سرد الدكتور إدريس لكريني، مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، عددا من القراءات المتداولة بخصوص إرسال أمريكا لحوالي 3000 جندي لمكافحة وباء "إيبولا" في منطقة غرب إفريقيا، منها أن إيبولا مجرد كذبة اختلقتها الولاياتالمتحدة للتموقع في منطقة إستراتيجية وحيوية. وذكر لكريني، في مقال توصلت به هسبريس، مجموعة من القراءات الأخرى بخصوص طريقة إدارة الولاياتالمتحدة لهذه الأزمة الصحية العالمية، مبرزا أنه "إذا كان الزمن كفيلا بكشف صدقية هذه القراءات، فإن الواقع يؤكد أن هناك تنافسا حاميا بين قوى دولية كبرى على قارة عذراء تختزن إمكانات طبيعية وبشرية مذهلة". وهذا نص مقال إدريس لكريني: وباء إيبولا.. وفرضيّة الإدارة بالأزمات إن احتواء المخاطر والصعوبات التي تعرفها بعض الدول الإفريقية في أبعادها الصحية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية..؛ يفرض تحديات أمام المجتمع الدولي برمته في ظرفية لم تعد فيها الحدود الجغرافية والسياسية حصنا منيعا للاحتماء من تداعياتها؛ وهو ما يتطلب مقاربة شمولية، تسمح بتعزيز التنمية في هذه المناطق في إطار من الشراكة؛ بعيدا عن منطق الوصاية والعمل الإحساني، كما تظل مسؤولية الأممالمتحدة مطلوبة في محاصرة هذه المخاطر بعيدا عن التوظيفات المصلحية الضيقة. طالما شكل التخويف والتهويل من مخاطر وهمية أو حقيقية مدخلا لتمرير الكثير من القرارات والتشريعات التي يصعب أو يستحيل تمريرها في الحالات العادية محليا أو دوليا. فقد شكلت أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر وما ترتب عنها من ارتباك دولي وترويع؛ مناسبة قاسية؛ استثمرت على نطاق واسع في تصفية الحسابات مع الخصوم، وإصدار قرارات متسرعة وخطيرة في نفس الآن. لا تخفى التداعيات الخطيرة للأحداث اجتماعيا واقتصاديا وأمنيا.. في الداخل الأمريكي والمحيط الإقليمي والدولي؛ لكنها سمحت للولايات المتحدة باستصدار قرار غير مسبوق عن مجلس الأمن من حيث مضمونه القاضي بممارسة حق الدفاع الشرعي ضدّ خطب غير دولتي؛ ومن حيث صدوره بعد مرور يوم واحد من وقوع الأحداث. فيما قادت الولاياتالمتحدة حروبا خطيرة ضد خصومها؛ فتم تجريم العديد من الجماعات والمنظمات بوصمها بالإرهاب؛ ولم تنج من ذلك حتى بعض حركات التحرر ضد الاحتلال من هذه الإجراء، فيما اختزلت أولويات المجتمع الدولي خلال هذه المرحلة في مكافحة "الإرهاب" الذي لم تفلح الأممالمتحدة ذاتها في تحديد تعريف متفق بشأنه. وإذا كانت العديد من النظم الشمولية قد استثمرت الحادث في التضييق على خصومها السياسيين وإقصائهم عبر اتهامهم بالتطرف والإرهاب؛ فقد شكّلت الأحداث محطّة لإصدار العديد من التشريعات في الولاياتالمتحدةالأمريكية وعدد من الدول الغربية؛ التي تم من خلالها التضييق على العديد من الحقوق والحريات؛ تحت ذريعة "حريات أقل من أجل أمن أفضل".. إلى جانب تقنية إدارة الأزمات التي تقوم على التدخل عبر سبل مختلفة للسيطرة على الأحداث وعدم السماح لها بالخروج عن نطاق التحكم، توجد تقنية موازية أخرى يطلق عيها المهتمون والخبراء في هذا المجال بالإدارة بالأزمة، وهي تقنية تنبني على خلق أزمات وهمية ومفبركة تثير الاهتمام، على سبيل للتعتيم وتصريف أزمات حقيقية بهدوء وبصورة بعيدة عن الأضواء. أو استثمار أزمة قائمة في تحقيق أهداف خاصة؛ مثلما حصل مع اندلاع أزمة الخليج الثانية بسبب احتلال العراق للكويت، عندما تم إعادة رسم الخريطة السياسية بالمنطقة من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية. وفي هذا السياق؛ تحوّلت القوات الأمريكية التي كانت تقود قوات الأمن المتحدة لحفظ السلام في الصومال ضمن عملية إعادة الأمل، إلى طرف رئيسي في الصراع عقّد الأوضاع وأساء للصومال وللأمم المتحدة ومسّ بمصداقيتها المتآكلة أصلا. وسمح تطور الأحداث في مالي بتعزيز الدور الفرنسي في المنطقة؛ وتشير الكثير من التقارير الإخبارية إلى أن هذه الدولة قررت إقامة قاعدة عسكرية في شمال شرق النيجر بمبرر مواجهة الجماعات المتطرفة في المنطقة ومحاصرة طرق مدها بالأسلحة القادمة من ليبيا. وتؤكد الدراسات أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل كثيرا ما لجأتا لتقنية الإدارة بالأزمات في التعاطي مع الكثير من المشاكل الدولية كسبيل لصد النظر عن أزمات نزاعات تعد طرفا فيها. إن هذا التحليل لا يسير باتجاه تكريس نظرية المؤامرة؛ أو إنكار مخاطر الإرهاب والأمراض الخطيرة العابرة للحدود وتلوث البيئة.. بقدر ما يسعى إلى قراءة الأحداث الدولية في شموليتها بمنظور واقعي. ارتبط السلم والأمن الدوليين خلال فترة الحرب الباردة التي تميزت بتوترها وصراعها على مختلف الواجهات، بتك الحالة التي تغيب فيها الصراعات والمواجهات العسكرية، بما تعنيه من تركيز على خطر مركزي هو الهاجس العسكري. غير أنه مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين..، التفت العالم إلى مخاطر أخرى غير عسكرية لا تقل في خطورتها وأهميتها عن النزاعات العسكرية، مما جعل مدلول السلم والأمن الدوليين يتسع في هذه المرحلة من تطور العلاقات الدولية، مع بروز عدد من المخاطر الدولية التي تتجاوز في تداعياتها ومظاهرها وأبعادها حدود الدول، والتي ألقت بإشكالاتها على مستقبل السلم والأمن الدوليين من قبيل تلوث البيئة، والفقر، وندرة مصادر الطاقة والمياه، والجريمة المنظمة، و”الإرهاب” الدولي، والصراعات والنزاعات الإثنية، وانهيار الدول، والأمراض الخطيرة العابرة للحدود.. فقد ذكرت بعض التقارير أن ذبابة "تسي تسي" التي تحمل طفيليات وتقوم بنشر مرض النوم، وتسهم في مغادرة الأراضي الزراعية، تغزو 37 دولة من دول إفريقيا شبه الصحراء، بما في ذلك 32 دولة من بين 42 دولة الأكثر فقرا ومديونية في العالم. وتبيّنت خطورة أنفلونزا الطيور على الإنسان سنة 1997، عندما أصيب أشخاص بفيروس هذا الداء في “هونغ كونغ”، لتبدأ العدوى في التصاعد والانتشار على امتداد مناطق مختلفة من العالم.. وجاء في تقرير صادر عن الأممالمتحدة أنه خلال الخمس والعشرين عاما التي مضت منذ ظهور الحالات الأولى للإصابة بداء فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز)، أودى هذا الأخير بحياة أكثر من 25 مليون نسمة، وأصاب باليتم 15 مليون طفل، وأدّى إلى تفاقم وطأة الجوع والفقر. كما أدّت الكوارث الطبيعية إلى تشريد أزيد من 22 مليون شخص في سنة 2013 بفعل الفيضانات والزلازل والأعاصير.. منذ اكتشاف داء "إيبولا" عام 1976 في الكونغو وجمهورية إفريقيا الوسطى؛ تنامي انتشار المرض، وتشير الإحصائيات إلى أن هناك ما يربو على 6000 حالة؛ وتوفي أزيد من 2500 شخص، فيما انعكس الأمر بشكل سلبي على حركة الطيران المدني الدولي والسياحة.. استأثر موضوع تطويق انتشار فيروس إيبولا باهتمام كبير خلال أشغال الدورة التاسعة والستون للجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة ما بين 24 سبتمبر و01 أكتوبر 2014؛ والتي تميزت بمشاركة عدد كبير من رؤساء الدول والحكومات والمنظمات الدولية والخبراء.. حيث تم التأكيد على ضرورة محاصرة انتشاره. فيما تزايد الاهتمام الإعلام الدولي بتطوّر وباء "إيبولا" من جهة وتقدم "داعش" في سورياوالعراق.. إلى الحدّ الذي توارت معه الكثير من القضايا الوازنة والحيوية عن التداول الإعلامي؛ كما هو الشأن بالنسبة لتداعيات ومخاطر العدوان الإسرائيلي على غزة؛ وتعقّد التحوّل في ليبيا وتدهور الأوضاع الأمنية وتزايد المعاناة الإنسانية في سوريا.. إن طلب المساعدة التي تقدّمت بها الدول المتضررة من هذا الوباء القاتل الذي تصل نسبة الوفيات التي يحدثها إلى حوالي 90 بالمائة في أوساط المصابين؛ إلى المجتمع الدولي تجد أساسها في حجم الأضرار والمآسي الإنسانية التي يخلفها انتشار الداء، فقد اعتبرت ليبريا أن ردّ فعل المجتمع الدولي لم يكن في حجم مخاطر وسرعة انتشار الفيروس. ورغم أن المساعدات الدولية لم تقتصر على الولاياتالمتحدةالأمريكية بمفردها؛ حيث انخرطت روسيا وفرنسا والصين وغيرها في هذا الشأن؛ عبر تقديم مساعدات مالية وتقنية وطبية، لكن الرد الأمريكي يطرح أكثر من سؤال لكونه اتخذ طابعا عسكريا. فقد أعلنت هذه الأخيرة عزمها إرسال حوالي 3000 جندي أمريكي لمكافحة الفيروس في منطقة غرب إفريقيا؛ واعتبرت أنها ستنصب على العمل الصحي والإنساني عبر إحداث مختبرات متنقلة لكشف المصابين بالفيروس؛ ومراكز طبية للعلاج.. ذهبت بعض القراءات إلى أن إيبولا هو مجرد كذبة اختلقتها القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة كسبيل لإيجاد مبررات تسمح لها بالتموقع في منطقة إستراتيجية وحيوية. ويبرر هذا التوجه موقفه بأن الدول التي تتجه الولاياتالمتحدة إلى نشر قواتها فوق أراضيها لوقف زحف الداء؛ شهدت في السنوات الأخيرة اكتشاف احتياطات هامة من النفط؛ فيما تحتضن سيراليون احتياطات ضخمة من الماس. ويضيف هذا الرأي أن الولاياتالمتحدة كانت على وشك إرسال قواتها إلى نيجيريا بعد الضجة التي أثيرت بصدد اختطاف الجماعة لعدد من الفتيات؛ لكن الرأي العام في النيجر لم يكن مساندا لهذا الخيار. فيما ذهبت آراء أخرى إلى أن التهويل من الوباء؛ مردّه السعي إلى تمكين مختبرات الأدوية العالمية من أرباح مالية هائلة. وذهب آخرون إلى الولاياتالمتحدة وبعد التأكد من كلفة التدخل العسكري، بدأت تبحث عن سبل أقل كلفة وأكثر مرونة ومقبولية من قبل الرأي العام الأمريكي والدولي لتحقيق مصالحها.. إذا كان الزمن هو الكفيل بكشف مدى صدقية هذه القراءات؛ فإن الواقع يؤكد يوما بعد يوم بأن هناك تنافسا حاميا بين قوى دولية كبرى على قارة عذراء تختزن إمكانات طبيعية وبشرية مذهلة.. إن احتواء المخاطر والصعوبات التي تعرفها بعض الدول الإفريقية في أبعادها الصحية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية..؛ يفرض تحديات أمام المجتمع الدولي برمته في ظرفية لم تعد فيها الحدود الجغرافية والسياسية حصنا منيعا للاحتماء من تداعياتها؛ وهو ما يتطلب مقاربة شمولية، تسمح بتعزيز التنمية في هذه المناطق في إطار من الشراكة؛ بعيدا عن منطق الوصاية والعمل الإحساني، كما تظل مسؤولية الأممالمتحدة مطلوبة في محاصرة هذه المخاطر بعيدا عن التوظيفات المصلحية الضيقة. *مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات [email protected]