السياق العام إن الظروف والتحديات التي تعيشها بعض الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية التي وجدت نفسها قي موقع متقدم في المشهد السياسي أمام تحدي تدبير الشأن العام لأول مرة على جميع المستويات في ظل ظرفية داخلية وخارجية جد صعبة تعيشها معظم الدول العربية ، وبحكم التطلع الشديد من الشعوب العربية لحلول ونتائج للخروج من هذا التيه الاقتصادي والفقر الاجتماعي والأزمة الحضارية، وبسبب خصومها ورموز الفساد المنتشرين في كافة مفاصل المجتمع الذين اتهموها بالافتقار لبرامج تنهض باقتصاد البلاد وتلبي مطالب الشعب الاجتماعية معتمدين في ذالك على بعض منابر الإعلام التي وصفتها بسمة العجز عن تقديم حلول عملية للمشكلات المعقدة. كل هذا أدى إلى تحميل هذه الأحزاب مسؤولية سنوات الفساد والتخلف والأزمة والحكم الديكتاتوري التي مرت بها بلدانها ، بل واعتبرها البعض شريكا في الفساد والاستبداد وإن لم تكن موجودة آنذاك. لا شك أن هذه الأحزاب تتحمل قسطا من المسؤولية في أغلب انتكاسات الربيع العربي جراء بعض القرارات غير المحسوبة جيدا أو طريقة التسيير أو عدم احترام سنن الاجتماع البشري والإخفاق في قراءة و تقدير الواقع السياسي. لكن من جهة أخرى هناك أحزاب سياسية بنفس المرجعية الإسلامية تمكنت من شق طريق واضح بمنهج وسطي معتدل مبني على قواعد وأسس ديمقراطية وواقعية جعلت منه نموذجا ومدرسة وتوجها متميزا في الإصلاح والتغيير الايجابي. فقه الموازنات و أسس فهم الواقع السياسي المعاصر من خلال ملاحظة أوجه فشل بعض هذه الأحزاب ، يتضح جليا القصور و التعثر في استحضار وتطبيق فقه الموازنات أو فقه التعارض والترجيح باعتباره علم ومعرفة أساسية مساعدة على تحديد الأولويات وإعطاء الحلول لمثل هذه المعادلات الصعبة في طرق تسير الشأن العام وبالتالي تخطي المآزق والانتكاسات. إن كلمة الفقه لا تتعلق فقط بالأمور الدينية والتعبدية من صلاة وصيام وزكاة و غيرها بل تتعداها إلى معرفة سنن الكون والمجتمع والتبصر بالواقع وبظروفه والعلم بنقط القوة والضعف وبالتحديات وبالإمكانيات الذاتية والموضوعية المتاحة، وكل ذلك ضروري للفهم والتأقلم مع واقعنا السياسي المعاصر. ينقسم فقه الموازنات إلى ثلاثة أصناف: الموازنة بين المصالح، فنوازن بين مصلحة وأخرى حيث نقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة والمصلحة الدائمة عن المصلحة المؤقتة. الموازنة بين المفاسد، فنوازن بين مفسدة وأخرى بحيث نقبل المفسدة الأقل ضررا ونترك الأكثر ضررا، ونقر بالمفسدة الجزئية على حساب المفسدة العامة. الموازنة بين المصالح والمفاسد، فإذا كان العمل على جلب المصلحة أكثر نفعا من العمل على درئ المفسدة اخترنا المصلحة على المفسدة والعكس صحيح. يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى: »فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً « ويقول: »إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما «1 و لكي تستطيع هذه الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية فهم وإدراك فقه الموازنات والعمل به لابد من امتلاكها لأمرين اثنين: العلم بالشرع و العلم بالواقع، فالأول معناه المعرفة والدراية بأحكام الله الشرعية وما الباعث لحكم ما والمقصد من تشريع ما، وكذا التبصر بأسباب ودوافع هذا الحكم، فهذا سيمكنها من دراية شرع الله بحكمة واعية قاصدة. والعلم الثاني هو معرفة الواقع والظروف الحقيقية للبلد وامتلاك الآليات العلمية والأدوات المنهجية والمعرفية الكفيلة بصناعة وتحليل السياسات العامة ووضع الأهداف وخطط العمل واليات التتبع ومؤشرات التقييم. حزب العدالة والتنمية: مقاربة الإصلاح انطلاقا من فقه الموازنات ولعل من أهم عوامل نجاح حزب العدالة والتنمية والمدرسة التي يمثلها في تدبير الشأن العام هو اقتناعه وعمله بفقه الموازنات فأسس بذلك لمعالم جديدة في فقه الإصلاح كان من أبرز قواعده : الإصلاح من الداخل والإصلاح في ظل الاستقرار، والإصلاح المبني على التعاون وليس الصراع أو الصدام ، إصلاح يعتمد على الشراكة مع مختلف الفاعلين وليس الهيمنة والتحكم، إصلاح يقدم مصلحة الوطن على مختلف المصالح الحزبية ، إصلاح ينبني على التدرج والتراكم و ليس القطيعة و التحكم... هذا المنهج الإصلاحي للحزب لم يكن وليد اللحظة بل هو راسخ في رؤيته ورسالته منذ تأسيسه حيث يعتبر نفسه: حزب سياسي وطني يسعى، انطلاقا من المرجعية الإسلامية وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديمقراطي، ومزدهر ومتكافل. مغرب معتز بأصالته التاريخية ومسهم إيجابيا في مسيرة الحضارة الإنسانية. ويعمل حزب العدالة والتنمية على تأطير المواطنين والمشاركة في تدبير الشأن العام وترسيخ قيم الاستقامة والحرية والمسؤولية والعدالة والتكافل. وذلك من خلال منهج سياسي مرتكز على الالتزام والشفافية والتدرج وإشراك المواطنين والتعاون مع مختلف الفاعلين، ساعيا إلى تمثل ذلك من خلال ممارسته اليومية وبرامجه النضالية، وواضعا المصالح الوطنية العليا فوق كل اعتبار.2 بل كان هذا المنهج حاضرا في ذهن وأفعال وكلام أمينه العام ورئيس الحكومة المغربية السيد عبد الأله بن كيران -والذي يعتبر أحد مؤسسي هذا المنهج الإصلاحي- وأضحى جليا في نصائحه وتوجيهاته ودعوته الأحزاب السياسية التي يتشارك ويتقاسم معها المرجعية الإسلامية بقوله : "وأنصح من نتشارك ونتقاسم المرجعية الإسلامية معهم بألا يعطوا مبررات أو أسبابا لتقع احتجاجات تعطى الفرصة للتشويش على منهج الإصلاح"وقال "نحن لا ننتمي للإخوان المسلمين ولا توجد لدينا أي علاقات تنظيمية معهم ، ونحن لدينا تصورنا الخاص وفكرنا الخاص ومؤسستنا الخاصة ، الحركة الإسلامية في المغرب لها فكرها الخاص". وأضاف :"لدينا قناعة جوهرية بأن الناس لم يصوتوا لنا لأننا إسلاميون أو لأننا سنطبق عليهم منطقنا الإسلامي ، ولكنهم صوتوا لنا لأنهم يعتقدون أننا حزب سياسي مرجعيته إسلامية" وقال :"لسنا في حاجة إلى أسلمة المجتمع لأنه مجتمع مسلم بالفعل ، ونحن جئنا لنعالج بعض الاختلالات المنهجية في المجتمع وليس من بينها أسلمة المجتمع ... والبشرية لن ترجع إلى الوراء".3 خاتمة إن الحديث عن فقه الموازنات وفقه الإصلاح سهل نظريا ولكن صعوبته تتجلى في صعوبة تطبيقه عمليا في المجتمع وبالأحرى في العملية السياسية، ولن يصل إلى امتلاكه إلا من وصل بتجربته وفكره ووعيه إلى درجة كبيرة من التقدم والممارسة الحكيمة والناضجة لشرع الله وفقه الواقع وحبه الصادق لوطنه. وإن غياب هذا المنهج الإصلاحي في الحياة السياسية لشيء خطير سوف ينهك البلد ويجعلنا لا نميز بين المهم والأهم وغير المهم و الخطير، وسيدفعنا إلى النظر للأمور ما بين ابيض و اسود فقط ، و سنتصارع على السلطة بدل إن نتنافس في الإصلاح فتسحبنا تبعا لذلك سننا الاجتماع البشري من الواقع و الميدان بينما إرادة وحكمة الله تأبى لنا غير ذلك فخلد القرآن ذكر وضرورة الإصلاح ، و جعله وفق الوسع و الاستطاعة ، و ذلك على لسان نبي الله شعيب مناديا قومه "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ. وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ .عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"(هود/88).فجعله فرض كفاية على المجتمع وفرض عين على المصلحين وبالأحرى الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية. 1. فتاوى ابن تيمية 2. حزب العدالة والتنمية، الرؤية والرسالة : من أجل مغرب الأصالة والعدالة والتنمية 3. حوار مع صحيفة "المصري اليوم" نشرته اليوم الأربعاء (20 فبراير 2013)