"كلام العقلاء منزه عن العبث" حكمة عربية خالدة، توارثتها أجيال الحضارة العربية الإسلامية، تضع بها، العلامة الفارقة، بين صفوة أهل العقل والعلم والرأي، الذين لا يلفظون من القول إلا ما كان سديدا ودقيقا، وحكيما، فيما غيرهم من عموم الناس، ودهماء القوم، يلقون بالكلام الكثير على عواهنه، الذي لا يأبه له أحد، لكثرته، ولتفاهته ولسفاهته، بينما كلام أولي الألباب ، الصادر عن الروية والتؤدة والتحوط والضبط ، يخلد ويؤسس ويقود. في إحدى فقرات الشريط الوثائقي، الذي عرضته القناة الأولى المغربية ليلة الاثنين 27 أكتوبر 2014، عن حياة الدكتور عبد الكريم الخطيب، في برنامج "رواد"، أثار مقدم البرنامج، واقعة اغتيال الشهيد عمر بنجلون، وتورط بعض الإسلاميين في ذلك، وما كان قد اندلع من جدل، حول مبادرة الدكتور الخطيب باستدعاء محامين من خارج البلاد، للترافع عن هؤلاء الإسلاميين خلال محاكمتهم، مساعدة لهم في ضمان حقوقهم في الدفاع، بعدما أجمع محامو المغرب على رفض توفير الدفاع عنهم ، تضامنا وغضبا لدم الشهيد عمر الذي كان من جسم المحامين ، علاوة على أنه كان من أكبر القيادات السياسية والنقابية والوطنية. وكان من المتدخلين، الأستاذ محمد اليازغي، المحامي والإعلامي والقيادي السياسي والوطني البارز، في حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي قال بعظمة لسانه: "إن عبد العزيز النعماني رئيس الخلية التي اغتالت عمر، كان الملك الحسن الثاني قد أخبر بشأنه، عبد الرحيم بوعبيد، عن اعتقاله" ، ويضيف اليازغي : "بأن الشرطة لم تحضره للمحاكمة، وأن الدكتور الخطيب هو الذي حماه إلى أن تمكن من مغادرة البلاد بعد شهور من واقعة الإغتيال". ومعنى ذلك: أن اليازغي يوجه اتهاما مباشرا لا لبس فيه، وعلى مرأى ومسمع من المواطنين المغاربة، إلى رمز وطني كبير، الدكتور عبد الكريم الخطيب، المقاوم والقائد المؤسس لجيش التحرير المغربي ، والشخصية السياسية التي طبعت بحضورها السياسي والنضالي ، صفحة المغرب الحديث ، في كل أطواره ، اتهاما مباشرا له ، بأنه قدم الحماية لشخص ضالع في جريمة قتل ، ليست كأي جريمة قتل ، إنها جريمة اغتيال عمر، الرجل الوطني الفذ، الذي لازالت أرحام الأمهات المغربيات لم تنجب مثيله. ليس هذا فحسب، بل إن تصريح اليازغي، ذهب إلى جعل سلطة الدكتور الخطيب في حماية النعماني، سلطة تعلو على القانون، وعلى المؤسسات قضائية وأمنية، بل إنها – وحسب تصريح اليازغي - اعتلت حتى على إرادة ملك البلاد الحسن الثاني، وشرفه وسلطته. على أن كلام اليازغي، يجعل عقولنا ترزح تحت أطنان من البلادة، لكي نتصور أن عبد العزيز النعماني اعتقل، حسب ما أخبر به الزعيم عبد الرحيم بوعبيد من طرف الملك، وأن نتصور بعد ذلك أن الملك الحسن الثاني سلم عبد العزيز النعماني للدكتور الخطيب لإخفائه وحمايته ، وتمكين مغادرته للبلاد. وإذا صدقنا هذا الكلام الخطير، وتحملت عقولنا أطنانا أخرى من البلادة، فإن الدولة المغربية تصبح - حسب ذلك التصريح - محط اتهام ، بمؤسساتها العليا ، لأن مجرما قاتلا مفترضا لرمز وطني سياسي كبير، وضعت عليه الأجهزة الأمنية و القضائية للدولة يدها، واعتقلته ، ثم بعد ذلك ، أصبح هذا المجرم القاتل المفترض بين يدي الدكتور الخطيب ليحميه ويأويه، وينقله خارج البلاد في أمن وأمان، وحسب هذا الكلام الخطير أيضا ، فإن دم عمر بن جلون قد تفرق بين أطراف عديدة، بين القتلة المخططين، والقتلة المنفذين، وأجهزة الدولة التي اعتقلت النعماني ، ثم سلمته لمن يحميه ، والدكتور الخطيب الذي تسلم النعماني وحماه ، والأستاذ عبد الرحيم بوعبيد الذي صمت على علمه بهذه الفضيحة ، أو تواطأ على الصمت ، وشارك في حماية القتلة وإخفاء معالم الجريمة ! ! !... أن يتحدث عموم الناس بما يشاؤون من الكلام، في البيوت أو في الشوارع والمقاهي والمتكئات، دون احتساب الألفاظ والآثار، أو التحسب من الرقابات، أمر يكاد يكون عاديا، لأن الكلام العشوائي ينهمر من الأفواه ، كما تنهمر السيول من الوديان. ولكن قولا يصدر عن الكاتب الأول الأسبق لحزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وعبر منبر عمومي مرئي ومسموع، ووسيلة إعلامية، من وسائل الإعلام الرسمي، فإن هذا القول يصطبغ بصبغة المسؤولية السياسية والتاريخية، في اتهام علني، لرموز عليا ومؤسسات عظمى في البلاد، وشخصيات وطنية سامية في قيمتها التاريخية : الدكتور عبد الكريم الخطيب والأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، الأول بالحماية ، والثاني بالصمت. وحتى يعلم السيد اليازغي، فإن عبد العزيز النعماني، والذي لا يستطيع لحد الآن أحد، الجزم بموته أو بقائه على قيد الحياة، لم يختف لا في الشرق ولا في الغرب، بل ظل في مدينة الدارالبيضاء، متواريا في بحر دروبها وأحيائها، ويتجول في شوارعها، طيلة سنة 1976، بعد واقعة الإغتيال 18/12/1975، بل إنه وخلال شهر رمضان من تلك السنة، في شهري غشت وشتنبر، كان حضوره للصلاة بالمسجد المحمدي، ومواظبته على الدروس التي كان يلقيها الشيخ أبو بكر الجزائري بعد صلاة العصر، ملفتا للأعين، ومتداولا بين الألسن، وكأنه ضاق ذرعا بالعزلة والاختفاء والمطاردة، ونبذ إسلاميي تلك المرحلة له، وتجنب ملاقاته، فاستسلم للظهور العلني. وإذن فقد كان النعماني في حماية الصمت واللامبالاة التي كانت جاثمة على صدر رفاق عمر وأنصاره، وقيادات حزبه، ففي الوقت الذي كانت الدار البيضاء معقل الاتحاديين وموطن تغلغلهم الجماهيري في كل أحياءها، كان النعماني يتجول في شوارع البيضاء، دون أن يتخوف من انقضاض جماهير الإتحاد عليه ، فقد كان في حماية الصمت والوجوم والذهول والانحناء. وهي الحماية الحقيقية التي استفاد منها النعماني وتدثر بغطاءها ، إلى أن انتقل مهاجرا سريا إلى فرنسا ، يرتاد شوارع باريس، ومحطاتها، ويعتمر مسجدها، بل ويحضر حتى تظاهرات طلاب جامعاتها ، التي كان يتصدرها أحيانا مناضلو الإتحاد الاشتراكي ، الذين كان يوزع عليهم منشورات وبيانات حركة المجاهدين المغاربة التي أسسها في فرنسا. والذين يعرفون الدكتور الخطيب، والسيد اليازغي - الذي اتهمه ببرودة دم ودون رفرفة جفن - واحد منهم ، يعرفون أن الرجل يملك من الشجاعة والشرف ، ما يربأ به عن نفسه أن يقع في سقطة الأعمال القذرة التي تصورها خيال السيد اليازغي. فالرجل الذي انخرط في قيادة المقاومة ، وقيادة جيش التحرير المغربي ، بشجاعة وشرف ، وواجه أعتى القرارات السياسية الحاكمة في مغرب الاستقلال ، بأعتى المواقف ، ليس من طينة من يتلوثون بدماء الأبطال من أمثال عمر، الذي ناضل ضد الطغيان بشجاعة وشرف، فالشرفاء الشجعان ، قد يختلفون بينهم في عالم الأفكار ، ولكنهم يحفظون لبعضهم أقدارهم وحرماتهم وقداسة حياتهم. والدكتور الخطيب ليس من الذين يختفون وراء أصابعهم ، وقد كانت له الشجاعة في أن يقف موقف المساند الإنساني والحقوقي ، في تكليف محامين أجانب للدفاع عن المتورطين في الجريمة بعدما أضرب محامو المغرب عن خدمة الدفاع في حقهم ، وقد كانت له الشجاعة أيضا في أن يعلن عن ذلك ، لكونه كان يعتقد الإعتقاد الصميم في أن المتورطين في الجريمة لم يكونوا سوى فتية بؤساء ، هم أنفسهم ضحايا المؤامرات الكبرى، التي لازالت أظافرها تتوارى محتجبة في ظلام التاريخ ، فيما لم يكن هؤلاء المتورطون سوى الظفر البئيس والوحيد الذي ضبط عالقا وظاهرا على جسد عمر ، حين تضرج بالدماء ، ولم يكن هذا الظفر سوى تلك الآلة غير الواعية في تنفيذ الجريمة ، في ذلك الفعل الذي انجر لاقترافه أولئك البؤساء ، الذين تعسوا بانطفاء وهج أعمارهم في السجون والعذابات ، والذين كانوا هم أيضا ضحايا مستدرجين لتلك المؤامرة. وقد مضت عقود دون أن يتكلف من يدعي الوفاء لعمر، بجمع تراثه الممتد في خطاباته وكلماته وتوجيهاته، ووثائق الحزب التي عكف على تحريرها ببنانه ويراعه، بما شكل مفاخر ومآثر في الأدب السياسي، والرؤية التنظيمية لحزب الإتحاد، أفبعد هذا الاغتيال الأبدي يبقى هناك مصداقية للحديث عن الاغتيال الجسدي، حينما تصبح الأجيال الراهنة للبلاد التي ولدت بعد 1975، لا تلوي على فكرة واحدة حول المسار النضالي أو التراثي الثقافي السياسي للشهيد عمر بن جلون ؟.