في موقف الإمامية بعض الاضطراب، ومن أصوله -كما يبدو- اختلاف بعض الآثار الواردة في كتبهم، بل في أعلاها عندهم وأصحها، أعني «الكافي» لمحمد بن يعقوب الكليني. النصوص المفيدة لإسلام الفرق الأخرى أو لكفرها يروون عن جعفر الصادق: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماما من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيبا. ذلك أن الولاية في المذهب من أركان هذا الدين. عن أبي جعفر عليه السلام: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية. ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية.. وفي باب الكفر من كتاب الإيمان والكفر عن أبي مسروق: سألني أبو عبد الله عن أهل البصرة، فقال لي: ما هم؟ قلت: مرجئة وقدرية وحرورية. فقال: لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء. ومن جهة أخرى: قال الحسن عليه السلام، ضمن مجادلة طويلة مع معاوية: «إنما الناس ثلاثة: مؤمن يعرف حقنا، ويسلم لنا، ويأتم بنا، فذلك ناج، محب لله وليٌّ. وناصب لنا العداوة، يتبرأ منا، ويلعننا، ويستحل دماءنا، ويجحد حقنا، ويدين الله بالبراءة منا، فهذا كافر مشرك فاسق، وإنما كفر وأشرك من حيث لا يعلم، كما سبوا الله عدوا بغير علم، كذلك يشرك بالله بغير علم. ورجل آخذ بما لا يختلف فيه، ورد علم ما أشكل عليه إلى الله مع ولايتنا، ولا يأتم بنا، ولا يعادينا، ولا يعرف حقنا، فنحن نرجو أن يغفر الله له، ويدخله الجنة..»، وقال جعفر رحمه الله: «الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس».. وعن هذا الخلاف يتخرج اختلاف آخر في المذهب حول مشروعية الصلاة وراء المخالف. وأنت إذا راجعت كتابا من أقدم وأهم ما ألفه الإمامية في العقائد، تلاحظ هذا الاضطراب أيضا، وإن بدرجة أقل. ذلك هو كتاب التوحيد للشيخ الصدوق رحمه الله. فقد عقد بابا في «ثواب الموحدين والعارفين»، ضمنه خمسا وثلاثين رواية عن النبي الكريم والأئمة، وهي روايات يمكن تقسيمها إلى قسمين: الأول: فيه ثلاثة وثلاثون خبرا يفيد جميعها بأن من قال لا إله إلا الله، ومات عليها، أدخله الله تعالى الجنة. فتكون الشهادة شرط النجاة في الآخرة. وهذه أحاديث مشهورة، وردت عن أهل السنة أيضا وبكثرة. الثاني: روايتان، في الأولى أن أبا عبد الله قال: إن الله تبارك وتعالى ضمن للمؤمن ضمانا. فقيل: وما هو؟ قال: ضمن له -إن هو أقر له بالربوبية ولمحمد (ص) بالنبوة ولعلي عليه السلام بالإمامة، وأدى ما افترض عليه- أن يسكنه في جواره. والثانية نسبها الصدوق للرضا رحمه الله، والذي بلغ بها الرسول (ص) فالله عز وجل، أي أن الحديث قدسي. قال الله جل جلاله: لا إله إلا الله حِصني، فمن دخل أمن من عذابي. ثم قال الرضا: بشروطها. وأنا من شروطها. وعلق على ذلك الصدوق بقوله: من شروطها الإقرار للرضا عليه السلام بأنه إمام من قبل الله عز وجل على العباد، مفترض الطاعة عليهم. فهل نأخذ بالروايات الكثيرة والصريحة في إسلام الموحّد، وأن مآله في الآخرة الجنة. ويُنظر في سند الروايتين، فإن ثبت أُولتا، كأن نقول مثلا: الإقرار بالإمامة شرط كمال في النجاة.. أي نحاول الجمع بين الأدلة، أم نعتبر هذين الخبرين مقيدين لسائر الروايات المطلقة، وبذلك نلغي -عمليا- الأخبار الثلاثة والثلاثين، ولا تعود لها قيمة، لأن الحكم يؤخذ من الحديثين الآخرين، فيكون دخول الجنة مشروطا لا بالإقرار بالتوحيد، بل بالإقرار بالولاية والإمامة؟ يبدو أن الشيخ الصدوق يأخذ بالاحتمال الثاني، فقد عقد في كتاب آخر له: بابَ الاعتقاد في الظالمين. ومما جاء فيه: «اعتقادنا فيهم أنهم ملعونون، والبراءة منهم واجبة.. فمن ادعى الإمامة وليس بإمام فهو ظالم ملعون.. واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والأئمة من بعده -عليهم السلام- أنه بمنزلة من جحد نبوة جميع الأنبياء. واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدا من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة محمد (ص). وقال الصادق عليه السلام: المنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا»... اختلاف متكلمي الإمامية في المسألة هذا التعارض في النصوص انعكس بدوره على الآراء الكلامية لعلماء الإمامية ومواقفهم من المخالفين. وقد لخص العلامة الحلي ذلك في شرحه لكلمة الطوسي في التجريد: «ومحاربو علي عليه السلام كفرة، ومخالفوه فسقة»، فقال: «وأما مخالفوه في الإمامة فقد اختلف قول علمائنا فيهم، فمنهم من حكم بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة، وهو النص الجلي الدال على إمامته مع تواتره. وذهب آخرون إلى أنهم فسقة وهو الأقوى. ثم اختلف هؤلاء على أقوال ثلاثة: أحدها: أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة. الثاني: قال بعضهم: إنهم يخرجون من النار إلى الجنة. الثالث: ما ارتضاه ابن نوبخت وجماعة من علمائنا أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود، ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان المقتضي لاستحقاق الثواب».
في كيفيات رفع التعارض والكلام في أسباب هذا الاختلاف في الأخبار كلام طويل ذو شجون، فإن التعارض الذي يوجد في كتب الإمامية وأحاديثها كثير، وهذا من أهم الإشكالات القائمة اليوم كما سنرى مستقبلا. ويبدو أن هذا التعارض يمكن أن يرتفع بوسائل مختلفة كما قال الشيخ حسين فضل الله: «إن العقائد التي بها يكون الإنسان مسلما، وبإنكار إحداها يكون كافرا، بالمعنى المصطلح للكفر بالقرآن، هي: الإيمان بالله الواحد، والإيمان بالنبي المرسل والكتب، والإيمان باليوم الآخر. فإذا آمن بها كان مسلما، وإذا أنكرها أو أنكر إحداها كان كافرا.. فنحن لا نعتبر أن المسلمين من غير الشيعة هم كفار، بل هم مسلمون، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم». أو كما يقول جواد مغنية رحمه الله: «الإمامة ليست أصلا من أصول دين الإسلام، وإنما هي أصل لمذهب التشيع، فمنكرها مسلم إذا اعتقد بالتوحيد والنبوة والمعاد، ولكنه ليس شيعيا». أو كما قال طباطبائي: «ليس هناك أي دليل على أن الخطأ في الاعتقاد في موضوع الإمامة والخلافة بعد النبي (ص)، سيؤدي بصاحبه إلى نار جهنم. بل على العكس، لدينا أحاديث لأئمة الشيعة يصرحون فيها بأن المسلم، إذا كان متقيا، فهو من أهل النجاة، حتى لو لم يعترف بإمامتهم». والمقصود أن المسألة مسألة إرادة إلى حد كبير، أي إرادة التقارب مع أهل السنة: هل هي متوافرة أم لا؟ لأنها لا إذا توافرت لن يعدم المذهب حلولا للمسألة. محصلة هذا البحث ويظهر أن الرأي الغالب بين الإمامية عبر تاريخها هو تكفير المخالفين لها، خاصة أهل السنة منهم، بل كفّروا حتى الشيعة المخالفين لهم. وقد حكى ذلك المؤلفون في المقالات والفرق، ومنهم عبد القاهر البغدادي. وحكاه أيضا المقبلي الزيدي، وهو متأخر عن عبد القاهر، قال: «إن مذهب الإمامية تكفير من لم يكن على مذهبهم كفرا صريحا لا تأويلا. قالوا: لأن الأمة أنكرت ما علم من الدين ضرورة من النص على عليّ وعلى أئمتهم. والزيدية عندهم من جملة الكفار». لذلك لا يزال بعض هذا الاضطراب قائما في كتب بعض الإمامية المعاصرين. ويبدو أن الذي عليه أكثر الإمامية المعاصرين هو القول بإسلام أهل القبلة. فمن جملة فتاواهم ما يلي: - قال الشيخ بشير النجفي: «كل من يقر بالتوحيد ويعتقد بنبوة محمد بن عبد الله (ص)، وأن رسالته خاتمة النبوات والرسالات الإلهية، وبالمعاد، ولا يرفض شيئا مما علم وثبت أنه من الإسلام، فهو مسلم.» - وقد وجهت أمانة المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية سؤالا في الموضوع، فأجاب كثير من قادة الجعفرية وعلمائهم بإثبات إسلام الفرق الإسلامية الأخرى من سنة وزيدية وإباضية. منهم السادة آيات الله: علي خامنئي، وعلي السيستاني، وفاضل لنكراني، ومحمد سعيد الحكيم.. وغيرهم. ولا يعني هذا انقراض مذهب التكفير بين الإمامية، بل هو حاضر موجود. يقول حيدر حب الله: «لسنا نمانع أن نطالب بعض الشيعة -وهم قليلون أيضا في ما نعلم- بوقف مسلسل التكفير المتبادل، والإقلاع عن سياسة تخوين إخوانهم من أهل السنّة والجماعة، وإعادة النظر في بعض موروثاتهم في هذا المجال». لذلك من أهم واجبات الإمامية اليوم، في سبيل تأليف الأمة، الاعتراف الصريح بإسلام أهل السنة، وإذاعة ذلك، وتعليمه للعوام.. بشكل لا لبس فيه. يتبع...