ثار جدل كبير في الأوساط العربية، خلال الأيام القليلة الماضية، حول عودة القائم بالأعمال المصري إلى دمشق أو عدم عودته. وكان طبيعيا أن يصاحب هذا الجدل جدل آخر حول العلاقات المتنامية بين القاهرة و طهران، والقاهرة وبغداد، وما إن كان موقف حكومة د. محمد مرسي من الأزمة السورية قد تغير بفعل ضغوط إيرانية وحاجات مصر الملحة إلى السيولة النقدية والإمدادات النفطية. ولأن مثل هذا الجدل يصب لمصلحة من يعملون على إضعاف مرسي داخليا، ومحاصرته عربياً، لم تتردد وسائل إعلام، مصرية وخليجية في أغلبها، في نشر تقارير بالغة السخافة حول مجريات العلاقات المصرية الإيرانية والموقف المصري من سورية. ما قالته القاهرة، في معرض التوضيح، أن مصر سحبت سفيرها من دمشق قبل عدة شهور وأبقت التمثيل الدبلوماسي على مستوى القائم بالأعمال، ومن الطبيعي أن يتنقل الدبلوماسي المصري المسؤول بين القاهرةودمشق، بمعنى أنها ليست عودة إلى التمثيل الدبلوماسي، بل حركة عادية للقائم بالأعمال، الموجود أصلا في دمشق، بين البلدين؛ ولا علاقة لهذا الأمر، من قريب أو بعيد، بعلاقات مع إيران أو ضغوط من الأخيرة. مهما كان الأمر، فليس ثمة شك في أن هناك غموضا طارئا على المقاربة المصرية من الأزمة السورية، وأنه ليس ثمة تفسير لهذا الغموض، إلا أنه يعكس اضطرابا في صناعة السياسة الخارجية. تسلم مرسي مقاليد الرئاسة قبل أقل من عام بقليل وموقفه من الثورة السورية لا يحتمل التأويل، بعد أن أعلن، مرارا، خلال الحملة الانتخابية وبعدها، أنه يقف إلى جانب الشعب السوري وثورته وحقوقه، وأن على الأسد التنحي عن موقعه وفتح المجال لانتقال سلمي ومنظم للحكم. وقد تطور هذا الموقف بعد قليل من توليه مقاليد الحكم نحو رفض التدخل العسكري الأجنبي في الشأن السوري، وهو الموقف الذي تبنته القاهرة حتى قبل انتخاب مرسي لرئاسة الجمهورية. في غشت الماضي، أطلق الرئيس مرسي مبادرته لحل الأزمة السورية، خلال مشاركته في مؤتمر القمة الإسلامي الطارئ، التي قصد بها تأسيس لقاء إطاري، من مصر والسعودية وإيران وتركيا، للبحث عن حل ترتضيه الأطراف الإقليمية الرئيسية. لم توافق السعودية، كما هو معروف، على المبادرة، وتخلفت بالتالي عن اللقاءات المتباعدة التي عقدتها الدول الثلاث الأخرى. وفرت مبادرة مرسي، في الحقيقة، نافذة أمل للتوصل إلى مخرج سريع وعقلاني للأزمة، ولكن، لا تأثيرُ مصر الحالي ولا الوضعُ الإقليمي سمح لها بالتقدم، بالرغم من أنها لم تزل مطروحة وأن القاهرة لم تزل تأمل أن تأتي اللحظة المناسبة لتفعيلها. خلال الشهور القليلة الماضية، وبعد تعثر مبادرة اللقاء الرباعي، تراجع الاهتمام المصري الرسمي بالوضع في سورية، بدون أن يتغير الموقف، نظرا إلى اندلاع أزمة الإعلان الدستوري في نهاية نونبر وانشغال الرئاسة بمحاولة استعادة الاستقرار السياسي والتوافق الداخلي. في الوقت نفسه، كانت البلاد تقترب من لحظة الخطر المالي/الاقتصادي، في ظل التراجع الحثيث في احتياطي النقد الأجنبي، وتباطؤ صندوق النقد الدولي في إقرار القرض الذي طلبته مصر من الصندوق. ولأن هذه هي مصر وليست أية دولة أخرى، لم يكن خافيا أن أزمة البلاد السياسية وأزمة ماليتها العامة حملتا أيضا أبعادا عربية ودولية. أطراف عربية كانت تشجع قوى معارضة عبثية وتدعم سعيها إلى إسقاط مرسي، بينما استخدمت القوى الغربية الرئيسية الأزمة السياسية، من جهة، وحاجة مصر الملحة إلى السيولة المالية، من جهة أخرى، للضغط من أجل منح شخصيات معارضة تثق فيها مواقع رئيسية في دائرة صنع القرار المصري، بما في ذلك رئاسة الوزراء. لا يمكن القول إن انفتاح مصر على إيران كان مدفوعا بالأزمة المالية والبحث عن إمدادات نفطية، وحسب. توجه مرسي لإنهاء القطيعة مع إيران ودعوتها إلى ما أسماه الرئيس «لعب دور في الحل في سورية، بدلا من أن تكون طرفا في المشكلة» ظهر مبكرا وقبل أن تحتدم الأزمة المالية. ولكن البحث عن مصادر عون مالي ونفطي كان أيضا بين الأسباب الهامة. ولا يخفى، نظرا إلى طبيعة نظام المالكي وارتباطاته، أن العلاقة بالعراق كانت ملحقا للعلاقة بإيران، وهو الأمر الذي كان واضحا في القاهرة من البداية. المهم أن مصر لم تحصل على أي دعم ملموس من إيران والعراق ولا من دول الخليج والسعودية، بالطبع، ما عدا قطر، حتى الآن. وليس من الواضح ما إن كان عراق المالكي سيستجيب لطلب مصر أربعة ملايين برميل من النفط شهريا، مع تسهيلات في السداد. ولكن العون المالي القطري والتركي والليبي، وصفقة استيراد النفط من ليبيا، أخرجت مالية مصر العامة من عنق الزجاجة، وتبشر بحل أزمة مشتقات النفط المستحكمة، ولاسيما السولار. من جهة أخرى، نجح تصميم مرسي وصلابته، ووعي المصريين بحقائق الوضع في بلادهم، في إيقاع هزيمة محققة بجناح المعارضة العدمي الذي سعى إلى إيقاع البلاد في خضم العنف والفوضى وإطاحة الرئيس المنتخب. وكان متوقعا، ولاسيما بعد أن تفاقمت الأزمة السورية، سياسيا وإنسانيا، وتجاوز النظام وحلفائه كل حدود القانون والقيم، أن تتحرك القاهرة للعب دور أكثر فعالية في الأزمة. ولكن لا القاهرة تحركت بما يكفي، ولا هي تحركت كما يجب. وكلما أثيرت أسئلة ما حول الموقف المصري من سورية، في الأسابيع القليلة الماضية، خرج الناطقون الرسميون ببيانات لم تخل دائما من التلعثم. ثمة عدد من المعطيات التي لا بد من أخذها في الاعتبار، قبل البحث في ما يمكن أن تقوم به مصر تجاه الأزمة السورية: أولا، مصر دولة إقليمية كبرى، تخرج اليوم من ثورة شعبية كبرى، وتعيش مناخ إعادة بناء داخلي وللسياسة الخارجية. تحتفظ دولة مثل مصر بعلاقات واسعة ومتعددة، بغض النظر عن أولويات هذه العلاقات، ومن المنطقي بالتالي أن تكون لها علاقات طبيعية وخطوط مفتوحة مع دول مثل روسياوإيران، إحداها قوة رئيسية على المسرح الدولي، والأخرى جارة كبيرة، ذات دور نشط في محيطها. لا مصر ولا أية دولة عربية أخرى في حالة حرب مع إيران، وأغلب الذين ينتقدون التقارب البطيء بين القاهرةوطهران يحتفظون بعلاقات دبلوماسية واقتصادية تجارية مزدهرة مع الإيرانيين. ولكن ثمة ملفات من الخلافات العربية مع إيران، لا تقتصر على سورية، وخلاف عربي روسي عميق حول سورية، لا يمكن تجاهلها. ثانيا، من الطبيعي أن ينتظر العرب، شعبا قبل الأنظمة، دورا نشطا من مصر في سورية، ليس فقط لأنها الدولة العربية الأكبر، ولكن أيضا لأن هذه مصر الجديدة، مصر التي يفترض أن تختلف عن مصر ما بعد كامب ديفيد. من جهة أخرى، فإن دورا مصريا نشطا في المحيط العربي والمشرقي بات ضرورة حيوية لنهوض مصر، فمنذ ولادتها كدولة حديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم تستطع مصر أن تنهض بدون دور إقليمي نشط، لأسباب عديدة، يتعلق بعضها بالموارد والأسواق، وبعضها الآخر بشروط الأمن الاستراتيجي. حصة الاستثمارات العربية، الخاصة والعامة، مثلا، لم تزل الأكبر بين مجموع الاستثمارات غير المصرية المباشرة في السوق المصرية، بكافة قطاعاتها. من جهة ثالثة، تهدد الأزمة السورية المتفاقمة بانفجار إثني وطائفي ومذهبي في المشرق؛ ولموقعها الوسيط، لن تستطيع مصر تحقيق الاستقرار والنهضة بينما السودان لم يزل غارقا في مناخ من التوتر، وليبيا تواجه تحديات الحرية ومواريث الاستبداد، وسورية والعراق، وربما الخليج والجزيرة، في حالة من التدافع الطائفي والإثني والمذهبي. وفقط في مناخ أزمة، تستطيع مصر استعادة دورها وموقعها الإقليمي. فمن سيكون مستعدا لأن يسمع مقولات دور مصر وحجمها في مناخ استقرار وسلام، بينما هي تتجنب مسؤولياتها في مناخ أزمة وقلق؟ ثالثاً، مصر، بالرغم من ذلك، لم تخرج من أزمتها المالية والاقتصادية بعد، وعليها، في غيبة الدول العربية القادرة، أن تبحث عن أفضل المصادر والوسائل للخروج من هذه الأزمة. محاولة الحصول على دعم مالي ونفطي من إيران والعراق، وتشجيع السياحة العراقية والإيرانية لمصر، قد لا تختلف كثيرا عن الفوائد الجمة التي تجنيها تركيا، أحد الأطراف الرئيسية في معسكر المؤيدين للثورة السورية، من علاقاتها التجارية والاقتصادية مع إيران أو تجنيها دولة الإمارات العالقة في نزاع مديد مع إيران حول عدد من الجزر الخليجية. فكيف يمكن أن توفق مصر، إذن، بين هذه المعطيات المختلفة، والمتناقضة أحيانا؟ على المديين المتوسط والبعيد، لن تستطيع مصر، ولا العرب جميعا، حماية سورية من التدخل الأجنبي، ومن فقدان ما تبقى من مقدراتها، والحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها، بدون وضع نهاية سريعة للصراع الدائر بين النظام وشعبه. ولا يمكن التوصل إلى هذه النهاية بمجرد التوسل إلى النظام للقبول بالتنحي وانتقال السلطة بصورة سلمية ومنظمة. كما لا يمكن، من جانب آخر، تصور حل للأزمة ببقاء النظام، المتمثل في الأسد والمجموعة المحيطة به، بعد عامين من سفك الدماء والمجازر والتدمير والكراهية. للتوصل إلى حل للأزمة وتجنب التدخلات الخارجية، لا بد من المساعدة على تحقيق تغيير سريع وملموس وقاطع في ميزان القوة بين النظام وقوى الثورة. وما يصح في التعامل مع نظام دمشق، يصح أيضا في التعامل مع حلفائه، ولاسيما إيران. إقناع إيران بأن تتحول إلى طرف في الحل، بدلا من أن تكون طرفا في المشكلة، لن يتحقق بالإقناع والمنطق في قاعة التفاوض، ولا بإغراء بناء علاقات طبيعية بين إيران وأكبر دولة عربية؛ إذ إن مصر تستأنف علاقاتها بإيران اليوم، بينما هي، وليس إيران، التي تحتاج دعما ماليا واقتصاديا. ولا تختلف المقاربة المصرية للعلاقات بروسيا كثيرا، لأن ما تتوقعه القاهرة من موسكو الآن، وقبل الغد، أكثر إلحاحا مما يمكن أن تجنيه موسكو من عودتها إلى مصر، عربيا وإفريقيا. يتطلب إقناع إيران بخيار الحل، وإقناع روسيا بالتخلي عن النظام، وإقناع النظام بالتنحي وانتقال السلطة، أن ترمي مصر بثقل ملموس، سياسيا وعسكريا، في خضم الأزمة. كما تركيا ودول الخليج، لا بد أن تبني مصر علاقات طبيعة مع إيرانوروسيا، وربما وثيقة أيضا، وتفهم كافة الأطراف أنها بصدد العمل على تغيير ميزان القوى في الساحة السورية لصالح الشعب والثورة، في الوقت نفسه. وهذا لا يعني تورطا مثل التورط في يمن الستينيات، بل مجرد دور عسكري محدود جدا ومتواضع، ودور سياسي أكبر. خيارات صعبة؟ نعم. ولكن القيادة هي أصلا الاختيار بين خيارات صعبة.