مع بداية التورط الرسمي التركي في المحنة السورية المتصاعدة والأليمة، وجهت رسالة إلى رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عبر أكثر من صديق، بمن فيهم سفير تركيا في لبنان، أقول فيها: «أتمنى أن تتصرف كمسؤول عن دولة لا كمسؤول عن حزب، لأنك إذا تصرفت كذلك ستربح الدولة ويربح معها الحزب، أما إذا تصرفت كمسؤول في حزب فسيخسر الحزب وتخسر الدولة، فنحن نطمح إلى أن تكون تركيا جزءا من الحل في سورية لا جزءا من الحرب فيها وعليها». الفكرة ذاتها عاودتني اليوم وأنا أستمع إلى خطاب الرئيس المصري د. محمد مرسي أمام مؤتمر لأنصاره في استاد القاهرة حول الوضع في سورية، لأنني أعتقد أنه كلما تصرف د. مرسي كمسؤول في جماعة لا كرئيس لمصر تخسر الجماعة وتخسر معها مصر أيضا، خصوصا أنني أنتمي إلى مدرسة آمنت، وما تزال، بدور مصر المحوري في أمتها، وبأنها إذا التزمت السياسة القومية السليمة، فهي مؤهلة لكي تقود المشروع العربي الجامع، في منطقة تتقدم فيها كل المشاريع إلا المشروع العربي. فحين يعلن رئيس الدولة المصرية عن قطع علاقاته الدبلوماسية الكاملة مع الدولة السورية، ويغلق السفارة السورية في القاهرة، ويسحب القائم بالأعمال المصري من دمشق، بعد أن استبشرنا بعودته إليها قبل أسابيع، يقفز إلى أذهان أبناء الأمة كلها سؤال بسيط: لماذا لم يُقدم الرئيس مرسي على قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب ويغلق سفارتها في القاهرة يوم العدوان الأخير والشهير على غزة، ومع استمرار جرائمها في حق فلسطين وأهلها وأسراها ومقدساتها، وفي المقدمة منها القدس والأقصى، وقد كان الدفاع عنهما شعارا ملازما لجماعته (الإخوان المسلمين) منذ عقود؟ ثم ألا يظن الرئيس محمد مرسي أن العلاقات الدبلوماسية هي علاقات بين دول وشعوب وليست بين أنظمة وحكومات؟ ألا يذكر الرئيس مرسي أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بعد الضربة القاسية التي وجهها الانفصاليون في دمشق إلى دولة الوحدة المصرية-السورية في 28/9/1961، قد تجاوز الجرح الانفصالي الأليم واعترف بعد أيام بالدولة السورية وأعاد العلاقات الدبلوماسية بين بلدين كانا إقليمين في دولة وحدوية كبرى؟ ثم ألا يذكر الرئيس مرسي كيف أن نخبا عربية عديدة رفضت فكرة عزل مصر بعد معاهدة «كامب ديفيد» في أواخر السبعينيات، وضغطت من أجل عودة مصر إلى جامعة الدول العربية وعودة الجامعة إلى القاهرة، لأنهم يرفضون أن تدفع الشعوب والدول ثمن الخلاف بين الحكومات والأنظمة، حتى لو كان سبب الخلاف جريمة قومية بحجم «كامب ديفيد»؟ ثم ألم يقل الدكتور مرسي، منذ انتخابه رئيسا، إنه ملتزم بكل الاتفاقيات العربية والدولية التي وقعت بلاده عليها، تبريرا لعدم تخليه عن «كامب ديفيد»، فلماذا لا يبقى ملتزما بالاتفاقيات التي تنظم علاقات مصر الدبلوماسية بأشقائها العرب وتحرّم اللجوء إلى قطع العلاقات التي يجب أن تبقى قائمة مهما اختلفت المواقف والآراء والاجتهادات، بل لماذا لا تبقى مصر حريصة على مؤسسة جامعة الدول العربية، التي ولدت أصلا في مصر، بل محترمة لميثاقها الذي يحترم، ولاسيما في مادته الثامنة، سيادة الدول ويرفض التدخل في شؤونها الداخلية؟ ثم ألم يقل مرسي مرارا إنه يرفض التدخل الأجنبي في سورية، أيّا كان موقفه من النظام القائم فيها، فإذا به يدعو إلى إقامة منطقة حظر جوي داخل سورية، وهي منطقة لا تقوم، كما يعرف الدكتور مرسي وغيره، بدون تدخل عسكري أجنبي مباشر قد يقود إلى حرب إقليمية، وربما عالمية، تزهق فيها المزيد من الأرواح في سورية، وفي المنطقة، ويلحق بها المزيد من الخراب والدمار. لقد استبشرنا، كما استبشر كثيرون من أبناء الأمة وأحرار مصر، بالمبادرة التي أطلقها د. مرسي بتشكيل لجنة عربية إسلامية لحل الأزمة في سورية، تضم إلى جانب مصر كلا من المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، ورأينا فيها مدخلا إلى حل واقعي للأزمة السورية، ولكن د. مرسي نفسه يدرك من وقف وراء تعطيل هذا الحل ومنع تطبيق المبادرة، وهي جهات وحكومات ودول لا تريد حلا في سورية، بل لا تريد بشكل خاص حلا يعيد مصر إلى دورها القيادي في أمتها ومحيطها والعالم. طبعا، ليس من حقنا أن نناقش الرئيس مرسي كشخص أو كجماعة في موقفه تجاه ما يجري في سورية، بل نشاركه الرأي في ضرورة أن يتوقف سفك الدماء فورا في هذا البلد العربي الغالي على كل عربي، ولكن من حقنا بالتأكيد أن نسأله عن واجبه كرئيس الدولة العربية الأكبر في تحمّل المسؤولية عن إيجاد حل واقعي للأزمة الدامية في سورية، التي طالما شكّلت مع مصر جناحي الأمن القومي للأمة وفكي الكماشة للجم المشروع الصهيوني التوسعي. قد يقول قائل إن خروج د. مرسي عن المألوف في سياسة مصر، وحتى عن روح مبادرته السورية وتصريحات المسؤولين المصريين في الآونة الأخيرة، ناجم عن احتدام المعركة السياسية الداخلية في بلاده عشية 30 يونيو، التي يريد معارضون مصريون، لذلك اليوم الذي انتخب فيه د. مرسي رئيسا لمصر قبل عام، المطالبة باستقالته، بل هو محاولة منه لاسترضاء قوى داخلية وعربية وإقليمية ودولية للوقوف إلى جانبه في معركته المصيرية هذه. وقد يرى البعض في مواقف د. مرسي صرفا لأنظار المصريين عن عجز حكومته عن صون الأمن المائي لمصر، المهدد اليوم من منابع النيل. ولكن هل يجوز أن تخضع مصلحة مصر الوطنية العليا وخياراتها الاستراتيجية لمنطق المزايدة السياسية الداخلية؟ وهل يجوز أن يكرّر د. مرسي في موقفه تجاه سورية ما فعله مبارك في الحرب والحصار على العراق العظيم في تسعينيات القرن الماضي، وبدايات هذا القرن، حين اختار دور المحّرض والمتواطئ مع واشنطن و«محمياتها» في المنطقة ضد العراق وخياراته الوطنية والقومية، فإذا بالعرب جميعا، وفي مقدمهم تلك المحميات، يبكون اليوم خسارة العراق الذي لم يحافظوا عليه؟ بل هل يجوز أن تبقى مصر، بوزنها وثقلها، أسيرة تلك الضغوط المعروفة التي منعتها من إعادة العلاقات بإيران، بل تسعى اليوم إلى دفعها إلى قطع علاقاتها بسورية، وذلك لكي تصبح مصر الجامعة لكل العرب والمسلمين، ملحقا في مشروع جهنمي لإشعال حرب طائفية ومذهبية، وهو مشروع يسعى إلى وضع إمكانات ضخمة لإشعالها في عموم المنطقة، لأن مثل هذه الحرب المدّمرة هي الضمانة الاستراتيجية الكبرى لأمن الكيان الصهيوني ولديمومة الهيمنة الأمريكية والاستعمارية؟ ثم هل يعقل أن تنضم حكومة مصر إلى معسكر معرقلي الحل في سورية، وقد بدأت ملامحه تظهر مع الحديث عن مؤتمر «جنيف 2» للحوار، وهل يعقل أن تستخدم حكومة مصر كإحدى أوراق الرئيس أوباما في تفاوضه مع الرئيس بوتين بعد أيام، خصوصا وأن الإدارة الأمريكية مسكونة هذه الأيام بهاجس الدفاع عن أمن الكيان الصهيوني، الذي يهتز مجددا مع تصاعد الحديث عن مقاومة منتظرة في الجولان تحقق في الأرض السورية المحتلة ما حققته في جنوب لبنان وقادت إلى تحريره عام 2000. إن مصر التي اعتبر الأزهر الشريف فيها، وفي زمن الرئيس القائد الراحل جمال عبد الناصر، أن المذهب الجعفري هو خامس المذاهب الإسلامية التي ينبغي تدريسها، مدعوة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن تعتمد الخطاب العروبي والإسلامي الجامع، وأن تشكّل حصنا لوحدة العرب والمسلمين، وأن تقيم درعا في وجه كل أعداء الأمة، في داخلها والخارج، ممن يعتقدون أنهم لا يحمون مصالحهم إلاّ بالحروب الطائفية والمذهبية والعنصرية المتواصلة، ويسعون إلى تغيير بوصلة الأمة عن وجهتها الصحيحة نحو القدسوفلسطين من أجل قيام احتراب بين أبناء الأمة، الذين مهما أخطؤوا يمكن معالجة أخطائهم بالحوار وبروح المصالحة والتقريب بين المذاهب والأفكار. إن أخطر ما في كلام الدكتور مرسي أنه يوحي برغبة في أن تتولى حكومته اليوم، ما عجزت عنه بالأمس حكومة أردوغان التي تهتز من تحتها الأرض التركية، كما تهتز الأرض تحت كل من يختار للأمة عدوا غير العدو الصهيوني ووجهة غير وجهة تحرير فلسطين وعاصمتها القدس ومقدساتها. ويعرف الرئيس مرسي وإخوانه في «الجماعة» أن كاتب هذه السطور كان وسيبقى من أشد المدافعين عن التلاقي بين تيارات الأمة الرئيسية من إسلامية ويسارية عروبية وليبرالية وطنية وقومية، وأنه مع إخوانه يواجهون أقسى الحملات بسبب نهجهم هذا. نعم، نريد أن تكون مصر جزءا من الحل في سورية، الحل الذي يحقن دماء الشعب السوري العظيم، ويضمن تطلعاته المشروعة إلى الحرية والكرامة والعدالة، ويصون وحدته وسيادته الوطنية واستقلاله بعيدا عن خطاب طائفي بغيض وتدخلات استعمارية مدمرة. لست متفائلا بقدرة د. مرسي على مراجعة قراراته الخطيرة، ولكن اللهم اشهد بأنني قد بلغت.