لم يكن توفر بعض الأسس والركائز التي يمكن البناء عليها والانطلاق منها صوب إعادة تأطير العلاقات المصرية الإيرانية، ولا حتى بزوغ بعض المؤشرات الإيجابية لإمكانية حدوث تقارب حقيقي بين طرفيها عقب الإطاحة بمبارك وحاشيته، ليحولا دون بروز إشارات مغايرة تشي بأن هناك ما يشبه الإجماع أو التوافق الضمني بين دوائر محلية بكلا البلدين، علاوة على أخرى إقليمية ودولية، على الحيلولة دون ذوبان الجليد بين القاهرةوطهران. مؤشرات إيجابية بعد مبارك طوت ثورة يناير 2011 في مصر بين ثناياها بوادر شتى بشأن إمكانية إحداث تحول إيجابي ملموس في العلاقات بين القاهرةوطهران، كان من أبرزها وأشدها وقعا ما فاجأ به نبيل العربي، أول وزير للخارجية المصرية بعد الإطاحة بمبارك، العالم من رؤى وتصورات مثيرة بشأن مستقبل علاقة مصر الجديدةبإيران. فبغير تردد أو التفاف، أعلن العربي أن بلاده مستعدة لتطبيع العلاقات مع إيران بعد قطيعة دامت أكثر من ثلاثين عاما، بشرط أن تراعي الاحترام المتبادل لسيادة الدول وعدم التدخل مطلقا في شؤونها الداخلية بأية صورة، مشيرا إلى أن الشعبين المصري والإيراني جديران بأن تكون بينهما علاقات متبادلة تعكس تاريخهما وحضارتهما. وفي مسعى منه إلى تأكيد استقلالية نهج مصر الثورة عن مصر مبارك في ما يخص التعاطي مع إيران، أكد العربي أن بلاده لا ترى في الأخيرة عدوا لها، وأن سعي إيران إلى أن يكون لها دور مؤثر في المنطقة إنما هو حق طبيعي لها كدولة مهمة في الشرق الأوسط، لافتا إلى أن مصر لم تكن هي التي بادرت إلى قطع العلاقات بإيران، وإنما الأخيرة هي التي فعلت ذلك منذ عام 1979. واعتبر العربي أن تعثر العلاقات بين القاهرةوطهران إنما كان أحد الانعكاسات السلبية لسياسة نظام مبارك الخارجية الفاشلة، إذ افتعل الخلافات واصطنع العداء مع طهران موظفا لأجل ذلك غلاة السلفيين الذين ارتأوا في تبني إيران للمذهب الشيعي كفرا بواحا، رغم أن الأزهر الشريف اعترف بالمذهب الشيعي الاثني عشري المتبع في إيران، كما يعرف عن مصر أنها سنية المذهب وشيعية الهوى نظرا إلى الحب والتقدير اللذين يحظى بهما آل البيت من قبل عموم المصريين. وانتقد العربي عبث نظام مبارك بالعلاقات بإيران والذي وصل إلى حد تأكيد وزير خارجيته أبو الغيط مرارا أن إيران تشكل خطرا على الأمن القومي المصري، وأنها تسعى من خلال دعمها لحركة حماس الفلسطينية إلى إقامة دولة دينية تمثل خطرا على مصر، وأنها تحوك المؤامرات وتزرع الفتن وتؤجج الصراعات للنيل من استقرار المنطقة. تقارب غير مرغوب فيه تكاد تنم معطيات البيئة التي تخلقت في رحمها العلاقات المصرية الإيرانية عن شيء هو أقرب إلى التلاقي المحلي داخل البلدين والتوافق الإقليمي والدولي على رفض أي تقارب «استراتيجي» بين طهرانوالقاهرة، وإن اختلفت دوافع وأسباب القوى الإقليمية والدولية، بما فيها أمريكا وإسرائيل، التي لم تتوان في مد جسور التفاهم مع إيران سرا. فمحليا، لا تزال دوائر دينية وسياسية عديدة داخل مصر ترى في التقارب مع إيران حاليا مغامرة غير مضمونة العواقب، خصوصا في ظل إصرار الإيرانيين على التدخل في الشؤون المصرية والعربية، فضلا عن الدعم الإيراني المستفز لنظام بشار الأسد وخروقاته، وهو ما وضح جليا في معارضة بعض الأوساط المصرية لزيارة الرئيس مرسي القصيرة لطهران بغرض المشاركة في قمة عدم الانحياز. وإيرانيا، وإلى جانب ارتياب دوائر أمنية وسياسية ودينية محافظة من أي تقارب مصري إيراني، يجوز الادعاء بأن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة لم تحمل في طياتها أية احتمالات لتغيير إيجابي في سياسة إيران الخارجية، خصوصا إزاء القاهرة، وذلك لأسباب عديدة: أولها، استمرار هيمنة المرشد الأعلى للثورة على عملية صنع السياسة الخارجية، ولاسيما الملف النووي والعلاقات بالغرب وإسرائيل ودول الجوار، خصوصا بعد أن أسفرت الانتخابات التشريعية الأخيرة عن إقصاء الإصلاحيين والمعسكر المحافظ الموالي للرئيس نجاد، وتعزيز هيمنة الجناح المحافظ الموالي للمرشد على البرلمان والنظام السياسي برمته في المقابل بعد أن حصد 75 في المائة من مقاعد البرلمان الجديد. وثانيها، وجود حالة أقرب إلى الإجماع بين مختلف القوى السياسية والشعبية في إيران على غالبية ملفات السياسة الخارجية، ولاسيما تلك المتعلقة بالبرنامج النووي والعلاقات بإسرائيل وواشنطن، وبدرجة أدنى قليلا بدول الجوار، وانحسار الاختلافات التي يمكن رصدها في ما بين تلك القوى في الشؤون المحلية والمسائل الإيديولوجية، وتدنيها إلى مستوى ربما لا يتمخض عن تغيير جوهري في السياسة الخارجية الإيرانية. أما بخصوص أمريكا وإسرائيل، فلعلنا لا نغالي إذا ما زعمنا أنهما قد لعبتا دورا محوريا في تعزيز حالة القطيعة والجفاء بين القاهرةوطهران حفاظا على نمط التفاعلات والتوازنات الإقليمية الراهن، الذي يضمن لهما حماية مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة. فمن جانبها، لا تبدو واشنطن مستعدة لتقبل أي تطور في العلاقات المصرية الإيرانية نحو تفاهم «استراتيجي» من شأنه أن يخل باستراتيجيتها في التعاطي مع البلدين أو حيال المنطقة برمتها. وهو ما وضح بجلاء في استياء الإدارة الأمريكية من توقيع مصر وإيران في عام 2010 اتفاقا يتيح استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين عاصمتي البلدين رغم العقوبات الدولية والأمريكية المفروضة على طهران، ومن بعده سماح القاهرة بمرور قطع عسكرية بحرية إيرانية في قناة السويس بعد سقوط مبارك. وحينما نحت دوائر سياسية أمريكية منحى مغايرا نسبيا إزاء احتمالات التقارب المصري الإيراني، كان سماحها بتقارب محدود السقف بين البلدين مرتهنا بتوظيف واشنطن لذلك التقارب لخدمة الاستراتيجية الأمريكية حيال طهران والمنطقة، حيث أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، مارك تونر، أن إعلان مصر استعدادها لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بإيران قد يكون مفيدا وبناء، إذ يمكن للقاهرة أن تكون شريكا مهما في الإعراب عن دواعي القلق الإقليمية والدولية إزاء برنامج إيران النووي.