أخيرا، وبعد طول انتظار وتأخير، أي بعد قرابة قرن من الممارسة التشكيلية الحديثة، أصبح للمغرب متحف للفن المعاصر، وصار بإمكان المغاربة أن يتعرفوا على جانب من تاريخهم الفني وعلى فنانيهم، ويطلعوا ويتذوقوا ويتأملوا العديد من الأعمال والتجارب التشكيلية المعاصرة التي لا شك تعكس جانبا هاما من وجودهم الثقافي وحساسياتهم الجمالية وذاكرتهم البصرية. من المعروف، ومن بديهيات الحضارة أن الفن حظي دوما بدور وأثر كبير في تطوير المجتمعات والدول المتقدمة، والارتقاء بحياتها الثقافية والسياسية، وتطوير وعيها العام وحساسيتها وإغناء خيالها وقدراتها على الإبداع والتطور، حيث لم يعرف التاريخ قط وجود دولة أو حضارة متطورة دون أن يكون الفن أحد أهم أسباب وتجليات رقيها، كما أن تطور الدول والمجتمعات والأنظمة الديمقراطية الحديثة، على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ارتبط أساسا بتطورها الثقافي وتبوئيها الفن مكانته الأساسية في التربية والتكوين والتنشئة الاجتماعية والتأهيل الاقتصادي والصناعي. ونحن بصدد الحديث عن افتتاح متحف الفن المعاصر بالمغرب، واستحضار مكانة الفن كشرط حضاري وثقافي لرقي الشعوب والأنظمة الديمقراطية، أتمنى أن يكون السيد عبد الإله بنكيران، رئيس حكومة المغرب، قد قام رفقة فريقه الوزاري خاصة من نخبة وقياديي البيجدي وجماعة التوحيد والإصلاح، بجولة في متحف الفن المعاصر المغربي الذي حضر تدشينه مؤخرا، وأن يكون قد اطلع على معلومات أولية حول تاريخ الفن بالمغرب، بما يمكنه من اكتساب انطباعات ومعارف أولية حول بعض التجارب وأسماء التشكيليين وأعمال الصباغة والنحت والفوتوغرافيا...التي شكلت وأغنت تاريخ الممارسة والتشكيل المعاصر في المغرب على امتداد قرابة قرن من الزمن، حيث لا يعقل أن يكون رئيس الحكومة أو وزير التعليم العالي، غير ملم بتاريخ وتجارب الإبداع التشكيلي المغربي، وربرتواره البصري الذي يعتبر إحدى التجليات النادرة لحداثة الثقافة والتعبير الفني في المغرب المعاصر، وذلك بما يعكس وعيه وفريقه الوزاري بأهمية الفن في تطور المجتمع، ومن تم ضرورة توفير الشروط التنظيمية والمؤسساتية والسياسية للارتقاء بالتربية على الفن والتكوين في مختلف مجالاته الإبداعية والصناعية لفائدة كلفة أبناء المغاربة والمغرب. فلا شك أن الجولة بين أروقة المتحف، خاصة إن كانت رفقة عارف وشارح ملم بأثر هذا التاريخ والممارسة التشكيلية على تطور الوعي الثقافي والسياسي في المغرب المعاصر، وإذا ما استطاع الزائرون من مختلف شرائح المجتمع المغربي التخلص من قوالب ومكبلات تربوية وثقافية ورثوها قسرا عن النظام التربوي والثقافي التقليدي المهيمن على مسارات التنشئة الاجتماعية، كتحريم الفن والجهل به وتبخيس الخيال والإبداع الإنساني، ستجعلهم يدركون إحدى أهم تجليات الحداثة الثقافية بالمغرب، وأنه بجانب مظاهر الثقافة التقليدية والمدارس العتيقة والمجالس الدعوية، ثمة مجالات وإنتاجات ثقافية وإبداعية حديثة، وفنانون وكتاب ومثقفون ونقاد تشبعوا بالفكر والحساسيات الجمالية المعاصرة، كابدوا وعملوا وساهموا بشكل كبير في تطوير الذوق والوعي الجمالي والارتقاء بوجودنا الثقافي والتعبير عنه فوق هذه الرقعة من العالم. لكن الوجه الآخر لبلادنا التي صارت تتوفر على متحفها للفن المعاصر، هو الوضع الفعلي للفن والإبداع التشكيلي في فضاء المجتمع وسياسات الدولة وأنظمتها الثقافية والتربوية والجامعية والتكوينية، هذا الوجه المناقض للأول والذي يطرح الكثير من اللبس والاستفهام. فمن بين أغرب المواصفات التي تطبع وضعية الفن في المغرب، هو أنه من بين الدول النادرة في العالم التي لا تتوفر على كلية للفنون ومعاهد ومدارس مؤهلة فعليا للتكوين في المجالات والمهن المرتبطة بالفنون التشكيلية والإبداع وفنون التصميم والصناعة البصرية والإشهارية. فإذا كانت دولة صغيرة كتونس مثلا، تتوفر على أكثر من 11 كلية للفنون مند قرابة 20 سنة، فإنه باستثناء المعهد العالي للفنون الجميلة بتطوان الذي أعيدت هيكلته وتأهيله مؤخرا، ومعهد الفنون الجميلة بالدرالبيضاء الذي لا يزال يتخبط في وضعية مزرية على مستوى وضعه الإداري والعلمي رغم تاريخه وأهمية التكوين ومجهود وتضحيات وكفاءات مكونيه، فالمغرب لا يتوفر على مؤسسات التكوين الفني وبالأحرى على سياسة تربوية وتكوينية وجامعية في هذا المجال. فبينما تتوفر جل الجهات والمدن في دول أقل نموا من المغرب على كليات ومعاهد الفنون، فالمغرب لا يتوفر ولو على كلية واحدة خاصة بمجالات الفنون والإبداع، بل ولو على مسلك جامعي واحد أو دبلومات تقنية ومهنية أو ماستر قار للفنون التشكيلية وتخصصاتها كتاريخ الفن والصورة والديزاين الصناعي والمعماري والتجاري، وفلسفة الفن والنقد الجمالي والإبداع الصباغي والنحت والحفر...، رغم الأهمية الكبيرة التي صارت تحظى بها هذه التخصصات في التكوين المعرفي والأكاديمي والتربوي، وفي الصناعات الفنية وسوق الشغل خصوصا مع ازدياد حاجيات المغرب على المستوى الاقتصادي والصناعي والإبداعي من الكفاءات في هذه المجالات! وباستثناء مادتي التربية التشكيلية والفنون التطبيقية المدرجتين ضمن مناهج التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي، ففرص التربية على الفن والتكوين في المجالات والتخصصات التشكيلية تبقى محدودة بشكل يثير الكثير من الاستغراب حول دواعي وخلفيات هذه الوضعية الشاذة المستمرة مند عشرات السنوات. إضافة إلى أن حزب رئيس الحكومة ووزارة التربية الوطنية يعملان مند ثلاثة سنوات على تضييق حيز هذه الفرصة الضيقة أصلا المتاحة لعامة أبناء المواطنين المغاربة للتعليم الفني بالمدرسة المغربية، بعد حرمان مادة التربية التشكيلية وكذا نظيرتها الموسيقية من المناصب المالية لتوظيف الأساتذة، وإرباك مسار تعميمهما بالمؤسسات التعليمية، وهذا ما سيفضي لا محالة إن استمر الأمر على ما هو عليه أو إن تم اعتماد صيغة تمييزية بدل تعميم تدريس المادة، إلى الإجهاز الكلي على المنظومة الاجتماعية التي ستحقق للمغاربة تكافؤ الفرص التربوية بما في ذلك حقهم في التربية على الفن، ومنها على الأقل إمكانية زيارة متحف الفن المعاصر المغربي وفهم التاريخ الذي يجسده ويقدمه وتذوق الإبداعات التي يعرضها! فالمؤكد أن أهمية توفر المغرب على متحف للفن المعاصر، كخطوة في اتجاه دمقرطة الثقافة وتحقيق إمكانية الولوج العمومي إلى الفن، ودعم دينامية الحقل التشكيلي وأفق تطوير الممارسة الإبداعية، لن تتحقق دون تبوئ الفن مكانته اللائقة في السياسة التعليمية والتربوية والثقافية، وفي حياة الأفراد والمجتمع، ودون انخراط الجماعات والجهات في إحداث متاحف محلية باعتبار الفن حق وشرط أساسي لوجود المدينة والحياة الديمقراطية والانتماء إلى الحضارة الإنسانية.