" من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة "رواه أبو داود كثير هم العقلاء الذين تنبهوا لكذب ومكر التاريخ فألقوه في المزبلة مادام التاريخ يكتبه الطغاة ومصاصو الدماء، و كثير هم الفضلاء الذين اكتشفوا زيف وخداع دعاة الأخلاق فانتفضوا ضدهم مادامت الأخلاق كما يذهب صاحب جينيالوجيا الأخلاق نيتشه يصنعها الأسياد المتسلطون والانتهازيون، و كثير هم الشرفاء الذين توصلوا إلى أن المسؤولية لا تليق بهم فزهدوا فيها مادامت المسؤولية والادعاء بتحملها بصدق وأمانة أكبر خدعة انطولوجية اخترعها الإنسان عبر التاريخ القيمي والرمزي للوصاية على أخيه الإنسان وكبح حريته. ربما تبدو الفكرة غير ناضجة ابستمولوجيا وتفتقد لرؤية موضوعية وعقلانية لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن من بين أهم شروط العقد الاجتماعي كما خطه روسو أن يتحمل كل واحد منا مسؤوليته في إطار وحدود ما يتعلق به من حقوق ووجبات بشكل يرسي ويثبت لبنات السلم الاجتماعي ويضع كل شيء في موضعه المناسب له بحيث لا يتجاوز أو يتطاول أحد على صلاحيات الأخر الأمر الذي يخلخل ويدمر شبكة العلاقات الاجتماعية التي تؤطر نسيج المجتمع وتقوي لحمته. لكن في المقابل ماذا عندما تصبح المسؤولية نوعا من الوصاية والتسلط على رقاب الناس من طرف مسؤولين رعاع همهم الأول والأخير تفريغ شحنات كبتهم السلطوي! ثم ماذا عندما يتحكم الأشرار في الأخيار ألا يؤذن ذلك بقيام بالساعة! فكثيرا هي اللحظات التي تحولت فيها المسؤولية إلى ممارسات بربرية وطائشة تنتهك كرامة الإنسان وتحط من إنسانيته، وكثيرة هي اللحظات التي تحولت فيها المسؤولية إلى سلوك عدواني سافر و إملاءات بيروقراطية صارمة غير قابلة للرد أو للنقاش من طرف المسؤولين. إن أغلب المسؤولين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الناس أصبحوا ينظرون إلى أنفسهم كأفراد فوق القانون بل والناموس الإلهي، وفوق التاريخ، وفوق الحقيقة، وفوق العقل، لا أحد يجرؤ على محاسبتهم أو رد طغيانهم إذ لا صوت يعلو فوق صوتهم، ولا رأي يضاهي أرائهم صحة ووجاهة فالمسؤولية في نظرهم سلطة قوامها القمع والإكراه ولاشيء غير ذلك. ولأن الزمن قد كفر وارتد إلى الوراء وأصبحت المسؤولية مجالا يتهافت عليها الغث والسمين، الطيب والخبيث، وأصبحت كأي سلعة تباع وتشترى من سوق النخاسة البشري فإن قيمتها الرمزية والاعتبارية قد أصبحت بخسة وغير ذات قيمة وفضلا عن هذا لم تعد ذلك الاختبار الإنساني والوجودي الشريف والنبيل الذي لا يشعر فيه ومن خلاله الإنسان أنه فعلا تحت رحمة مسؤولين مزيفين ومرضيين يحتاجون باستمرار إلى علاجات إكلينيكية مركزة نظرا لما يعتريهم دوما من تضخم أناوي وما ينتابهم من أوهام سادية تجعلهم ينظرون إلى الآخرين نظرة دونية لا تليق ببشر. ولهذا يفهم كيف أن مجموع المسؤولين وأخص بالذكر المسؤولين العرب يتصرفون بعجرفة وعنف مبالغ فيه يتجاوز كل تصور إنساني، فمن الضغط النفسي إلى الإكراه الجسدي تتعدد تقنيات وأشكال الظلم الممارس على الإنسان العربي المسكين، ولعل الميل الدائم لممارسة العنف من طرف المسؤول العربي له ما يبرره سيكولوجيا وثقافيا، ففي ظل ثقافة تقليدية وبدوية تلبس لباسا عصريا و حداثيا، وحيث لازالت الترسبات الثقافية المستكينة و الغلبانة، وأيضا الذهنية المعطلة والمستقيلة هي ما يميز النسق المجتمعي العربي فإن المنطق العلائقي الذي يتحكم في صيرورة و سيرورة الإنسان العربي بأخيه الإنسان هو منطق السيد والعبد القائم على الطاعة العمياء والرضوخ التام لمشيئة السيد وإلا فالعصا لمن يعصى، ألم يصور الشاعر العربي الكبير المتنبي هذه العلاقة الشاذة في أبلغ صورة بلاغية محكمة عندما حدد شراء العبد مقرونا بشراء العصا، إن هذه الوجبة التراثية الزجرية( الزرواطة) التي أسس لها السيد العربي وإن شئنا القول المسؤول العربي وتفنن في استعمالها تفننا منقطع النظير، وعكس من خلالها سلوكه الاستبدادي والتسلطي ما كان لها أن تجد تربة خصبة لتنمو وتترعرع ولتصبح أمرا واقعا لولا المسار الدموي الطويل الذي أفرزته الثقافة البدوية والقبلية القائمة على الشوكة والغلبة، وأيضا عززته سياسة الهيبة القائمة على منطق الحديد والدم التي كانت ولازالت مبدأ ونهاية أي مدخل لكسب مشروعية المستبد وفرض إرادته وهيبته. إن شعور المسؤول العربي ولو في منصب صغير أنه إنسان مخصي تاريخيا لا ينتج إلا قيم التخلف والتبعية والاستلاب وأنه غير محبوب بين الناس يولد فيه أعماقه وفي باطن لا شعوره كل مشاعر الاحتقار و التبخيس لأخيه الإنسان، مما يجعل العلاقة بينه وبين الناس تقوم على التعالي والترفع بشكل يعتقد فيه أنه خارج فصيلة البشر، وأنه من يملك حق العطاء والمنع لا يمكن للإنسان أن يحيا بدون سخاءه وكرمه وبالتالي من واجبه أن يعاملها كما يعامل السيد العبيد الأمر الذي يولد لدى الناس كرها دفينا للمسؤول لكن مغلفا بلباس التقية مخافة جبروته وسطوته، وهذا أيضا ما يؤثر على العلاقة الإنتاجية التي تربط هذا المسؤول بمن يتحكم في مصائرهم ويفرغ العمل من مضامينه الإنسانية النبيلة، فعلى مستوى العلاقات الاجتماعية فإن الاحترام والتقدير الاجتماعي يسهمان في تحفيز العامل المنتج ويؤدي بالضرورة إلى تحسين الإنتاج و المردودية، لكن في اللحظة التي يتغول فيها المسؤول ويصبح الجميع في نظره أقزام تفتقد الفاعلية الإنسانية جوهرها النبيل، وتضيع الحقوق والواجبات، ألم يقل الفيلسوف فيخته ذات يوم أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بين الناس بما يعنيه ذلك من ضرورة أن يتحلى الإنسان مهما كان مسؤولا بالروح الإنسانية و يتعاطى مع الهم الإنساني بايجابية تسمح له أن يصبح في نظر الجميع محبوبا... *كاتب مغربي [email protected]