف القليل، وتلك مفارقة عجيبة! فالالتباس واقع في مفهوم الحرية وفي العلاقة بين القدسي والبشري. وخلاصة القول : ان الفعل النقدي الحقيقي لا يزال بعيدا عن مقولات الحركة الاسلامية وتصوراتها وأفكارها ، ومن دون هذا الفعل فستظل الحركة تراوح مكانها، ومن دون تفكيك التواءات وتشعبات التنظيم "الاسلامي" وبنياته الفكرية والاجتماعية، فسيظل قناع "النقد الذاتي" شعارا مرفوعا بلا محتوى.