عاد الرئيس المصري محمد مرسي هدفا للمعارضة، داخليا وخارجيا. والحقيقة أن أحدا ما كان يتوقع أن تستمر حالة التهدئة السياسية الداخلية، التي شهدتها مصر بعد إطاحة قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، طويلا. وهذا ما حدث بالفعل، إذ سرعان ما عاد الرئيس هدفا لرماية الأحزاب ووسائل الإعلام. لم تزل السياسة المصرية تمارس على خلفية من معادلة صفرية، وفي ظل استقطاب حاد، يسعى كل من أطرافه ليس إلى دفع العملية الديمقراطية إلى الأمام، ولكن إلى التخلص من الآخر وإخراجه نهائيا من الساحة السياسية. هذه هي التعددية التي تفتقد أسس إجماعية، والتي تتحول فيها السياسة من تدافع الأطراف السياسة من أجل طرح التصور الأفضل لتقدم الوطن، إلى صراع دارويني من أجل البقاء والبقاء المنفرد. الاستقطاب السياسي الداخلي يبدو مفهوما إلى حد كبير. ما لا يبدو مفهوما أن تطرح شكوك متزايدة حول سياسة مرسي الخارجية، وسياسته تجاه الأزمة السورية بصورة خاصة، والبعد المتعلق منها بإيران على الأخص. كان الرئيس المصري الجديد -مسلحا بشرعية الثورة وانتخابه الديمقراطي الحر وافتراض حسن النية العربي والإسلامي، لكونه من آخر الوافدين إلى منتدى قادة الدول- قد طرح مشروع أداة للتعامل مع الأزمة السورية في الجلسة المغلقة لمؤتمر القمة الإسلامي الطارئ المنعقد بمكةالمكرمة في شهر رمضان المبارك (منتصف غشت الماضي). جوهر الأداة/المشروع هو تشكيل لجنة رباعية من مصر وتركيا والسعودية وإيران، الدول الرئيسية في المشرق العربي الإسلامي وصاحبة الدور في، أو الاهتمام الفائق بالشأن السوري والأزمة التي تمر بها سورية. والواضح أن المنطق المؤسس للاقتراح المصري يدور حول أنّ توافُقَ الأطرافِ الأربعة هذه سيوفر مخرجا لسورية من الأزمة، يوقف نزف الدماء ويضع البلاد على طريق الحل، بدون التعرض لمخاطر التدخلات الأجنبية، المباشرة وغير المباشرة. كانت مصر طوال المرحلة الانتقالية، التي امتدت من سقوط الرئيس مبارك في فبراير 2011 إلى تولي الرئيس مرسي مهامه في نهاية يونيو، ومن ثم حسم الصراع على السلطة في 12 غشت، قد التزمت موقفا أقرب إلى الغموض من المسألة السورية. ولكن مرسي وضع نهاية لهذا الغموض، وطالب صراحة بتنحي الرئيس السوري بشار الأسد ونهاية نظامه، كخطوة أولى من أجل حل الأزمة. والمفترض، بالتالي، أن يرتبط الاقتراح بتشكيل الرباعية بهذا التصور المصري للأمور. المدهش أن اقتراح الرئيس مرسي لم يجد استجابة سريعة من السعودية خلال قمة مكة أو بعدها، وإن كان ثمة من رد سعودي فلا بد أنه قدم سرا. ولكن، وبغض النظر عن الموقف السعودي، وبعد ترحيب من الدولتين الأخريين، تركيا وإيران، قامت القاهرة بالفعل بالدعوة إلى عقد لقاء أولي للدول الأربع، وهو اللقاء الذي عقد في العاصمة المصرية على مستوى وزراء الخارجية، وبدون مشاركة سعودية. لم يتوصل مندوبو الدول الثلاث إلى أي اتفاق، ولم يكن متوقعا أن يصلوا على مثل هذا الاتفاق في اجتماعهم الأول. ولكن المهم أن المشروع قطع خطوته الأولى، بالرغم من أنه من الصعب الآن توقع التحاق السعودية بالمشروع، أو متى سيتم هذا الالتحاق، كما أنه من الصعب توقع المدى الذي ستنجح فيه الرباعية، أو الثلاثية (في غيبة السعودية)، في تحقيق تقدم نحو تقريب وجهات النظر بين مصر وتركيا، من جهة، وإيران، من جهة أخرى. المهم، على أية حال، أن اقتراح الرئيس مرسي سرعان ما تعرض للتنديد والتشكيك، من دوائر مختلفة، إسلامية وإسلامية سلفية وغير إسلامية. رأى البعض في اقتراح الرئيس المصري خطوة متسرعة وغير مدروسة، ودللوا على ذلك بامتناع السعودية عن المشاركة في أعمال الرباعية ولقاء وزراء خارجيتها الأول، بينما قال آخرون إن مرسي، إخواني الخلفية، يستخدم الأزمة السورية لتمرير سعيه إلى تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية، وأنه، بوعي أو بدون وعي، يتجاهل سياسات إيران الطائفية والمعادية لأماني الشعب السوري والمصالح العربية. بصورة أخرى، يقول منتقدو مرسي إن إيران هي جزء، بل وجزء كبير، من المشكلة في سورية، فكيف يخطو مرسي أولى خطواته نحو الأزمة السورية بافتراض أنها طرف أصيل في الحل؟ ما يمكن ملاحظته، أولا، أن الرئيس المصري -الذي يبدو أنه بدأ التعرف على الملفات الملحة في السياسة الخارجية، وأن خطواته في التعامل مع الأزمة السورية لا تحركها مصالح والتزامات مصر العربية والإقليمية وحسب، ولكن المشاعر الشخصية كذلك- يرى في اللجنة الرباعية وسيلة لحوار الدول الأربع وتبادل الرأي حول الوضع في سورية. ولكن مرسي لا يتوقع التوصل إلى حل سريع للأزمة، بل يبدو أنه ينتظر تغير موازين القوى على الأرض وتوفر نافذة للتوفيق بين وجهة النظر الإيرانية، من جهة، والدول الأخرى الثلاث، الملتزمة علنا ورسميا بالوقوف إلى جانب حركة الشعب السوري، ومد يد العون إلى قواه القيادية. بصورة أوضح، تدرك القاهرة صعوبة تغيير الموقف الإيراني في هذه اللحظة من الأزمة، وأن حجم وطبيعة اصطفاف إيران إلى جانب النظام في دمشق يمثل التزاما إيرانيا باستمرار النظام وحمايته. هناك أسباب طائفية تقف خلف الموقف الإيراني من سورية، وأسباب استراتيجية، وهناك مخاوف كبيرة من عواقب سقوط النظام في دمشق، سواء على وضع إيران الإقليمي أو على الأوضاع في لبنان وسورية، بل وربما على وضع إيران الداخلي أيضا. ليست ثمة أوهام لدى مرسي، والمجموعة التي تساعده على إدارة السياسة الخارجية، في مؤسسة الرئاسة أو في أجهزة الدولة ذات الاختصاص، حول الدور الذي تتعهده إيران في الأزمة السورية. ولكن اعتبارات أخرى، واعتبارات عديدة، تستدعي عدم تجاهل إيران في أي تصور لحل الأزمة. إيران مبدئيا هي إحدى جارات العرب الكبريات، وهي جزء لا يتجزأ من الخارطة الجيو استراتيجية للمجال المشرقي، كما أنها شريك تاريخي. وتلعب إيران دورا بالغ الأهمية، ليس في سورية وحسب، ولكن في لبنان والعراق أيضا. سياسات إيران منذ ولادة الجمهورية الإسلامية لم تجد ترحيبا كبيرا من أغلب الأنظمة العربية، وتثير سياسات إيران الإقليمية، طوال العام أو العامين الماضيين، معارضة واسعة في الشارع العربي. كما أن إيران جزء من المشكلة في العراق، فهي كذلك، وربما بصورة أعمق، جزء من المشكلة في سورية. عندما كانت مشكلة إيران مع أنظمة عربية، مثل تلك التي قادها حسني مبارك، كان بإمكان القادة الإيرانيين أن يظهروا عدم الاكتراث، أو أن يقولوا للشعب الإيراني أنهم يقفون في صف الأغلبية الشعبية المسلمة في المنطقة. ولكن إيران الآن تخسر على كل الجبهات، جبهة الأنظمة وجبهة الشعوب. على المستوى الرسمي، لا تتجاوز دائرة حلفاء إيران وأصدقائها، أمثال المالكي والأسد اللذين لا يمكن وصفهما بأقل من القتل وسفك الدماء. ووضع إيران في دول الثورات العربية، أنظمة وشعوباً، ومن وجهة نظر الإسلاميين وغير الإسلاميين، أسوأ من وضعها في الدول التي لم تشهد تحولا ثوريا. ولا يستطيع الرئيس مرسي، القادم إلى الرئاسة المصرية من خلفية إسلامية سياسية، حتى إن أراد، تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية. رئيس منتخب من الشعب وبإرادته، ويدير شؤون البلاد تحت نظر الشعب ورقابته، لا يستطيع أن يتخذ خطوة في السياسة الخارجية، بمثل حجم العلاقات بإيران، تصطدم مع إرادة المصريين الذين أوصلوه إلى مقعد الرئاسة. وهذا، على الأرجح، ما قاله مرسي لمضيفه أحمدي نجاد، عندما التقاه على هامش مؤتمر دول عدم الانحياز في طهران. بيد أن إيران هي دولة أيضا، وهي دولة تبحث عن الاستمرارية وحماية الذات. يحسب الإيرانيون، في واحد من أكبر الحسابات الخاطئة منذ ولادة الجمهورية الإسلامية، أن باستطاعة النظام الحاكم في سورية تجاوز التحدي الذي يواجهه منذ أكثر من عام ونصف العام. ويقوم الإيرانيون بكل ما يستطيعونه لمساعدة النظام على الانتصار على معارضيه. ولكن بقاء النظام أو زواله ليس مرهونا بالموقف الإيراني. يستطيع الإيرانيون إضافة مزيد من التعقيد إلى الوضع في سورية، ولكنهم لا يستطيعون ضمان انتصار النظام أو حمايته. ما يواجهه النظام ليس غزوا أجنبيا، بل ثورة شعبية عارمة، تكتسب في كل يوم المزيد من الخبرة والقدرة على مواصلة النضال. وليس ثمة نظام حكم فقد هذه المساحة الواسعة من الشرعية وأمكنه الاستمرار في حكم البلاد والشعب. لا يجب أن يكون هناك شك في أن نظام الأسد إلى زوال، السؤال يتعلق بمتى وبأية تكاليف، وليس بما إن كان سيسقط أم لا. وعندما تقترب لحظة سقوط هذا النظام، عندما يصل التغيير في موازين القوى إلى المستوى الذي سيفرض على القيادة الإيرانية تغليب متطلبات الدولة وحساباتها على الدوغما الطائفية والإيديولوجية، لا بد أن تكون هناك آلية ما للتفاهم، لتسريع عملية حل الأزمة في سورية ووضع حد لنزيف دماء الشعب السوري، وتسهيل انتقاله إلى نظام الحكم الذي يرتأيه، ولا بد أن تكون هناك آلية لإعادة بناء العلاقات العربية بإيران على أسس جديدة، تقدم المصالح المشتركة وضرورات الجوار والمشترك التاريخي على عوامل الصدام والتوتر والشكوك المتبادلة. هذا من جهة إيران، أما من جهة السعودية، فالأرجح أن المقاطعة السعودية للرباعية، غير المعلنة بعد بصورة قاطعة، لا تتصل بمشاركة إيران؛ فهناك من المؤشرات ما يكفي للدلالة على أن السعودية تريد هي الأخرى وضع نهاية لحالة العداء والتوتر التي تحيط بالعلاقات بإيران. تتعلق مشكلة السعودية بدور مصر المستعاد، وما يمكن أن ينجم عن حركة مرسي النشطة في مجال السياسة الخارجية، أكثر منها باعتراف مرسي بدور لإيران في حل الأزمة السورية. وهذه، بالتأكيد، مسألة أخرى، تتطلب بعضا من نقاش آخر.