(شهادة في د. محمد عبد الملك المتوكل) لم يكن الدكتور محمد عبد الملك المتوكل زعيماً لجماعة مسلحة، ولا سياسياً يعيش على إثارة الأحقاد والغرائز، ولا محتكراً ينهب قوت الفقراء... بل كان عقلاً وإرادة خيرّة وشخصية ودودة وقلباً يحمل الحب لأهله وشعبه وأبناء أمته... ومع ذلك فقد امتدت يد الغدر إليه، كما امتدت قبل سنوات إلى رفيق نضاله جار الله عمر... وكما امتدت قبل أشهر إلى من شاركه الدعوة إلى الوفاق والدولة المدنية النائب الدكتور عبد الكريم جداب، وقبل أسابيع إلى الأستاذ أحمد شرف الدين الذي رافقه لأسابيع طويلة في رحلة الحوار الوطني فعاجلته رصاصات غادرة قبل توقيعه، باسم حركة "أنصار الله"، على وثيقة الحوار. القاسم المشترك بين كل هؤلاء الشهداء القادة أنهم جسور وعقول ورسل نوايا طيبة، وأنهم كانوا يدركون أن بلادهم المهيئة لأهم الأدوار في محيطها العربي والإقليمي مستهدفة بكل أنواع الفتن، كما هم كجسور وعقول مستهدفون من قبل كل من يريد لليمن الخراب والدمار... حين اختاره الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي وزيراً في حكومته عام 1967، لم يكن قد تجاوز عمره الخمسة وعشرين عاماً، ومع ذلك احتج على تعيينه دون استشارته، وحين أُستشهد الحمدي، خرج من مقاعد الوزارة إلى مقاعد الدراسة الجامعية في مصر والولايات المتحدة ليتخرج من جامعاتها بتفوق، وليعود إلى بلاده يرتقي سلم الخدمة المدنية والعمل الاجتماعي والإعلامي، درجة درجة، وليملأ بمبادراته السياسية والثقافية والاجتماعية، وحتى الفنية، فضاء اليمن بشطريه، فإذ هو مؤسس في كل تجمع أو جمعية أو جماعة حتى أطلق عليه بعض أصدقائه لقب "أمين عام المؤسسين". كان المتوكل "توفيقياً تجميعياً" إدراكاً منه لطبيعة المؤامرة على بلاده وأمته، والتي طالما نفذت من ثغرات فتحها الشقاق بين أبناء الأمة وأحزابها وأجيالها وتياراتها، لكنه كان أيضاً مبدئياً وصلباً في قناعاته، لم يوفر فريقاً سياسياً في اليمن من نقده اللاذع لأنه كان يرفض الاصطفافات العمياء والمعلّبة لاعتقاده أنها أقصر الطرق إلى توليد مستمر للأزمات، وإلى خراب متواصل للمجتمعات والدول، بل كان يعتقد بكل بساطة، أن ما من حزب أو جماعة أو تيار يستطيع بمفرده أن يواجه التحديات الضخمة المفروضة على بلاده وأمته. ومن هذه النقطة بالذات، بدأت رحلته في عالم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن دفاعه الشجاع عن هاتين القيمتين وعبر منظماتهم المستقلة عن مصادر التمويل الأجنبي، كان مرتبطاً بحرص على تحصين هاتين القيمتين من أي شبهة للارتباط بالمشاريع المشبوهة، رافضاً على الدوام أن يسمح لأجنبي أن يمتطي هذين الجوادين لكي يتسلل إلى داخلنا واعماقنا... وعلى قاعدة التوفيق والتجميع هذه ساهم الشهيد المتوكل في أبرز صيغ العمل الجبهوي في بلاده، مثل "التجمع الوحدوي للمشاركة"، و"مجلس التنسيق الأعلى لأحزاب المعارضة"، و"اللقاء المشترك" ثم "هيئة التقريب بين الحركات والأحزاب" التي بادر إلى تأسيسها مؤخراً مع قامة يمنية وعربية عالية هو الدكتور عبد العزيز المقالح... وحرص في كل تسمية لهذه الهيئات وفي مفردات التجمع والتنسيق واللقاء والتقريب أن تعبّر عن روحه مدركاً أن جذر المخطط المعادي هو التفرقة والتناحر والتنافر والإبعاد وصولاً إلى الإقصاء والاستئصال والاجتثاث. ولأنه كان وطنياً أصيلاً. كان مُدركاً لاهمية وحدة اليمن مع إصرار على تفهم خصوصية كل مكون سياسي أو اجتماعي أو جهوي واحترامه. كان مدركاً لعمق الارتباط بين وطنه الصغير المزروع في أقاصي الوطن الكبير وبين مكونات أمته، وبين شعبه الراسخ في إيمانه وبين العالم الاسلامي الواسع الذي طالما استقبل في مساحته الممتدة من جاكرتا إلى طنجة تجاراً ودعاة من أهل اليمن ينشرون حضارتهم وتجارتهم وعلومهم وحتى لغتهم حيث يقول بعض المؤرخين واللغويين أن أصل اللغة الأمازيغية في المغرب العربي الكبير هو العربية باللهجة اليمانية. وهكذا كلّما قامت ندوة أو مؤتمر أو منتدى أو ملتقى على المستوى العربي والإسلامي، وحتى العالمي، كان الشهيد المتوكل حاضراً بعلمه المزدان بتواضعه، وبعقله المعزّز بحكمته، وبمبدئيته المحصنة بصلابته، لذلك أجمع عليه إخوانه أن يكون عضواً في مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية، والمنظمة العربية لحقوق الانسان، ثم في الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي لعدة سنوات، ليتوج مسيرته بالتوافق عليه منسقاً عاماً للمؤتمر القومي - الإسلامي لدورتين متتاليتين فكان يقيس المواقف بميزان الذهب، كما يقال، ويحرص على رصّ الصفوف بين تيارات الأمة، وكأنه يدرك أن عواصف قادمة قد تقتلع أوتاد خيمة التلاقي تلك التي بناها المتوكل مع ثلة من إخوانه على امتداد الأمة. حين صدمته دراجة نارية في أحد أيام الخريف في 2011، يوم كان متوجهاً إلى ساحة التغيير، التي لم يغب عنها يوماً، مستهدفة اغتياله، أشاع البعض أن الأمر حادث عادي، وتساءلوا "ما الخطورة التي يمثلها رجل كالدكتور المتوكل حتى يتم استهدافه؟". بالأمس جاء الرد الحاسم برصاصات أربع من دراجة نارية، وربما هي الدراجة ذاتها التي أخطأته بالأمس، لتكشف أن الرجل أكثر خطورة مما ظن أولئك، وخطورته تكمن أنه عقل في زمن إلغاء العقول، جسر في زمن هدم الجسور، فكر في زمن تعطيل الأفكار، وحدوي في زمن الإجهاز على كل وحدة، ومستقل في زمن الارتهان، بل إنه مثقف حر في زمن المغريات المتعددة التي تندرج تحت عنوان "المال الثقافي" و "الوجاهة الثقافية".