عند ما علم بعض المعارف بنيتي للسفر لأول مرة للمغرب في أواخرعام 2010 ، أبدى البعض دهشته من سفري، باعتبار أني رجل جاد في حياتي والمغرب ليس الا بلد أنس وسياح، وحذرني آخرون من المقالب التي سأتعرض لها ، حتى أني بدأت أتردد في السفر لولا أان التذكرة من النوع الذي لايسترجع . اتصلت ببعض الشباب ممن يتابعون كتاباتي في المغرب طالبا منهم الحجز في فندق وسط البلد لقضاء الليلتين الأولتين في الدارالبيضاء إلا أنهم أصرو بأن أكون ضيفهم وأجلس في بيوتهم، قالوا ألست تريد أن تتعرف على أهل المغرب والشعب المغربي؟، أنت ضيفنا، مكانك بيننا، وفعلا كان في استقبالي بالمطار كل من مدرس اللغة الفرنسية محمد الذي يحب أن يحب نفسه بسيمو المتنبي وسفيان وعبد السلام. وأصر محمد على استضافتي في منزله، وقضينا الليلة نقلب الكتب في مكتبته. بقيت في سفرتي تلك 12 يوما – لم أذهب فيها للمطعم إلا 5 مرات، فالكرم واحدة من سمات الأخلاق المغربية يتشارك فيها العرب والأمازيع. عندما عدت كتبت عن مفاهيم الشرف والالتزام عند المرأة المغربية موضوعا بعنوان "المغرب وما أدراك ما المراة المغربية : دعوة لتنظيم دورات لتعلم الأخلاق والكرم العربي في كل مدن المغرب لبعض مواطنينا من دول الخليج العربي"، فالمرأة المغربية شخصية قوية تتميز بتمسكها الشديد بالخلق العربية، واثقة من نفسها، تخلصت من عقدة الأنثى الضعيفة التي تتصنع بحياء مفتعل أحيانا كما نراه سائدا بين الكثير من النساء العربيات المتظاهرات بالتمسك بالمحافظة. تتمسك المغربية بمواقفها كإنسانة تريد أن تساهم في بناء بلدها، وتأكيد ذاتها من خلال الأدوار الاجتماعية التي تعيشها، لا تحكمها عقدة الرجل الشيطان، هو إنسان مثلها مع اختلاف الأدوار البيلوجية الوظيفية في عملية ديمومة الحياة ، ولا أحد يجبرها على أداء ما لا تريد، واعتزازها بكرامتها يجعلها تتخطى الخوف من هذا الشيطان. عندما تركت الدارالبيضاء إلى الرباط ، كان هناك في استقبالي في محطة القطار كل من الصحفي يوسف بوستة ، وعمر ، ومنصف. وكان عمر يريدني أن أقيم معه في غرفته ، إلا أني كنت مصرا على الإقامة في الفندق ، ولم يفارقني عمر طيلة الفترة إلا وقت النوم . في ليلة أخذني الشباب إلى منطقة سياحية مشهورة يؤمها أهل الرباط هروبا من الحر والترويح عن النفس، اسمها هرهورة، كنا نتمشى وكان الوقت قد تجاوز الساعة الحادية عشرة ليلا . وعلى طول الشريط الساحلي الذي تنتشر عليه المقاهي ، تنتشر على أرصفته بسطات وأكشاك بيع الفواكه والمكسرات والسندويشات وغيرها مما يثير رغبات السائح، رأيت في تلك الساعة كشكشين أو بسطتين لبيع الكتب تنتشر كل منهما على مساحة من الأرض لاتقل عن 4 في 5 أمتار أو أكثر. يعرضان مجلات وكتب متنوعة، ويشرف على البيع في أحدهما 3 أنفار وفي الأخرى 4. أوقفتني هذه الظاهرة كثيرا وأثارت في عقلي التساؤل التالي : لو لم يجني هؤلاء الباعة السبعة مايكفيهم لإعالة عوائلهم من الأرباح من هذه البسطات، لما تحملوا عناء السهر والوقوف حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل .فأدركت أني رأيت الوجه الآخر من اليمن .!؟. وأكثر ما يثير الاستغراب هو تواجدهم في منطقة سياحية تماما، يفترض أن لاعلاقة بالفكر والثقافة. وإلا فإن هكذا بسطات وأكشاك تنتشر على امتداد شارع محمد الخامس أشهر وأهم شوارع الرباط ، قد يتجاوز عددها ال 15 بسطة . وبمراقبتي لبسطات شارع محمد الخامس لاحظت أن هناك اثنين أو ثلاثة وأحيانا أكثر يتناوبون على البيع بها، هذا إضافة إلى وجود خمسة مكتبات كبيرة، وعشرات المكتبات الأخرى الصغيرة، وكلها مزدحمة بالشراء والباحثين عما هو جديد في عالم المعرفة، وعلى امتداد ساعات النهار . هذه الظاهرة تؤشر إلى تطلع الإنسان المغربي ولهفه للمعرفة والعلم وتوسيع مداركه . أي أنه يمكن القول إن سوق الكتب المغربية هي واحدة من أفضل الأسواق العربية فكثرة محلات بيع الكتب مؤشر لتوجهات الفرد المغربي العادي. الملاحظة الأخرى التي يراها المراقب في الحياة الثقافية المغربية ، كثرة المجلات والدوريات الشهرية أو الفصلية، وأركز هنا على المغربية، منها، وإلا فإنك تجد أيضا كل المجلات العربية التي تصدر في البلدان العربية المختلفة متوفرة هناك. تجد في هذه الدوريات ما هو وازن وعميق من الموضوعات الفكرية في مختلف الجوانب الثقافية، وموضوعات فكرية غنية بالمعلومة وعميقة في التحليل، من تلك الموضوعات التي يجد الإنسان نفسه قد اكتسب شيئا جديدا من المعرفة، والانتباه إلى مالم ينتبه له من قبل بعد قراءتها . ففي كل عدد وكل دورية جديدة هناك موضوعات متخصصة يناقشها كتاب ومفكرين وأكاديمون مميزون من زواياها المختلفة بحيث يمكن أن يتشكل لدى القارئ المتعمق رؤية واضحة عن تقربه من الموضوعات المبحوث عنها. لا أدعي الاطلاع الكلي والمتابعة اللامحدودة لما يصدر من دوريات، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع التوجهات الفكرية لهذه الدوريات، أقول من حق المدرسة الثقافية المغربية أن تفخر في أنها تصدر دوريات مثل الملتقى ، المنعطف ، وجهة نظر ،الأفق الديمقراطي ، النهضة ،ادليس ،السياسات العمومية ، الأزمنة الحديثة ،مجلة التاريخ العربي ،مجلة المجتمع العلمي المغربي ، مجلة التربية والتعليم ، الدراسات النفسية والتربوية ، إضافة لعشرات الدوريات الأخرى التي تصدرها أقسام الجامعات وكلياتها ، والوزارات المختلفة . حتى المجلات والدوريات الدينية مثل : يتفكرون ، وإسلامية المعرفة ، تجدها مختلفة كليا عن كثير من مثيلاتها العربيات ، تُطُلع فيها على الرأي الفقهي والبحوث الدينية الرصينة البعيدة عن التعصب المرضي ، والهوس الديني غير المنضبط بقيم الدين والأخلاق . هذا ناهيك عن ما بقي من أعداد المجلة الشهرية " فكر ونقد " التي كان يرأس تحريرها المرحوم عميد الفكر العربي محمد عابد الجابري . . ولا أريد أن أخصص أحدا كي لا يبدو وكان في الأمر انحيازا لكاتب على حساب آخرين، لكني قد أتعرض هنا لأمثلة لا لحصر الظاهرة والوقوف عند هذا الكاتب أو ذاك. لكن يمكن القول : لو( والمثل يقول إن لو زرعوها لكنها لم تخضر ) إن المثقف العربي انتبه وتابع ما كتبه الاستاذ مصطفى المرابط في مجلة "المنعطف " منذ ابريل 2003 تحت عنوان " آن الأوان لانتفاضة المفكر " في العدد الخاص الذي صدر تحت عنوان " الاستراتيجية الأميركية في العالم العربي والإسلامي: الوجه والقناع " ، كان يمكن أن نكون قد تجاوزنا كثيرا من المشاكل التي نعيشها الآن على مستوى الساحة العربية عموما. لو مسكنا أي من هذه الدوريات الفكرية، وقارناها بأي من تلك التي تصدر في بعض البلدان الخليجية وما تزهو به عادة من مظهر وشكل أنيق وتزويق ، وطباعة مميزة . آخر عدد لإحداها جاء خاصا بالأبراج والنجوم ، وكأن المشرفين عليها يعيشون خارج التاريخ، ويتعمدون تغيب عقل القارئ العربي بما لايعنيه ولا يشكل هما يتماشى فعلا مع همومه اليومية. من الواضح أن اختيار مثل هذه الموضوعات تعكس رغبة المشرفين على المجلة لتعبئتها بموضوعات تنقل الإنسان بعيدا عن حياته اليومية المعاصرة تخلصا من إحراجات السياسة وتوجهات دولة الصدور . ولو غادرنا المجلات والدوريات المغربية إلى الدوريات الجادة التي تصدرعلى مستوى الساحة العربية ، فمن النادر أن تجد واحدة منها مهما كان تخصصها تخلو من مساهمة أو أكثر لكاتب أو باحث مغربي أو أكثر. الأمر الذي يعكس غنى الساحة الثقافية والفكرية العربية في المغرب بالعقول المفكرة الحاملة لهموم الإنسان العربي، ما يؤهلها لقيادة الساحة الفكرية والثقافية على امتداد الوطن العربي، وتأخذ الدور المميز الذي كانت تعيشه لبنان ومصر بالذات والعراق وسوريا بشكل نسبي في فترة الخمسينات والستينات وحتى نهاية السبعينات. ونحن نتكلم عن الحراك الثقافي في المغربي ، يلاحظ المتابع أن هناك ندوات تكاد تكون يومية في مختلف مجالات المعرفة والثقافة، وتلعب جمعيات المجتمع المدني والفروع الإنسانية في جامعة محمد الخامس أدوارا مميزة في إجراء ذلك. وشهدت مرة فعالية في قسم العلوم السياسية والقانون في جامعة محمد الخامس تجربة مميزة لفعالية استغرقت نهارا كاملا لتدريب طلاب الماجستير على دور مندوبين لبلدانهم في الأممالمتحدة والمحافل الدولية للدفاع عن الحق العربي في القدس تحت إشراف رئيس القسم الأستاذ الدكتور سعيد خالد الحسن، ما يعطي الانطباع بارتقاء المستوى التعليمي الجامعي، لا يقل عن مستوى أرقى الجامعات الأوربية. من هذه المقدمة أريد القول : يتوفر في المغرب اليوم كل مقومات الريادة التي تفتقر لها الكثير من الدول العربية، الأمن والاستقرار، عدد هائل وحجم واسع من المثقفين والمفكرين الملتزمين في كافة الاختصاصات الفكرية والثقافي ، قد نختلف أو نتفق مع أطروحاتهم لكن الاختلاف الموضوعي لا يعطي الحق في نكران أدوارهم ومساهماتهم ، إضافة إلى هامش واسع من الحرية يذكرنا بذلك الذي كان سائدا في لبنان حتى أواخر القرن الماضي. ليس محاباة ولا مجاملة القول إن الصحافة اليومية واختلاف المطبوعات المعروضة في محلات الباعة تعكس حجم حرية التعبير والرأي ، إلى حد القول إن من الواضح أن ليس هناك من رقابة على المطبوعات، أو ما هو ممنوع في كل ما ينشر من كتب ومجلات ودوريات محلية تنتقد الحكومة والمخزن ايضا دون خوف او حرج ،ما يعني ان المطبوعة لم تمر على مقص رقيب . تخضع لنفس الظاهرة المطبوعات العربية التي تستوردها سوق الكتب المغربية ، سواء أكانت تعبر عن توجهات قد تتفق أو لا تتفق مع سياسات المغرب إلا أن ذلك لايخضعها لقانون المنع . كما ليس خافيا حجم الأمن والأمان الذي يعيشه المغرب ما يجعل البلد فردوسا مقارنة بكثير من البلداد العربية . الأمن والحرية مقومان مهمان وأساسيان لحفز الإبداع والتفكير . فقد يتوفر الأمن في بلدان عربية أخرى لكنه أمن منزوع من جوهره ومفرغ من معناه ، فهو مجرد من الحرية . وتبقى بضاعة هذه المدرسة الناهضة هذا الحجم الكبير من المفكرين والكتاب المغاربة . أنا لا أريد أن أذكر بعض الأسماء كي لا يببدو الأمر وكأنه غبنا للبعض الآخر الذي لم يتوفر الوقت للاطلاع على إنتاجه، أو لم أتعرف عليه بحكم محدودية قدراتي البشرية، لكن أي مثقف مشرقي لا يستطيع أن يتجاوز بعض القامات الفكرية الموسوعية الكبيرة، مثل الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري ، والدكتور عبد السلام بنعبد العالي ، والدكتور عبد الاله بلقريز ، والدكتورعبد الله العروي ، المهدي المنجرة ، علي أومليل ، وغيرهم من الاسماء الكبيرة . ونحن نتحدث عن الثقافة لعلي أدعو بدون تردد قراءة كتاب الدكتور حسن مسكين عن "أزمة النخب العربية : الثقافة والتنمية " ولا أقول إني أتفق كليا مع كل ما ورد في الكتاب، لكن الكتاب يثير الكثير من التساؤلات الضرورية في مواجهة المشكلات التي تعيشها مجتمعاتنا، ويطرح قضية قد لاتزال غامضة في عقول الكثير من المتعلمين عن علاقة الثقافة بالتنمية. هناك ملاحظة أيضا مميزة في مدرسة الثقافة العربية المغربية ، وهي انتباه بعض المفكرين الى أن الكثير من المفاهيم المتداولة في الفكر والسياسة، قد فقدت معانيها الحقيقة في متاهات تداولها اليومي، فراح بعضهم يتفرغ للكتابة عن أصل وجوهر هذه المفاهيم والمصطلحات ، يفككها ويعيد تركيبها مناقشا آثارها في مسارات الفكر العربي ، تصدى المفكر المغربي الدكتور سعيد شبارو لهذه المهمة من خلال الكتابين الذين أصدرهما تحت عنوان : "النخبة والايديولوجيا والحداثة في الخطاب العربي المعاصر " و "الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الاسلامية ". مذكرا إيانا بدور المفكر اللبناني ناصيف نصار خلال السبعينات وثمانينات القرن الماضي في محاولاته لتفكيك مفاهيم مثل الايديولوجيا والفلسفة والدين وغيرها ، مع قليل من الاختلاف بالمنهج . قبل ذلك كان الدكتور محمد عابد الجايري قد أغرق السوق بكراسات شهرية صغيرة تحاول تفسير بعض الظواهر السياسية والفكرية الجارية في الحياة اليومية العربية والمغربية تحت عنوان «مواقف" . ونجد هنا وهناك محاولات أخرى كثير لطرح تعريفات للمفاهيم الفكرية المتداولة تطرح في كتب تحت عنوان ( تساؤلات الفكر المعاصر ). تلك محاولات تعكس رغبة المفكر المغربي في مراجعة العقل العربي وما تسرب له من مفاهيم ومصطلحات كثر استعمال بعضها دون الوقوف عند معانيها الواسعة ، كما تعكس نزوع المثقف المغربي للنزول بالثقافة الى ميدان الحياة اليومية، فهو يكتب بلغة يفهمها المواطن العادي، وكسر ذاك السياج الذي شيده بعض مثقفينا العرب بين الثقافة والمواطن وحياته اليومية . أكرر أنا لا أذكر بعض الأسماء لاحصر المدرسة الثقافية بحدودها ، إنها أكبر من أن تحصر بمشاركة محدودة أو مقال وحتى كتاب. لكن أذكر ما يفرضه المثال . ملاحظة أخرى في حول المدرسة الثقافية المغربية ، وهي حجم مشاركة المرأة في هذا الحراك الثقافي ، وأكثر ما نلاحظه نزوع المرأة المغربية نحو الشعروالقصة ، فهناك المئات من الشاعرات المميزات تعرفت على عدد لايتجاوز أصابع اليد منهن، ورغم جهلي بالشعر كموضوع من موضوعات الأدب، إلا أني لاشك لست مجردا من القدرة على الحس بجماليات الكلمة والوزن. ولا أنسى الرعشة التي هزتني وأنا أحضر ندوة شعرية للشاعر مينة حسيم وأخريات ، يوم وقفت هذه القامة تتغنى ببغداد كأحد بناتها الوفيات . تنشط الشاعرة المغربية في تنظيم الندوات الشعرية في مختلف مدن الغرب في حراك نشط يثير الاهتمام والانتباه . ونحن نتكلم عن الشاعرة والاديبة والمثقفة المغربية ، ليس من المجاملة بل قد يغدو إجحافا ، من أن نتجاوز المساهكات الكبيرة التي تقوم بها السيدة ياسمين الحاج، المنظم الرئيسي لهذا الملتقى، التي لاشك تحملت كثير من المتاعب وتجشمت العناء الكثير لترتيب هذا الملتقى وحشد هذا الكم من الكتاب والصحفيين والمثقفين العرب ، عمل أستطيع القول من خلال متابعتي لما يجري من ندوات هنا في لندن ، قد تعجز عن إنجازه مؤسسات رسمية كبيرة . وأعتذر ايضا لكتاب القصة، وكما عرفت أنها ايضا تحتل مكانة مرموقة في الساحة الثقافية المغربية، لكن لم يتوفر لي الوقت لمتابعتها ، أتمنى أن تتهيا لي مثل هذه الفرصة . ما يعوز المغرب الآن لقيادة الساحة الثقافية العربية الآن أن يتحرك رأس المال المغربي والعربي ليستثمر بعض من رساميله في تدعيم وتعزيز صناعة النشر والطبع والتوزيع ، مع التحذير من أن يتحول رأس المال هذا إلى أداة للتخريب ، ومحاصرة المفكر العربي المغربي لإحباط تجربته القيادية الرائدة . وتبقى المسؤولية الكبرى على عاتق وزارة الثقافة المغربية لوضع الخطط الناجحة لعرض قوة وعمق مدرسة الثقافة المغربية.