يشكّل خطاب التقريب بين المذاهب الإسلامية مساحة هامة في فضاء الخطاب الديني الراهن، خاصة بعد انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979، وما أعقبها من حروب الخليج الثلاث، ثم سقوط بغداد سنة 2003 ، وما تمخض عنه من ظهور بذور صراعات طائفية مذهبية، الأمر الذي يجعل مسألة التعدد المذهبي والتعايش بين مختلف المكونات المذهبية يثير العديد من الأسئلة والتحديات. وهي أسئلة تستلزم إجابات عميقة وصريحة، بدل التستر وعدم الخوض في إثارتها، أو السكوت عن اكتساح الفكر الأحادي وتسلطه على مذهب الأقليات. لقد سعت مؤتمرات التقريب بين المذهبين السني والشيعي إلى تسكين المواجع، والاكتفاء بمعالجة القضايا السطحية للتقارب أكثر من القيام بعملية تشخيص وفحص دقيقين، ثم المجاهرة والمصارحة بالخلافات الجوهرية. وحتى لا يقال أننا ننفخ في بالون الاختلافات بين المذهبين، فإننا سنميّز مستويين منها: - الاختلافات المذهبية الفقهية التي تمس الفروع دون الأصول، وهي ظاهرة صحية ودينامية في كل عالم ثقافي وحضاري، فالاختلاف المذهبي بهذا المعنى الفرعي ليس انقساما أو تشرذما أو تشتتا، وإنما هو حركة فكرية خلاّقة ومولّدة ، مع وجود اختلاف بين الأفهام والمدارك والرؤى ضمن الإطار الواحد الجامع . ويقدّم التراث الإسلامي جوانب مضيئة في مسألة الاختلاف الخلاّق: فقد استند الشريف الرضي في كتابه " حقائق التأويل" في معظم مروياته على أهل السنة، حتى أن القارئ للكتاب يصعب عليه تصنيفه ضمن كتب أهل السنة أو الشيعة . ولم يجد الإمامان البخاري ومسلم حرجا في تخريج عدة أحاديث لرواة من الشيعة ، حتى أن السيوطي خلص إلى القول أن كتاب مسلم يحتوي على نفحات شيعية. بل إن كثيرا من المجتهدين في هذا المذهب أو ذاك، تتلمذوا على المخالفين لهم في المذاهب الفقهية التي يعتنقونها . - الاختلافات في الأصول وهي التي نحتاج إلى وضعها تحت محك المجهر، وهي اختلافات لا يمكن أن تبقى طابوهات يحرّم اقتحام سياجها، أو يهوّن من خطورتها تحت ذريعة أنها من "خصوصيات" كل مذهب ، وهي اختلافات تشمل مجالين أساسيين: 1- المجال السياسي الذي لعب فيه النص على الإمامة الدور الحاسم في الخلاف، وقسّم المسلمين إلى عدة فرق وتيارات مذهبية ، من بينها تيار الخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة وأهل السنة والجماعة . وقد أحدثت هذه الموجة المذهبية شرخا كبيرا في وحدة دار الإسلام ، بل أسفرت عن دخول الأخيرة في مناخ من الاحتراب والتصارع ، وليس التدافع الإيجابي. وزادت الخلافات السياسية والتدخلات الخارجية من تعميق المشكل وتوسيع شقة الخلاف وإثارة النعرات ، حتى أصبح لكل طائفة مرجعياتها الخاصة في الإمامة، وتراثها التاريخي الذي يحبل بالتعصب المذهبي . 2- مجال التلقي في العقائد، وهو المجال الذي أثيرت فيه قضية الإيمان والكفر في محاولة جدلية لتحديد مفهومها من خلال معيار الإيمان ، ومدى اعتباره مجرد تصديق بالقلب وإقرار باللسان ، واعتبار العمل جزءا من الإيمان أم عدم اعتبار ذلك. كما أن المجمع العالمي للتقريب الذي عقد عدة دورات في طهران تجنب لحد الآن طرح أحكام التكفير والتفسيق التي تختزنها كتب التراث الشيعي، والتي ارتبطت بقضية الإمامة. فالمواقف الشيعية التي تكفّر الصحابة الذين أقصوا علي بن أبي طالب من الخلافة، والاستناد إلى مبدأ الوصية في الإمامة، تعدّ من المعضلات الأساسية التي أسست للحظة نشأة الخلاف حول السلطة، وبالتالي فإنها هددت وحدة العالم الإسلامي منذ عصر الخلافة وحتى اليوم. وتقابلها بعض الأحكام الواردة في متون التراث السني التي تكفر الشيعة وتضعهم في خانة الروافض كما هو الحال عند بعض المتشددين من السلفيين، ناهيك عن بعض الآراء الموغلة في التجسيد والتشبيه للذات الإلهية، فجل هذه المواقف تزيد من وقود الاختلاف بين المذهبين. مسألة أخرى تميط اللثام عن عمق الاختلافات العقدية بين السنة والشيعة على المستوى العقدي، وتتجلى في اختلافهم المنهجي من ناحيتين: أولاهما ناحية تحديد الثابت من السنة ومنهجية هذا التحديد ، حيث نجد اختلافا جوهريا في طبيعة السنة المقبولة لدى الشيعة. فهؤلاء لا يقبلون من السنّة إلا ما كان مرويا عن آل البيت ، وهو ما يعني إقصاء بعض ما روي عن الصحابة الذين يمثلون معظم السنة المقبولة لدى المذهب السني . أما الثانية فتتمثل في الاختلاف بين المذهبين في ترسيم حدود الفقه الشيعي ، حيث يمطّط الشيعة هذه الحدود لتشمل ليس فقط قول وفعل وتقرير الرسول (ص) ، وإنما أيضا قول وفعل وتقرير الإمام المعصوم. فمثل هذا التصور يقحم أقوال الأئمة – وهم بشر- كمرجع مواز لقول الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام ، مما يشكل إخلالا بفكرة ختم النبوة وانقطاع الوحي، ويجعل التقريب أمام مطبّة معقدة على أرض الواقع . وبالمثل، تبرز مطبّة عقدية أخرى تتعلق هذه المرة بمسألة تحريف القرآن، فروايات الكافي حول هذا التحريف والتي رواها الكليني (ت328ه) دون أن يقدح فيها ، وصرح المجلسي في " بحار الأنوار" بتواترها معنى ، يستلزم حسما قاطعا في هذه المسألة ، ناهيك عمّا يرويه الكليني أيضا بخصوص ما يسمى ب " مصحف فاطمة " ، فهذه أيضا قضية شائكة تسود على أرض الواقع، وينبغي الحسم فيها لما تحمل بين طياتها من خطورة تفرق بين معتقدات السنة والشيعة . وليس من باب المنطق في ظل أي تقارب أن يسمح بهذا اللغط حول النص القرآني ، أو أن تبقى ذرة من الشك حوله . يضاف إلى ذلك مطبّة عقدية ثالثة لا تقل خطورة عن المطبتين السالفتين ، وهي مسألة الإمام المستور الذي يعتقد الشيعة الإمامية بظهوره دون سائر المذاهب الإسلامية الأخرى. وإذا كان البعض يهوّن من هذه المسألة باعتبار أن الإمام لم يظهر بعد ، وعند ظهوره يمكن أن نتفق أو نختلف فيه، فإننا نرى أن رؤية المسألة بهذا الشكل تبتسر الإشكالية، وتتناولها بطريقة فجة بهدف عدم إثارة الخلافات العميقة بين المذهبين ، دفاعا عن أطروحة التقارب البعيدة عن جوهر الواقع . فمتى سيلتقي علماء السنة والشيعة في لقاء علمي تاريخي، يسعى إلى تجاوز الخطابات التوليفية التي لا تغادر حدود الأقوال النظرية، ويبلور حوارا ديناميا بعيدا عن حوار الطرشان؟ حوار يرقى سقفه إلى المصارحة واستعداد كل طرف لنبذ ما لا يراه الطرف الآخر صائبا؟