تثير مسألة الكتابة عن النقد السينمائي في المجال الثقافي المغربي أسئلة مركزية ترتبط أساسا بكينونة وهوية هذا الجنس من الكتابة الموازية. فالأسئلة تتناسل كلما حاولنا مقاربة سؤال النقد وتفكيك بنياته المعرفية والإبستمولوجية بهدف التسلل إلى عوالمه والبحث في أصوله التاريخية. كما أن الحديث عن النقد السينمائي المغربي هو بالضرورة حديث عن الواحد المتعدد الذي عرف تطوره الطبيعي ضمن سياقات تاريخية ساهمت في تحديد هويته ووظائفه الفكرية والتربوية والجمالية. إذ أن المعطى التاريخي هو عنصر أساسي في التأصيل للممارسة النقدية المغربية التي ستعرف نشأتها وتطورها بتطور الإبداع السينمائي المغربي خاصة إذا اعتبرنا أن النقد هو كيان "سالب" لا يمكنه أن يؤسس لوجوده إلا من خلال خطاب سابق ألا وهو الإبداع. " إن الإبداع هو الذي يوفر للنقد إمكانية الوجود ويعطيه فرصة أخذ الكلمة"[1]، إلا أن هذا الرأي الذي ينظر إلى النقد باعتباره كائنا "طفيليا" سيعرف مراجعة خاصة مع المحاولات التنظيرية للمفكر الفرنسي رولان بارت ومن بعده تيار نظرية التلقي اللذين سيعتبران أن النقد هو إبداع من درجة ثانية وهو بذلك يحقق استقلاليته من حيث المعاني والدلالات التي يفرزها تفاعله مع الإبداع. فالنقد يتخذ من الإبداع منطلقا ليؤسس لخطابه ويدافع عن سبب وجوده وكينونته ضمن فسيفساء المشهد الثقافي العام بخصوصية مناهجه وأدواته الإجرائية والتحليلية. فإذا اعتبرنا أن النقد هو "خطاب حول خطاب يوظف لغة بصرية" و هو إجراء فكري يروم تقييم العمل الإبداعي، قد يجوز لنا أن نعتبر أن ظهور النقد السينمائي المغربي, شأنه شأن الإبداع السينمائي, هو جنس وافد على الثقافة المغربية عرف ظهوره الأولي من خلال تناولات نقاد أوربيين للأعمال السينمائية للمرحلة الاستعمارية. فإذا كان مجموعة من النقاد يجمعون على أن مغربة الممارسة السينمائية تمت في فترة الأربعينيات على يد المخرج العصامي محمد عصفور من خلال محاولاته الأولى في تجريب الإبداع السينمائي و"اقتحامه" لما ظل لسنين "امتيازا عرقيا" لسلالة قادمة من الضفة الأخرى, فيمكن القول إن المغربة في مجال النقد قد سبقت الإبداع من خلال ما كتبه المغاربة حول بعض الانتاجات السينمائية الكولونيالية التي استثمرت الفضاء المغربي ببعديه المادي (فضاءات التصوير، الممثلين) والرمزي (روايات محلية). ولنا في ما كتبه محمدالمعمري[2] مع بداية الثلاثينات من القرن الماضي في تقييمه لفيلم "وردة مراكش" 1930 الذي أخرجه المخرج الفرنسي جاك سيفراك عن رواية محلية سردها محمد المعمري على أسماع المخرج خير مثال على ذلك. ففي 29 يوليوز 1931 كتب محمد المعمري رسالة إلى المخرج يثني فيها على تمثله الإيجابي لفكرة الفيلم. يقول محمد المعمري : "أجدد لكم كل تهانينا, كما أكرر أن "وردة مراكش" هو من بين الأفلام النادرة التي لا تخدش كرامة المسلم. لقد تمكنتم من تفادي الوقوع في مطب مزج الشخصيات الأوروبية بالأهلية. حتى الآن, كانت الأدوار الجميلة دائما تسند للأوروبيين وهو أمر يمكن القبول به لكن بالمقابل يؤسف له. إن فيلمكم يندرج في إطار مغربي بشخصيات مغربية, كما أن الحكاية هي شبه واقعية والعرض فني للغاية. فبرأيي ,باستثناء بعض الجزئيات, ليس هناك ما يؤخذ على الفيلم.[3] إن هذه الرسالة بما تحتويه من تفاعل مع مكونات الفيلم الموضوعاتية والجمالية يمكن أن تحقق شروط الكتابة النقدية خاصة إذا اعتبرناها نتاجا لمرحلة تاريخية معينة من مسار نشأة النقد السينمائي المغربي. إنها تؤسس لبداية النقد في بعده الانطباعي. فالرسالة طرحت سؤالا عميقا لطالما طرحته الكتابات النقدية في مراحل لاحقة يتعلق الأمر بسؤال التمثل وبالأخص تمثل الهوية والآخر من خلال أفلام المرحلة الاستعمارية. فسؤال تمثل الأهلي/المغربي شكل اهتماما رئيسيا وانشغالا مرحليا للكتابات السينمائية المغربية التي نعتت أفلام هذه المرحلة بالكولونيالية نظرا لترويجها لمجموعة من الكليشيهات والصور النمطية التي اختزلت الأهلي في معاني سلبية. إن تطور النقد السينمائي المغربي تم ضمن إطار العصامية وهذه المرة سيشكل تمايزه عن الإبداع السينمائي على اعتبار أن أغلب النقاد المغاربة أتوا إلى الممارسة النقدية عبر بوابة الهواية من خلال التمرس على أدبيات القراءة الفيلمية التي وفرتها مناسبات تنشيط الأفلام داخل فضاءات الأندية السينمائية المنضوية تحت لواء الجامعة الوطنية للأندية السينمائية وفيما بعد إطارات سينمائية أخرى كجمعية نقاد السينما وكذا جمعية أفلام الشيء الذي لا نجده على الأقل في أجناس إبداعية أخرى ومنها على الخصوص المسرح حيت تمرس مجموعة من النقاد على الكتابة حول المسرح المغربي من خلال الدراسة الأكاديمية في فضاء الجامعة المغربية. إذ أن عصامية الناقد السينمائي المغربي تعود بالأساس إلى غياب السينما كمادة للتدريس عن المقررات الدراسية في الجامعة المغربية و بالأخص إلى موقع السينما ضمن المشهد الثقافي المغربي العام أو ما يسميه الناقد حميد اتباتو بانتساب السينما إلى "المنسي الثقافي"[4] حيث يؤكد في سياق آخر قوله إن "النقد السينمائي ونقد النقد السينمائي لا يشكل موضوعا جذابا (سواء بالنسبة للأفراد أو بالنسبة للمؤسسة الجامعية نفسها) على المستوى الجامعي والأبحاث المسجلة في هذا المجال قليلة جدا وهناك محاصرة شبه ممنهجة للاشتغال على المتن السينمائي في بعض الكليات"[5]. إن النقد في مجال السينما المغربية هو كيان متعدد الأوجه والوظائف حيث "إن النقد السينمائي في المغرب يمكن تقسيمه إلى ما يلي : نقد شفوي, ونقد صحفي, ونقد ذو نفس تحليلي وتأويلي"[6] . فضمن الشق الأول تتأطر جل المطارحات والنقاشات التي تعقب عرض الأفلام سواء في فضاءات الأندية السينمائية أو الملتقيات والمهرجانات السينمائية الوطنية. وما يعاب على هذا الصنف من النقد ,رغم أهميته, أن مستوى تداوله لا يتجاوز الفضاءات المغلقة التي تحتضنها مناقشة الأفلام وهو بذلك لا يمكن تداوله على نطاق واسع بل ولا يمكن توثيقه ونقله إلى قراء مفترضين. فبعكس النقد الشفوي، ينبني النقد الصحفي على شرط التوثيق سواء تعلق الأمر بالإعلام المكتوب أو المرئي أو المسموع. إن هذا الصنف من النقد عرف بداية فرنسية من خلال صحف ومجلات فرنسية كانت تفد على التراب المغربي في المرحلة الاستعمارية أو ما بعد الاستعمار ومنها على الخصوص مجلات "دفاتر سينمائية" و"بوزيتيف" و"سينما" حيث أن" اللغة الفرنسية هي اللغة الأولى في كتابة النقد السينمائي بالمغرب".[7] فالنقد السينمائي المغربي خطا خطواته الأولى بلغة المستعمر "وواظب" على "اغترابه" وولائه حتى في مرحلة ما بعد الاستعمار. إن تطور النقد السينمائي المغربي سيتم من خلال تخصيص مجموعة من المجلات والجرائد المغربية صفحات مهمة للنقد السينمائي خاصة مجلات "أنفاس" و"لاماليف" و"الثقافة الجديدة" وكذا بظهور مجلات متخصصة منها مجلة"سينما3" التي كان يشرف عليها الناقد نورالدين الصايل و "دراسات سينمائية" التي كانت تصدرها الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب (جواسم) وفيما بعد مجلة "سينما" لجمعية النقاد. هذا المنحى سيتقوى عند ظهور البوادر الأولى لميلاد السينما الوطنية خاصة مع فيلم "وشمة" 1970 للمخرج حميد بناني وما تلا ذلك من انخراط الصحف المغربية في مواكبة الانتاجات السينمائية الوطنية وتخصيصها لصفحات وملاحق سينمائية تعنى بدراسة وتحليل الأفلام المغربية بغية المساهمة في ترويجها على أوسع نطاق. أيضا ساهم الصنف الثالث أو ما أسماه الناقد نور الدين أفاية "بالنقد ذو النفس التحليلي التأويلي" في تحقيق تراكم نقدي له وضعه الخاص ضمن فسيفساء المتن النقدي المغربي وهو الصنف الذي تتأطر بداخله كتابات نقدية رائدة حاولت تجريب مناهج تمحت من حقول فلسفية ومعرفية مختلفة. فهي كتابات ذات بعد تنظيري استقدمت من حقول العلوم الإنسانية أدواتها المنهجية في التحليل والتأويل. إن اشتغال هذا الصنف من النقد أفرز مجموعة من الكتابات الرصينة التي استطاعت أن تؤسس لأساليب في الكتابة وإن لم تصل بعد إلى مستوى تأسيس مدارس نقدية بروادها ومؤسسيها ومريديها أيضا. ينضاف إلى الأصناف الثلاثة السالفة الذكر صنف يمكن نعته بالكتابة التوثيقية التأريخية وهي كتابة تتموقع بين الكتابة الصحفية والتحليلية التأويلية. يعنى هذا الصنف من الكتابة بالبعد التوثيقي وينشغل بقضايا التأصيل للظاهرة السينمائية بالمغرب ليس فقط على مستوى الممارسة أو الفرجة بل على مستوى كل الجوانب والتفاصيل التي تصاحب الإبداع في مجال السينما. لقد استقطب هذا الصنف من الكتابة بعض الأسماء النقدية التي ساهمت كتاباتها في التعريف بتاريخ السينما بالمغرب كما أسست لموقع متميز ضمن فسيفساء المشهد النقدي المغربي . إن العلاقة العضوية التي تربط الإبداع بالنقد تجعل من هذا الأخير مدعوا لمواكبة حركية الإنتاج السينمائي المغربي وتقييمه والاحتفاء به خاصة منه ما يخدم قضايا الإنسان المغربي الحقيقة. وبهذا المعنى فالنقد ما هو إلا موقع للكتابة ضمن مواقع أخرى للتبادل الرمزي التي يوفرها المشهد الثقافي العام. فشأنه شأن الإبداع يتخذ النقد شرعية وجوده من مبدأي الالتزام والمسؤولية. فالكتابة عموما والكتابة النقدية الحقيقية على الخصوص هي مسؤولية أخلاقية. فهي الكتابة التي تجعل من الجرأة الفكرية والأدبية منطلقا جوهريا لسبب وجودها بل هي الكتابة التي لا تدين بالولاء إلا للحقيقة ولا تشتغل إلا من خلال الإيمان بالتجرد عن كل ارتباطات وهمية قد تحور مضمونها وتشوه مقاصدها. فصفة الناقد هي مسؤولية تضع صاحبها أمام تحدي الجهر بالحق بعيدا عن إغراءات "الأظرفة" وعلاقات القرب التي قد تجمع بين المبدع والناقد. بل على العكس إن علاقة المبدع بالناقد (على المستوى النقدي لا الإنساني) يجب أن تظل علاقة "توتر" يحافظ من خلالها الناقد على المسافة الموضوعية التي تتيح له "مضاجعة" العمل الإبداعي بتجرد ودن أي تحيز بما يخدم قضايا الإبداع والنقد المغربيين. والحالة هذه أن واقع النقد المغربي يشي بوجود علاقات ملتبسة تحد من اشتغال كل من النقد والإبداع. ولعل العارفين بالشأن السينمائي المغربي وبكواليسه يعرفون أن هناك مجموعة من الكتابات التي تنخرط في التهليل لبعض الأفلام الرديئة وتروج لها على أنها تحف سينمائية مخلة بذلك بشرط الموضوعية التي يجب أن تتقيد بها أي كتابة نقدية. إن واقع الممارسة النقدية السينمائية المغربية لا يمكن عزله عن المشهد الثقافي المغربي العام الذي بدوره يعيش حالة من الانحباس بفعل تراجع الوعي بقيمة وجدوى الثقافة والإبداع ودورهما التاريخي في تحريك بنيات المجتمع. ومع هذا الوضع المضلل تظل الكتابة عن السينما ترفا فكريا ومغامرة لايقدم عليها إلا فئة من "المخبولين" اللذين يتملكهم العشق وتحركهم حرقة الانتماء إلى مجال الكتابة. كما أن الكتابة حول السينما في المغرب تنطلق من حرقة الأفراد أكثر من تبنيها من طرف المؤسسات الرسمية التي غالبا ما تنظر للنقد بنظرة الدونية لاعتبار أن النقد " كائن تابع" ليس له قوة التأثير التي تملكها الصورة وبالتالي فمسألة دعمه هي مؤجلة إلى حين. ومن هنا فدعم الإبداع السينمائي دون النقد لا يمكن فهمه إلا من خلال نظرة "الاحتقار" التي ينظر إليها للنقد وإلا كيف يمكن أن نفسر غياب الدعم في مجال الكتابة حول السينما سواء تعلق الأمر بالبحث الأكاديمي أو الكتاب السينمائي أو المجلة المتخصصة إسوة بدعم الإنتاج السينمائي. وبصيغة أخرى أما آن الأوان لخلق صندوق دعم الكتابة حول السينما بهدف إغناء المكتبات الوطنية وبهدف تحقيق التراكم النقدي الذي سيفضي لامحالة إلى تعزيز وجود النقد السينمائي المغربي ويعجل بظهور مدارس واتجاهات نقدية بهوى ونفس مغربيين. إن الدعم هو شرط تاريخي لتوسيع مجال الاهتمام بالإنتاج السينمائي عموما وهو حاجة ملحة لبقاء ووجود كيان النقد السينمائي وضرورة مرحلية حتى لا تظل مغامرة الكتابة حول السينما مجرد"مقاولة فاشلة".