الليل قد تغير.. فلماذا لم يعد كما كان؟ لماذا لم نعد نرى النجوم، كما كنا في السابق؟ ولا قارتنا الكونية (مجرة درب التبانة)؟ وهل ما زال الليل ملهما لقصائد ونغمات واكتشافات وأفكار كبيرة؟ وما هي مضاعفات التحول الليلي على حياتنا نحن البشر؟أسئلة تطرحها مختبرات ودراسات ومراقبات ميدانية عالمية لتشخيص الظاهرة، ومن ثم البحث عن حلول.. فمن المسؤول؟ أهو الليل؟ أم نحن؟ وفي الأساس، ما هي المشكلة؟ المشكلة أتت من المدن الكبرى في العالم، وأصبحت مدننا فيها مشاركة، تحت غطاء الضرورة الحضارية.. وأكثر من ذلك تأتينا متاعب صحية وغير صحية.. كيف؟ حسب الخبراء الغربيين، فإن إضاءات المدن كثيرة، مبالغ فيها، في ليالي المصانع، والشوارع، وحتى المنازل.. وحسب نفس الخبراء، فقد تبين أن أكثر من 90 بالمائة من الإضاءات الليلية غير ضرورية في بعض المناطق.. وأن 30 في المائة من أضواء المدن ليست موجهة إلى أسفل، بل إلى الفضاء الكوني، أي هي مجرد تبذير شديد السلبية، يتسبب في تلوث ضوئي.. لماذا التلوث الضوئي؟ الإجابة تقدمه شجرة.. الشجرة التي جعلناها هي الأخرى مضاءة، في ليالي المدينة، بل حتى في بعض البوادي، أصبحت سببا في انقراض للكثير من الكائنات الضرورية لتوازنات الحياة.. أجل، أصبحت عندنا حتى أشجار تحتها أو فوقها أو حولها مصابيح كهربائية..وهذا يشكل خطرا على حياة كائنات صغيرة ودقيقة.. ففي كل شجرة ما يفوق 3000 من الكائنات، منها ما نراه بالعين، وما لا نراه، وكلها ضرورية لحلقات الحياة على الأرض.. الشجرة الواحدة فيها طيور، وفراشات، وحشرات، وديدان، وأنواع أصغر من الكائنات الليلية.. وعندما يشعل المرء كهرباء الحديقة، أو الشجرة، تنزعج الكائنات الصغيرة، وتحاول الفرار من الجذع والفروع والأوراق، بحثا عن الليل..وتنتقل من شجرة إلى أخرى، فلا تجد الليل، فتصاب بالخلل البيولوجي، ومن ثمة بأمراض قاتلة.. ومع الوقت، تدخل بوابة الانقراض.. أنواع من كائنات الأشجار والنباتات انقرضت، وأخرى هي في طريق الانقراض..ويبحث المختصون عن السبب.. فيجدون واحدا، هو (الليل الذي لم يعد ليلا)..ثم يبحثون عن مضاعفات اللاليل على حياتنا، فيستنتجون أنها كثيرة، منها أمراض متعددة، على رأسها السرطان.. أمراض جديدة أصبح الإنسان معرضا لها نتيجة خلل في ساعته البيولوجية.. الساعة البيولوجية عندما تختل، تصيب الإنسان بالاضطراب المعنوي والجسدي، فلا ينام وقت النوم، ولا يحظى جسده بالطاقة الكافية للعمل.. فلا النهار في حياته نهار.. ولا الليل ليل..وهذا ما جعل مؤسسات صحية في الدول المتطورة تحدث عيادات لتصحيح الوقت..عيادات تحاول علاج الاضطراب البيولوجي الناتج عن اضطراب الليل والنهار..وما كنا نحن البشر لنصل إلى هذا المآل، لو تعاملنا في انسجام مع وقت الليل ووقت النهار.. لكن التطور التكنولوجي أضاء العالم بشكل اصطناعي، فجعل حياتنا لا تفرق بين الليل والنهار..ولم يعد الشعراء يتغزلون في القمر.. والمطربون يتغنون بالليالي.. والفيزياء الكونية – من جانبها - تشكو التلوث الضوئي الذي يمنعها من رِؤية أدق لخريطة الكون.. ولولا الخلل الليلي، ما كانت كائنات تنقرض في البر والبحر والجو، ومنها المهاجرات من الأسماك والطيور التي هي أيضا مصابة بأوبئة الخلل البيولوجي..إن في الحياة مدارات محسوبة بدقة متناهية، تجعل ضوء النهار يأتينا في وقت محدد، والنجوم تظهر في وقت محدد..واليوم، وقد انخرطنا في اعوجاجات التكنولوجيا الحديثة، أصبحنا مستهلكين لكل منتوجات غيرنا، حتى وهي أحيانا غير صحية.. وها نحن نأتي إلى أحيائنا بمصابيح تضر أكثر مما تنفع، فنشعلها في أوقات وأمكنة ليست كلها مفيدة، بل قد تكون مضرة لنا نحن البشر، ولرفاقنا في الحياة، من حيوانات وحشرات ونباتات وغيرها..هل عندنا سياسة ضوئية؟ أم ترانا نحن مجرد مستهلكين حتى للغث والسمين، بل حتى لرداءة تحمل توقيع غيرنا؟ما أحوجنا إلى سياسة ضوئية نستطيع بها أن نعالج مشكل التلوث الضوئي قبل فوات الأوان.. لماذا قبل فوات الأوان؟ لأننا لسنا نحن من بدأ في تلويث الفضاء بالأضواء الضارة.. الأقطار المتطورة تكنولوجيا هي لوثت وتلوث الفضاء الكوني، وهي تبيعنا مصابيح فيها ما يضر أكثر مما ينفع..وها هم علماء غربيون يقرعون، بمختلف اللغات، ناقوس الخطر الضوئي، واضعين قائمة بالحلول الممكنة، ومنها: 1- علينا أن نضيء شوارعنا بمصابيح موجهة إلى أسفل، أي الأرض، لا إلى أعلى، أي السماء. 2- إشعال الأضواء فقط خلال أوقات وأماكن الضرورات (ومنها الضرورة الأمنية). 3- اقتصار الشوارع على أضواء حافة الرصيف. وعدم تشغيل مصابيح الأعمدة، إلا في أوقات محددة. هذه بعض نصائح الخبراء الغربيين.. ونستطيع نحن أن نبني عليها لتطوير تقنيات الإضاءات الإيكولوجية.. وقد بدأنا فعلا بالاهتمام بالشمس والرياح وغيرها من الطاقات البديلة..وهذا مسلك إيجابي..يفيد ولا يضر..وعلينا بمواصلة مشوار الطاقة النظيفة.. علينا بسياسة ضوئية تأخذ في الاعتبار الصحة الوطنية، بحيث نتوقف عن المشاركة في التلويث الضوئي، أي تلويث الفضاء بأضواء اصطناعية مضرة بالحياة على كوكب الأرض..وأكثر من هذا نستطيع أن نساهم في تقديم مشروع قانون لإحداث محكمة دولية ضد جرائم الأضواء التلويثية..ويستطيع بلدنا أن يساهم في هذا التنوير العالمي، فيطالب أيضا بمحكمة جنايات لحماية الطبيعة من جهات لا تهمها مقومات الحياة، حيث أنها تنتج وتبيع حتى ما هو غير صحي، فقط لكي تربح أكثر..نستطيع أن نفعل هذا من أجل أنفسنا، وبلدنا، وأسرتنا الكونية.. ويستطيع زملاؤنا الإعلاميون أن يمارسوا هذه التوعية، لكي لا نتحول إلى كبش فداء لشركات عملاقة تعيث في الأرض فسادا، على حساب حياتنا المشتركة، وحياة الغابات والبحار والأجواء.. كوكب الأرض بحاجة إلى أي صوت لا يقبل مؤامرة الصمت.. [email protected]