هل تكون القاهرة، طوق نجاة مثالي لطهران، من الناحية السياسية، فيما تكون إيران طوق نجاة مثالي للرئيس مرسي اقتصاديا؟. إنه السؤال الملبس الذي بدأ يطل برأسه في سماء الشرق الأوسط الجديد، الذي بدأت تتسارع فيه الإصطفافات بديناميكية مثيرة هذه الأيام، بعد اليقين من قرب نهاية نظام بشار الأسد. ليس آخرها التحركات المصاحبة لملف القضية الفلسطينية بين كل من عمان (زيارة الرئيس عباس السريعة وتوقيعه اتفاقا يلحق القدس عمليا بالأردن، وهذا أمر أثار ولا يزال يثير نقاشا كبيرا)، والقاهرة (احتضانها السياسي واللوجستيكي والأمني لحركة حماس حيث أصبح القرار السياسي الحمساوي الغزاوي يصنع في القاهرة وفقط في القاهرة)، والدوحة (التي طالبت بمؤتمر مصغر حول المصالحة الفلسطينية، بالشكل الذي يقوي من ورقة حماس إخوانيا، على حساب السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن هنا رد الفعل العنيف للرئيس أبومازن الذي اعتبر أن لا أحد له صلاحية التقرير في الشأن الفلسطيني الداخلي غير السلطة الفلسطينية ذات الشرعية السياسية الإنتخابية والشرعية التاريخية الوطنية).. ثم الضربة السياسية التركية الذكية للمصالحة مع الأكراد، وأخيرا المصير المجهول الذي دخله لبنان، حيث كل طائفة تضع يدها على الزناد، أو كما قال أحد الزملاء من يومية «السفير» اللبنانية، الناقد نديم جرجورة، أن كل شئ جاهز، ولا ينقص سوى «الشرطي الذي لم يقم بعمله» مثلما حدث قبل اندلاع الحرب الأهلية الرهيبة لسنة 1976، والتي دامت 15 سنة كاملة. علينا الإنتباه، ربما، أنه منذ سمح للسفن العسكرية الإيرانية بعبور قناة السويس، حتى قبل صعود مرشح الإخوان إلى كرسي الرئاسة، زمن الحكم الإنتقالي للمجلس العسكري المصري، وصولا إلى نزول أول طائرة مدنية إيرانية في الجنوب المصري بمطار أسوان، منذ أسبوع، مما دشن لتطبيع شبه كامل للعلاقات بين القاهرةوطهران.. وأنه كذلك منذ اقتراح الرئيس المصري محمد مرسي، لتنسيق إيراني تركي مصري لحل القضية السورية، ثم التدخل للتوسط بين إسرائيل وحماس في غزة، في ما كان يشبه الإلحاق الأمني والسياسي لقطاع غزة بأصله المصري القديم.. منذ ذلك كله، أصبح واضحا أن حسابات جديدة، بدأت تسابق الزمن في الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، تريد القاهرة أن تكون لها فيها كلمة مؤثرة حاسمة. دون إغفال، دلالات أن يبدأ التطبيع سياحيا، اجتماعيا وثقافيا بين مصر وإيران، بل وأن يكون في الجنوب المصري أولا وليس في القاهرة والشمال، بسبب قصة تاريخ مصر مع التشيع، التي تعود لما قبل العهد الفاطمي الشيعي. حيث تعتبر مناطق الصعيد في مصر من أكثر المناطق المصرية تقديرا لآل البيت، وأيضا لمعنى «الشرفاء» و»الأولياء» (من هنا ذلك الحضور القوي لعدد من الأولياء والمزارات هناك، التي تضم رفات فقهاء ورجال علم وطرق صوفية مغاربة بصعيد مصر، نزولا باتجاه السودان، التي لعل من أشهرها قبيلة هوارة القادمة من المغرب). دون إغفال الإصرار الإيراني على تنظيم زيارات ومواسم دينية شيعية بالقاهرة أساسا، وهو الطلب الذي لم تقبله بعد القاهرة، لأسباب آنية محضة مرتبطة بالجانب الأمني فقط. والإصرار الإيراني الكبير على القاهرة كمكان لزيارات الشيعة (مثلما يحدث في العراق)، راجع إلى كون العاصمة المصرية تضم ما يعتقد أنه رفات بعض من سلالات علي بن أبي طالب، خاصة رأس الحسين بن علي ، وشقيقته السيدة زينب، التي يقال إنها دخلت مصر سنة 61 هجرية رفقة ابنتي شقيقها القتيل الحسين بن علي، السيدة فاطمة والسيدة سكينة. وكذلك دخول ابنة عمهما نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب سنوات بعد ذلك ووفاتها بالقاهرة (علما أن سورية تنازع مصر في دفن السيدة زينب بالجامع الأموي وليس في القاهرة). ولقد ظل الحضور الشيعي قويا في مصر منذ العهد الفاطمي، بدليل أن جامع الأزهر نفسه بناه الفاطميون وكان مدرسة دينية شيعية، قبل أن يحول إلى جامع سني حنفي قرونا بعد ذلك. وإلى حدود اليوم لا يزال أكثر من 2 مليون مصري يحيون سنويا موسم «سيدنا الحسين» بالقاهرة، تخليدا لذكرى مقتل ابن فاطمة وحفيد الرسول الكريم. وحسب «المجلس الأعلى لرعاية آل البيت» وهو تنظيم شيعي ولد في العراق وله مكانة قوية في مصر، فإنه عكس الأرقام الرسمية، فإن عدد الشيعة في مصر يتجاوز 3 ملايين شيعي، وأنه لم يبدأ التضييق على شيعة مصر سوى في عهد الرئيس المغتال أنور السادات، بعد انتصار الخمينية في إيران وإسقاط شاه إيران سنة 1979 (الحليف الإستراتيجي السابق لمصر منذ عهد الملك الفاروق وطيلة عهد جمال عبد الناصر والسادات)، وأن ذلك التضييق تقوى أكثر في عهد الرئيس المطاح به، شعبيا، حسني مبارك. بالتالي، إن مستوى ما بلغته اليوم، علاقات القاهرة الإخوانية الجديدة، مع إيران، إنما يترجم رؤية استراتيجية جديدة هناك، كم هو مؤسف، ربما، أنها ستكون على حساب جوارها الخليجي (السعودي والإماراتي أساسا).. ويكاد المرء يقف مشدوها، كيف بدأت تتشكل ملامح تحالف جديد، يجمع القاهرة ببغداد وطهران، بذات الشكل الذي كان زمن الحرب الباردة، وأساسا زمن الناصرية. حين كانت العراق ومصر مصطفة ضمن المعسكر الشرقي السوفياتي وحلف وارسو العسكري، فيما الرياض وباقي دول الخليج مصطفة ضمن المعسكر الغربي بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية والحلف الأطلسي عسكريا. ذلك، أن تزامن ترجمة تطبيع العلاقات الإقتصادية اليوم مع طهران، قد توازى مع تطبيع ذات العلاقات منذ أسابيع قليلة، مع حكومة المالكي الموالية لإيران، من خلال زيارة رئيس الوزراء المصري لبغداد والتوقيع على اتفاقيات تعاون استراتيجية. ويخشى أن يخسر العالم العربي الكثير، أمام بداية ملامح هذا التقاطب الجديد، مثلما خسر الكثير زمن التنافس، إبان الإصطفاف شرقا أو غربا، زمن الحرب الباردة، بين القاهرة الناصرية والرياض السعودية. ظاهريا، تشير الرسائل المعلنة بالقاهرة، أن خطوات مصر الجديدة، التي يعاد فيها بناء الدولة مؤسساتيا وثقافيا وسلوكيا، بما يشبه تجريبا غير مسبوق لتحكم تيار سياسي إسلاموي في مفاصل الدولة، عبر اللعبة الديمقراطية، تماما مثلما تحقق في أروبا من خلال تجربة الأحزاب الديمقراطية المسيحية، والتي تحالف في عهدها لعقود، المال مع الجيش، وأسس لنموذج مجتمعي محافظ على مستوى الإقتصاد والتربية والعائلة ومنظومة القيم، عبر آلية دستورية مدنية.. ومن هنا، معنى الصراع الكبير والحامي اليوم في مصر، منذ ثورة 25 يناير 2011، على مستوى وضع دستور جديد ونظام تعليمي جديد وآلية إعلامية جديدة. فالصراع هو صراع من أجل مشروع سياسي مجتمعي محافظ، ذي نزوع ليبرالية اقتصاديا (منطق السوق)، لكنه جد محافظ قيميا وسلوكيا، وله رؤية خاصة للعائلة وللتعليم وللثقافة والفنون. ولعل ما لا ينتبه له كثيرا، أن ثروة مصر الكبرى، هي في صناعتها الفنية (سينما ومسلسلات وغناء)، وأنها عبر هذه الثروة انتصرت سابقا على المنافسة القيمية الخليجية، السعودية أساسا، وأنها بذات الثروة والصناعة ستنافس ذات الجهة رمزيا وسلوكيا للتأثير في الرأي العام العربي والإسلامي، لكن هذه المرة بمرجعية إخوانية مندرجة ضمن الشبكة العالمية الكبرى لهذا التيار، الذي يجد سنده المالي الكبير في دولة قطر (المنافس الكلاسيكي الدائم للرياض والذي له معه خلافات دائمة ضمن مجلس التعاون الخليجي وحتى على المستوى الحدود الترابية بين البلدين، حيث ظلت الدوحة لسنوات في السبعينات، تعتبر أن الرياض تغتصب جزء من أراضيها الإستراتيجية). ظاهريا، أقول، تشير الرسائل المصرية المعلنة أن غاية الساسة الجدد هناك، هي اقتصادية محضة، وأنهم يسعون إلى تنويع مصادر التمويل، لضخ أوكسجين حيوي في مفاصل الجسد الإقتصادي والتنموي العليل لمصر، المثخنة بأزمتها المجتمعية والأمنية، التي بلغت درجات الكارثة منذ عقود، حيث نسب الفقر عالية جدا، وحيث مستوى الخدمات العمومية في حضيض الحضيض، وحيث مستوى الأجور جد متدني وممكنات العيش الكريم لملايين الملايين من المصريين منعدمة. لكن، الحقيقة، أن ملامح التحول هناك تسعى بمنطق الدولة (ومصر دولة غنية جديا بثرواتها البشرية. مصر دولة مهما كان، بها عقل ومنطق حكم ومؤسسات راسخة مالية وعسكرية وأمنية)، إلى أن تجمع بين المفيد والأفيد.. أي من جهة أن يعاد بناء الدولة بشكل مدني جديد، بما يتساوق ومنطق مشروع مجتمعي لحركة سياسية من حجم الإخوان المسلمين بارتباطاتها الدولية ماليا وتنظيميا (خاصة مع قطر) وبتدافع هائل ودام وعنيف مع قوى سياسية أخرى وازنة في الشارع المصري، في أفق التوصل إلى توافق تاريخي بينهما يحمي مكانة مصر الدولة أولا وأخيرا. ومن جهة أخرى، أن تصبح لمصر مكانتها الدولية الإقليمية الوازنة والمؤثرة التي فقدتها منذ اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل (الإتفاقيات التي لم يمسسها ولن يمسها قط إسلاميو مصر). وفي هذا السياق يأتي الملف الفلسطيني في شقه الغزاوي الحماسي، ويأتي الملف السوداني كعمق استراتيجي آخر حاسم لمصر، خاصة في ما يرتبط بمياه النيل، وخطر حرب المياه القادمة هناك، بعد تغيير دول المنبع للغتها السياسية حول اتفاقية توزيع مياهه الموقعة في بداية القرن العشرين زمن الإحتلال البريطاني. وهذا ملف جد خطير وشائك، يهدد وجود مصر كدولة مستقبلا، بسبب حرب العطش والجوع التي تهددها بها تلك الدول، ويد إسرائيل غير بعيدة عن ذلك بطبيعة الحال. ثم يأتي اليوم التطبيع مع إيران وأيضا تجسير العلاقة مع تركيا. لكن، يخشى حقيقة، أن يكون ذلك بداية لتقاطب سياسي جديد بين الرئيس محمد مرسي وعائلته الإخوانية، المتحالفة مع قطر، وبين الرياض وأبوظبي، مما قد يعطل ممكنات تعاون عربي عربي غير مسبوقة في المشرق العربي، مفروض أن تتعزز العلاقة فيه مصلحيا وسياسيا، بين المثلث الإستراتيجي (أنقرة/ الرياض/ القاهرة). وأن من يعتقد في مصر الجديدة، أن قوته الإقليمية، مضمونة عبر إضعاف جواره الجغرافي، عبر الورقة الإيرانية (تقنية الكماشة) إنما سيكون أشبه بذلك الرجل البدوي في قصتنا المغربية الأمازيغية، التي تقول: إنه في ذات موسم خصب، هجم الجراد على خيرات البلاد الوفيرة، فانبرى رجل يسابق جحافلها عبثا في الخلاء البعيد، في ما يشبه وهم استباق منع وصولها إليه. فأطلقت فيه زوجته حكمتها البليغة الخالدة: «تركها في الجنان وراح يطاردها في البراري». واضح، أن التحدي الذي يواجه ساسة مصر الجدد، أكاد أقول، يتحدى العقلاء منهم، هو تحد مزدوج. من جهة، أن يرتقوا داخليا إلى منطق دولة المؤسسات وأن لا ينزلوا إلى منطق الغنيمة والعصبية.. ومن جهة ثانية، أن يوقنوا أن أوكسجين العلاقات الدولية اليوم، الحامي للمصالح القومية القطرية العليا للدول، كامن في التكتلات الجهوية، المتجانسة والمتكاملة، بمنطق ما تفرضه الجغرافية وقوانينها الحاسمة في علم السياسة وعلم الإقتصاد وتكامل المصالح.. والقاهرة، بهذا المعنى، بدون عمقها العربي والإفريقي، لن تكون سوى ورقة ضعيفة إذا راهنت على إيران البعيدة على حساب جوارها الإستراتيجي.. لأنها حينها ستكون، مثل فلاحنا المسكين في قصتنا المغربية، قد تركتها فعليا في الجنان وراحت تطاردها في البراري.